ماركو كارنيلوس
ترجمة وتحرير نجاح خاطر
في عموده الأخير بصحيفة نيويورك تايمز، قدّم بن رودس، أحد أهم مستشاري الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما، تشريحاً قاسياً ومتأخراً لطريقة تعامل الحزب الديمقراطي مع مأساة غزة، ومع ملف الصراع الفلسطيني مع الاحتلال خلال العقد الماضي.
لم يكتف رودس بانتقاد الأخطاء، بل كشف حجم الفشل الذي ميّز مقاربة الإدارة الأمريكية بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023.
أطلق رودس على نهج إدارة بايدن اسم “استراتيجية احتضان بيبي”، في إشارة إلى رئيس وزراء دولة الاحتلال بنيامين نتنياهو، الذي افترض البيت الأبيض أن إغراقه بالدعم غير المشروط سيمنح واشنطن قدرة أكبر على التأثير في قراراته، لكن، وكما لاحظ رودس، لم يكن هناك افتراض أبعد من ذلك عن الصواب.
ذلك أن نتنياهو، صاحب التاريخ الطويل في خداع المؤسسات الأمريكية، تمكّن مجدداً من الالتفاف على إدارة بايدن، فحصد منها كل ما يريد دون أن يقدّم أدنى تنازل، وهكذا تبخّر الحديث عن “النفوذ الأمريكي”، وغاب تماماً في غزة، حيث تواصلت الحرب بلا كابح.
فمثلاً، خلال الأشهر الخمسة عشر الأخيرة من ولاية بايدن، حصلت دولة الاحتلال على مليارات الدولارات من الأسلحة الأمريكية، لتُستخدم بلا تمييز ضد المدنيين الفلسطينيين.
وفي الوقت نفسه، استخدمت واشنطن الفيتو في مجلس الأمن لحماية دولة الاحتلال من قرارات تطالب بوقف إطلاق النار، بينما هاجمت الولايات المتحدة وتل أبيب المحكمة الجنائية الدولية عندما سعت لفتح ملفات بحق نتنياهو ووزير دفاعه السابق.
كان المشهد الأمريكي محاطاً بتناقض فجّ: ازدواجية معايير صارخة مقارنة بموقف واشنطن من الحرب الروسية على أوكرانيا.
لقد كبّد هذا التناقض إدارة بايدن وحزبه خسائر أخلاقية وسياسية فادحة، وأدخل الديمقراطيين في دائرة الاتهام بالنفاق، فبينما يتحدثون عن “نظام عالمي قائم على القواعد”، يلوذون بالصمت حين تخرق دولة الاحتلال تلك القواعد بوقاحة في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
لقد دفع الحزب ثمناً باهظاً، خصوصاً بين الناخبين الشباب الذين لم يعودوا يتسامحون مع تبرير العنف أو التغطية على جرائم الحرب.
ومع ذلك، ظلّ الخطاب الديمقراطي متشبثاً بنفس الروايات البالية التي ترددها جماعات الضغط المؤيدة لدولة الاحتلال، وعلى رأسها “آيباك” والتي مفادها أن دولة الاحتلال “الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط”، و”حقها في الدفاع عن النفس”، وضرورة “إصلاح السلطة الفلسطينية قبل أن تصبح شريكاً للسلام”.
لكن هذه المقولات أصبحت أقل قابلية للإقناع، بل إنها تبدو اليوم كقناع يخفي واقعاً أكثر قتامة، فكون دولة الاحتلال ديمقراطية، إن صَحّ هذا الوصف، لا يبرّر جرائمها، بل يجعل هذه الجرائم أكثر فداحة، لأنه من المفترض أن تلتزم الدول الديمقراطية بالقانون الدولي لا أن تنتهكه.
أما الحديث عن “حق الدفاع عن النفس”، فهو يتجاهل حقيقة أساسية مفادها أن قوة الاحتلال لا يمكنها الادعاء بأنها تدافع عن نفسها ضد شعب خاضع لسيطرتها.
فمنذ 2005، ورغم الانسحاب من داخل غزة، لا تزال دولة الاحتلال تتحكم بحدود القطاع البرية والبحرية والجوية، ولا يُقدم الجانب المصري على خطوة في رفح دون ضوء أخضر منها، وهذا يجعل الاحتلال قائماً بكل المقاييس القانونية.
أما “إصلاح السلطة الفلسطينية”، فهو مصطلح غامض يخفي صراعاً على المعنى، نعم، تحتاج السلطة إلى معالجة الفساد وتحسين الإدارة، ولكن الإصلاح الحقيقي لا يمكن أن يتحقق إلا حين تتوقف القيادة الفلسطينية عن التعاون الأمني الذي يمكّن الاحتلال من إحكام قبضته على الضفة الغربية.
وإذا كان المطلوب من السلطة أن تصبح أكثر فعالية في خدمة منظومة الاحتلال، فإن هذا “إصلاح” مرفوض شعبياً وسياسياً.
يذكّر رودس بأن آخر ما يريده نتنياهو وحكومته اليمينية هو سلطة فلسطينية موحدة وقوية، والدليل على ذلك إصراره على إبقاء مروان البرغوثي، الشخصية الفلسطينية الأكثر قدرة على توحيد الصف الوطني، خلف القضبان.
ويمتد انتقاد رودس أيضاً نحو أوروبا، إذ يرى أن قادة الاتحاد الأوروبي وقعوا في الفخ ذاته، فخ ترديد الروايات الأميركية والإسرائيلية وتجاهل الانحدار الأخلاقي الذي أوقعوا أنفسهم فيه بفعل عجزهم عن اتخاذ أي خطوة جدية لوقف جرائم الاحتلال في الضفة وغزة.
ويذكّر رودس بأن الديمقراطيين، منذ عهد ترامب، خُدروا بسحر “اتفاقات أبراهام”، رغم وضوح آثارها الكارثية على الحقوق الفلسطينية، ورغم أنها لم تكن سوى محاولة هندسة شرق أوسط يتجاوز الفلسطينيين تماماً.
فقد حاول الديمقراطيون لاحقاً اعتماد الاتفاقات ذاتها، مكتفين بتعديل خطابهم دون تغيير جذري للسياسات.
الأكثر خطورة، كما يروي رودس، أن محاولاته لضمان إدراج كلمة “الاحتلال” في برنامج بايدن الانتخابي لعام 2020 باءت بالفشل.
كما فشلت محاولات تضمين أي تعهد بوقف الدعم العسكري لدولة الاحتلال في حال ضمّها أجزاء من الضفة الغربية، وقد لخّص الأمر بقوله: “لم يكن الديمقراطيون مستعدين لمعارضة سياسات إسرائيل حتى عندما تعارضت مع مبادئ ديمقراطية راسخة داخل الحزب”.
بعد السابع من أكتوبر، تفاقمت الأزمة، فبدلاً من أن تتعلّم واشنطن من أخطاء ما بعد 11 سبتمبر، انكشفت مجدداً أمام منطق الانتقام الإسرائيلي، وعادت لتتماهى معه.
وهكذا وجد الديمقراطيون أنفسهم عالقين بين روايات لا تعكس الواقع وقاعدة شعبية لم تعد تقبل تجميل الحرب أو تبريرها.
وتُظهر استطلاعات الرأي اليوم أن ثلث الديمقراطيين فقط ينظرون إلى دولة الاحتلال نظرة إيجابية، مقارنة بـ73% عام 2014، بينما يعتقد 77% أن ما يجري في غزة هو إبادة جماعية.
وعليه، يقدّم رودس وصفته الواضحة: وقف المساعدات العسكرية لحكومة ترتكب جرائم حرب، دعم المحكمة الجنائية الدولية سواء طالت بوتين أو نتنياهو، رفض أي مشروع للضم أو التهجير، الاستثمار في قيادة فلسطينية بديلة قادرة على إدارة دولة مستقبلية، والدفاع عن الديمقراطية سواء في الولايات المتحدة أو داخل دولة الاحتلال.
ورغم أن مثل هذا الكلام لو صدر عن أوباما نفسه لكان أثره مضاعفاً، إلا أن صدى تصريحاته يتردد اليوم داخل الحزب، فقد قدمت النائبة رشيدة طليب مشروع قرار للاعتراف بإبادة غزة، ووقّعه معها 21 نائباً ديمقراطياً، أي نحو 10% من كتلة الحزب.
أما النائب رو خانا، فصرّح بأن لجنة الأمم المتحدة “تؤكد وقوع إبادة”، داعياً لوقف مبيعات السلاح إلى الاحتلال والاعتراف بدولة فلسطينية.
وفي الوقت نفسه، بدأ نفوذ “آيباك” يتراجع تدريجياً، بعد أن أصبح اسمها عبئاً سياسياً داخل الحزب، وبات بعض النواب يرفضون تبرعاتها بشكل صريح.
وتبقى الأسئلة مفتوحة حول كيفية تأثير هذه التحولات داخل الحزب الديمقراطي على الانتخابات النصفية وعلى سباق 2028، لكن الخلاصة التي يكررها رودس تبدو اليوم أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى، “أحياناً، لكي تربح، عليك أن تُظهر أنك مستعد للخسارة من أجل المبادئ”.
ضياع البوصلة
يمضي بن رودس في تفكيك الخطاب السياسي للحزب الديمقراطي، كاشفاً عن فجوة آخذة في الاتساع بين القيادة والقاعدة الشعبية.
فبينما تتمسك القيادات بخطاب قديم فقد صلاحيته، يظهر الناخبون خصوصاً الشباب والأقليات وعياً سياسياً جديداً، متحرراً من أطر الحرب الباردة ومن تأثير جماعات الضغط التقليدية التي لطالما صاغت السياسة الأمريكية تجاه الشرق الأوسط.
في هذا السياق، تبدو مواقف الديمقراطيين المتعاطفين مع دولة الاحتلال وكأنها تعيش خارج الزمن السياسي.
ذلك أن الإدارة الأمريكية، كما يشير رودس، بدت عاجزة عن إدراك أن جيل الناخبين الجديد لم يعد يقبل روايات “الديمقراطية الوحيدة في المنطقة”، ولا يفصل بين خطاب حقوق الإنسان على الساحة الدولية وبين دعم غير مشروط لدولة احتلال تمارس نظاماً استعمارياً استيطانياً على مدى عقود.
ويصف رودس حالة الحزب الديمقراطي بأنها “توهان كامل عن الواقع”، فبينما الأعمال الوحشية في غزة كانت تُبث على مدار الساعة، ظلّ البيت الأبيض وقيادات الحزب يكررون ذات العبارات الإنشائية التي فقدت أي معنى مثل الدعوة إلى الحدّ من سقوط المدنيين، التشديد على حقّ دولة الاحتلال في الدفاع عن نفسها، والحديث عن مستقبل “حل الدولتين” الذي فقد أي إمكانية عملية للتحقق في ظل سياسات التوسع والضم.
ويرى رودس أن الديمقراطيين باتوا محاصرين بين سردية سياسية متكلسة وبين قاعدة جماهيرية تشهد تحولاً جذرياً في مواقفها.
ذلك أن التصويت الاحتجاجي في بعض الولايات ضد بايدن، وارتفاع الأصوات المطالبة بوقف الدعم العسكري لدولة الاحتلال، كلها دلائل على أنّ الحزب يسير نحو أزمة داخلية عميقة إن لم يواجه حقيقة أن زمن تكرار الخطاب القديم قد انتهى.
ومن بين أكثر النقاط قوة في مقالة رودس، تحليله للعلاقة المختلة بين الديمقراطيين و”آيباك”، إذ يذكّر بأن هذا اللوبي أنفق عشرات الملايين لمهاجمة سياسات الرئيس بايدن نفسه خلال السنوات الأخيرة، رغم كونه من أكثر الإدارات قرباً لمواقف دولة الاحتلال.
ويشير إلى أن بعض النواب الديمقراطيين وجدوا أنفسهم في موقع سياسي عبثي عبر طلب دعم هيئات تضرب جهود الحزب في تحقيق حل سياسي عادل.
هذا الوعي المتأخر بدأ يُنتج موجات رفض داخل الحزب، فقد بات بعض النواب يعلنون صراحة أنهم لن يقبلوا تمويلاً من “آيباك”، إدراكاً منهم أن قربهم منها سيصبح عبئاً انتخابياً، وهنا يسجل رودس لحظة تحوّل مهمة عن يقظة سياسية داخل الحزب كانت قبل سنوات قليلة غير قابلة للتصور.
ثم ينتقل رودس إلى مناقشة الارتباك الديمقراطي في التعامل مع اتفاقات أبراهام، التي انطلقت في عهد ترامب.
فقد انجذب الديمقراطيون إلى فكرة تطبيع إقليمي واسع، دون النظر إلى كلفة هذا المسار على الحقوق الفلسطينية، وهنا يستحضر رودس كيف سعت إدارة بايدن في بداية عهدها إلى تعزيز الاتفاقات بدل مراجعتها أخلاقياً وسياسياً، وكأن التطبيع قادر على تجاوز واقع الاحتلال بدلاً من إنهائه.
ويشير رودس إلى أن هذا الانبهار بالتطبيع شتّت بوصلة الحزب، لأن ما جرى فعلياً هو تهميش كامل للفلسطينيين، وتحويل قضيتهم من مركز الصراع إلى ملف جانبي يمكن تجاهله أو تأجيله.
غير أن حرب غزة أعادت القضية الفلسطينية إلى مركز المشهد العالمي، مكشوفة من جديد أمام جمهور أمريكي وعالمي لم يعد قابلاً للخضوع للتلاعب الخطابي.
ومع تصاعد الإدانات الحقوقية الدولية، وجد الديمقراطيون أنفسهم في حالة من “فصام سياسي”، يدافعون في العلن عن منظومة القانون الدولي بينما يقفون فعلياً ضد تطبيقها عندما تمس حليفهم التقليدي في الشرق الأوسط، وهذا ما دفع رودس لتوصيف اللحظة الحالية بأنها أزمة أخلاقية قبل أن تكون سياسية.
ويذهب رودس أبعد من ذلك، مؤكداً أن ما جرى بعد السابع من أكتوبر كشف أن الحزب لم يكن مستعداً لتحدي دولة الاحتلال أو مواجهة نفوذ اللوبيات المؤيدة لها، حتى عندما تتعارض سياساتها مع مبادئ أمريكية معلنة حول الديمقراطية وحقوق الإنسان.
وذكّر رودس بأن إدارة بايدن حاولت كبح جماح الانتقام الإسرائيلي في الأيام الأولى، لكنها سرعان ما انصاعت لمعادلة القوة التقليدية التي تحكم العلاقة بين واشنطن ودولة الاحتلال.
ويرى رودس أن العناصر الأكثر وعياً داخل الحزب باتت تدرك اليوم أن الاستمرار في السير على النهج ذاته سيكلف الديمقراطيين ثمناً باهظاً في الانتخابات المقبلة، وربما يفجر صراعاً داخلياً حول الهوية الأخلاقية للحزب.
ويبدو هذا واضحاً في تصريحات نواب مثل رو خانا ورشيدة طليب، وفي زيادة عدد الموقعين على مبادرات تطالب بالاعتراف بالإبادة في غزة أو بوقف تسليح دولة الاحتلال.
ويؤكد رودس أن التراجع في شعبية دولة الاحتلال داخل الحزب الديمقراطي ليس عابراً، بل هو تحوّل بنيوي يعكس وعياً عالمياً جديداً تجاه منظومات الظلم الاستعماري.
فمشاهد الدمار والقتل والتجويع والتهجير في غزة أصبحت جزءاً من الذاكرة الأخلاقية لجيل كامل، ولا يمكن لأي خطاب سياسي تقليدي محوها.
ويختتم رودس مقاله برسالة تبدو موجهة لقيادات الحزب أكثر من غيرهم، ومفادها أن إعادة بناء الثقة مع الناخبين تتطلب جرأة أخلاقية قبل الحسابات الانتخابية، فالحزب الذي يخشى خسارة الدعم المالي أو السياسي بلغة المبادئ، هو حزب يفقد مبرر وجوده، “أحياناً، لكي تفوز، يجب أن تظهر استعدادك للخسارة من أجل المبادئ”.
إنها خلاصة تختصر مأزق الحزب الديمقراطي اليوم: التوفيق بين خطاب أخلاقي يدّعي الدفاع عن العدالة، وسياسات تدعم بلا تردد آلة حرب تفتك بشعب أعزل.
وبقدر ما يبدو المستقبل مفتوحاً على احتمالات كثيرة، يبقى المؤكد أن حرب غزة كسرت جدار الصمت، ودشنت مرحلة أمريكية جديدة لا مكان فيها لاستراتيجيات “احتضان نتنياهو” التي حكمت واشنطن لعقود.
للاطلاع على المقال الأصلي من (هنا)







