بقلم معين رباني
ترجمة وتحرير نجاح خاطر
في الغرب، يواجه من ينكر المحرقة النازية جريمة يُعاقب عليها القانون، بينما يُعاقَب من يجرؤ على تسمية الإبادة الجارية في غزة باسمها الحقيقي.
وبينما أُخرج إنكار المحرقة من دائرة النقاش المشروع وأُلصق بزمرة من المتطرفين والهامشيين، بات إنكار إبادة غزة سياسة رسمية تُسوَّق عالميًا وتُضفى عليها شرعية إعلامية.
ويعد إنكار المحرقة جريمة في عدد من الدول الغربية، ولا يجرؤ أي صحفي يحترم مهنته على التعامل معه كوجهة نظر مشروعة.
كما لا ترى أي مؤسسة إعلامية معتبرة أن الحياد يقتضي إفساح المجال لمنكري المحرقة، أو أن عليها أن تبدأ وتنهي كل نقاش عن جرائم النازية ضد يهود أوروبا بعبارة “ألمانيا تقول”.
أما إنكار إبادة غزة فهو على النقيض تمامًا، إنها حملة منظمة عالميًا، تموّلها وتروّج لها دولة الاحتلال نفسها، الجهة المرتكبة للجريمة.
ويجد هذا الإنكار رعاة له بين حكومات ومسؤولين منتخبين ودوائر ضغط نافذة ومنظمات مؤثرة، تُضخ رسائلها عبر شبكة دولية تضم نظريات مؤامرة، ومتعصبين أيديولوجيين، وأقلامًا مأجورة.
وبدلاً من أن تقوم وسائل الإعلام الكبرى بدحض هذا الإنكار للإبادة في غزة، تمنحه منصّة كاملة، وتقدمه كـ”وجهة نظر” جديرة بالتغطية المتساوية، بل إنها كثيرًا ما تنقل رواية دولة الاحتلال لجمهورها على أنها شرط من شروط المهنية.
وقد تجلت هذع الظاهرة بوضوح في ما يُعرف بـ “هوس” هيئة الإذاعة البريطانية (BBC) بتكرار عبارة “تقول دولة الاحتلال”.
قمع الأصوات المعارضة
ولا يتوقف الأمر عند حدود تبييض إنكار الإبادة، بل يصل إلى حد تجريم الموقف المعارض لها،،ففي الدول ذاتها التي جرّمت إنكار المحرقة، يجري اليوم ملاحقة وتجريم من يرفضون إنكار إبادة غزة.
فقد طُرد موظفون من أعمالهم، وخسر آخرون مشاريعهم وفرصهم التعليمية والمهنية، بل سُجن بعضهم لمجرد رفع الصوت ضد الجريمة الجارية.
والمفارقة أن هذا القمع يحدث في وقت ترتكب فيه إبادة غزة على مرأى العالم، أي في اللحظة التي يكون فيها حضور الصوت المعارض أكثر إلحاحًا للتأثير في الحكومات التي تلزمها اتفاقية منع جريمة الإبادة لعام 1948 لا عبر معاقبة مرتكبيها فحسب بل أيضًا بمنع وقوعها.
الإنكار كسياسة رسمية
ومن المفارقات أيضًا أن أحد أبرز المحرضين على ملاحقة الأصوات المعارضة للإبادة هو جوناثان غرينبلات، رئيس رابطة “مناهضة التشهير” اليمينية المتطرفة والمعادية للفلسطينيين.
ففي مقابلة حديثة مع نيويورك تايمز، زعم غرينبلات أنه “غير مطّلع على التعريف القانوني لجريمة الإبادة”، في خطوة تُظهر أن أسهل طريق لإنكار جريمة ما هو التظاهر بالجهل بها.
لكن النقاش تجاوز حدود الأشخاص، ليطرح تساؤلات أوسع: هل يجوز أصلاً وصف ما يجري في غزة بالإبادة ما دام محكمة العدل الدولية لم تصدر بعد حكمها النهائي؟
الحقيقة أن المحكمة لم تنطق بالحكم حتى الآن، ومن غير المتوقع أن تفعل ذلك قبل سنتين أو ثلاث على الأقل، لكن كل المنظمات الحقوقية الرائدة فلسطينية ودولية بل وحتى إسرائيلية قد خلصت بالفعل إلى أن ما ترتكبه دولة الاحتلال في غزة هو إبادة جماعية مكتملة الأركان.
كما أن توافقًا متناميًا بين أبرز الباحثين في مجالي دراسات المحرقة والإبادة وبينهم أسماء تُعد مرجعًا عالميًا وصل إلى النتيجة ذاتها.
الأحدث كان في 31 أغسطس/آب، حين تبنّت الجمعية الدولية لعلماء الإبادة الجماعية (IAGS) قرارًا يعلن أن سياسات دولة الاحتلال في غزة “تنطبق عليها التعريفات القانونية للإبادة الجماعية وفق المادة الثانية من اتفاقية الأمم المتحدة لعام 1948 لمنع جريمة الإبادة والمعاقبة عليها”.
وبالطبع، استشاطت ماكينة الدعاية الإسرائيلية التي يصفها الكاتب ساخرًا بـ “أوركسترا الهاسبرا” غضبًا، وراحت تطلق مزاعم واهية عن خلل في الإجراءات أو المشاركة.
لكن الحقيقة أن الجمعية التزمت أقصى درجات الدقة، إذ وصف رئيس لجنة القرارات فيها العملية بأنها “واحدة من أكثر العمليات سلاسة، نظرًا لكثرة تقارير الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية التي دعمت هذا الاستنتاج”.
دول تصفها بالإبادة
وعلى الصعيد الرسمي، لم تعد المسألة مقتصرة على منظمات المجتمع المدني أو الباحثين، بل أخذت حكومات عديدة بينها دول موقعة على اتفاقية منع جريمة الإبادة لعام 1948 تصف علنًا ما تقوم به دولة الاحتلال في غزة بأنه إبادة جماعية.
ومن بين هذه الدول: جنوب أفريقيا، البرازيل، ناميبيا، بوليفيا، إسبانيا، الأردن وتركيا.
أما محكمة العدل الدولية فقد أصدرت بالفعل عدة أوامر لدولة الاحتلال بوقف سياسات وإجراءات محددة، مطالبة إياها باتخاذ تدابير عاجلة للتأكد من أنها لا تنتهك التزاماتها بموجب الاتفاقية الدولية لمناهضة الإبادة.
لكن دولة الاحتلال تجاهلت هذه الأوامر ورفضتها رفضًا قاطعًا، ولم تنفذ حتى واحدًا منها.
وبات من شبه المؤكد أن المحكمة، عندما تصدر حكمها النهائي، ستخلص إما إلى أن حملة الاحتلال برمتها تشكل إبادة جماعية، أو أن أفعالًا وسياسات محددة ضمن هذه الحملة ينطبق عليها تعريف الإبادة وفق الاتفاقية.
أقوى قضية أمام المحكمة
في هذا السياق، قال البروفيسور ويليام شاباس أحد أبرز الخبراء الدوليين في مجال الإبادة في مقابلة بتاريخ 30 أغسطس/آب مع “المركز الأوروبي لدراسات الشعبوية”، إن الدعوى التي رفعتها جنوب أفريقيا أمام المحكمة هي “ربما أقوى قضية إبادة جرى رفعها على الإطلاق”.
وحذّر شاباس من أن الولايات المتحدة وألمانيا التي ارتكبت في السابق إبادة جماعية طالت عائلته شخصيًا إلى جانب دول غربية أخرى، تواجه خطر التورط القانوني باعتبارها “شركاء في جريمة الإبادة”.
وانطلاقًا من هذه الحقائق، يرى الكاتب أن وصف ما يجري في غزة بـ “الإبادة” أمر مشروع وضروري، بينما احتمال أن تصدر المحكمة حكمًا يُبرّئ دولة الاحتلال يُعتبر شبه معدوم.
تسمية الجريمة باسمها
صحيح أن قرار المحكمة سيكون المرجع القانوني الأعلى، لكن الخطأ الفادح هو تجاهل الإجماع الواسع بين الخبراء والمنظمات فقط لأنه يسبق حكم المحكمة، خصوصًا أن اتفاقية الإبادة لا تفرض على الدول مجرد معاقبة الجناة، بل تُلزمها أولًا وأساسًا بـ منع وقوع الجريمة.
أما أولئك الذين يزعمون أنهم ينتظرون الحكم القضائي بحجة أن “الإجماع قد يخطئ”، فهم أنفسهم الذين سيتذرعون بعد صدور الحكم بأن “أحكام المحاكم ليست معصومة من الخطأ”.
والتاريخ مليء بأمثلة على إبادة لم تصدر بشأنها أحكام قضائية قط مثل الإبادة الأرمنية، والإبادة ضد الروهينغا، على سبيل المثال.
ولنتذكر أن العالم وصف ما جرى في رواندا أو ضد الإيزيديين بأنه “إبادة” قبل صدور أي قرار قضائي، ومن يلمّح أن ذلك كان يجب منعه حتى يصدر الحكم، يُنظر إليه اليوم باستخفاف.
الإبادة جريمة ظاهرة للعيان
لا شك أن “الإبادة” مصطلح قانوني، لكن كما هو الحال مع الجرائم الكبرى التي “تفقأ العين”، فإن من المشروع تمامًا تسميتها باسمها قبل اكتمال المسار القضائي.
وقد بات ذلك يتحول إلى قاعدة متزايدة الانتشار، خصوصًا مع الممارسات الأخيرة لدولة الاحتلال التي بلغت درجة من البشاعة دفعت وسائل إعلامها و”أتباعها” إلى تبرير موت أطفال غزة جوعًا عبر التدقيق في “أمراض سابقة” ربما كانوا يعانون منها قبل أن يفتك بهم الحصار.
وفي مواجهة هذا الواقع، يصبح إنكار إبادة غزة ليس مجرد خطأ سياسي أو تحيز إعلامي، بل جريمة إنسانية كبرى تُضاف إلى سجل التواطؤ الغربي مع دولة الاحتلال في لحظة تاريخية يتوقف فيها مصير مئات آلاف البشر على قدرة العالم على تسمية الجريمة باسمها.
للاطلاع على المقال الأصلي من (هنا)