بقلم ماركو كارنيلوس
ترجمة وتحرير نجاح خاطر
“نكتب للتعبير عن فزعنا وخيبة أملنا إزاء استحضار القادة السياسيين والشخصيات العامة البارزة ذكرى المحرقة لشرح الأزمة الحالية في غزة وإسرائيل”.
هكذا تبدأ رسالة مفتوحة نشرتها مؤخراً مجموعة متميزة من الباحثين في شؤون المحرقة ومعاداة السامية، إذ يتمثل مصدر قلقها الرئيسي في حقيقة أن استحضار ذكرى المحرقة يخلق مخاطرة بحجب الفهم الصحيح لمعاداة السامية وتشويه أسباب العنف في إسرائيل وفلسطين بشكل خطير.
ويستشهد الباحثون بالعديد من التصريحات والأفعال الإشكالية الصادرة عن مسؤولين إسرائيليين وأوروبيين وأمريكيين في سياق العدوان الإسرائيلي المستمر على غزة في أعقاب الهجوم الذي قادته حماس في 7 تشرين الأول/ أكتوبر.
أثناء مخاطبته مجلس الأمن الدولي، كان السفير الإسرائيلي لدى الأمم المتحدة يرتدي نجمة صفراء تحمل عبارة “ليس مجدداً”، وقال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إن “حماس هي النازية الجديدة”، واصفاً الحرب على غزة بأنها معركة من أجل الحضارة الغربية في مواجهة الهمجية، فيما أشار الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى أن حماس “انخرطت في أعمال همجية لا تقل خطورة عن المحرقة”.
ومن اللافت كيف يتبع زعماء الغرب نفس الخطاب، إلى حد التلفظ بسخافات صارخة، كمقارنة إسرائيل بأوكرانيا في حين أن فلسطين هي التي احتلتها إسرائيل لأكثر من نصف قرن، وهي التي ينبغي أن تتم مساواتها بأوكرانيا.
تتذرع إسرائيل بالمحرقة لتبرير ما لا يمكن وصفه إلا بالعقاب جماعي لسكان غزة، وقد روجت كل قيادتها السياسية تقريباً لسردية غير عقلانية وخبيثة، بدءاً بالرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ، الذي قال: ” لا يوجد مدنيون أبرياء في غزة”، بينما لم يتم النطق بكلمة إدانة واحدة لمثل هذه التصريحات الشنيعة من قبل هؤلاء القادة الغربيين الذين يؤيدون بفخر ما يسمى بنظام عالمي قائم على القانون.
مناخ سياسي “مسموم”
وكما كان متوقعًا، فقد اعترضت مجموعة أخرى من الباحثين البارزين على ورود مواضيع مثل ألمانيا النازية والمحرقة وإسرائيل ومعاداة السامية ضمن الرسالة المفتوحة، لكنه كان ردًا ضعيفًا لا يبدو أنه يستوعب جوهر المخاوف التي أثارها العلماء.
تمثل المحنة الأخيرة التي عاشتها الصحفية ماشا جيسن بسبب حديثها الداعم للفلسطينيين مثالاً درامياً صارخاً على المناخ السياسي المسموم في أوروبا
فوسط ارتفاع عدد الضحايا، ومعظمهم من النساء والأطفال، جاء هذا الانتقاد الغامض “لقرارات إسرائيل السيئة”، كأقصى ما يمكن أن تنقله رسالة الاعتراض دون أن تظهر أي تعاطف مع الكارثة الإنسانية المتواصلة في غزة.
وقد ترددت أصداء مثل هذه المواقف في تصرفات وسلوكيات لا تصدق من جانب بعض “الديمقراطيات” الأوروبية، حيث تخضع الاحتجاجات العامة السلمية لدعم الحقوق الفلسطينية والمطالبة بوقف إطلاق النار للرقابة الصارمة، وكثيرًا ما أعاقت السلطات في المملكة المتحدة وفرنسا وخاصة في ألمانيا مثل تلك الاحتجاجات، ومن الصعب التأكد مما إذا كان هذا السلوك ناجماً عن الجهل، أو الكسل، أو الخوف، أو التواطؤ المتعمد مع الحكومة الإسرائيلية.
لقد استغرق الأمر عدة أسابيع قبل أن يدرك جوزيب بوريل، مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، أن “عدداً كبيراً جداً من المدنيين قتلوا في غزة” وأننا “نشهد افتقاراً مروعاً للتمييز في العملية العسكرية الإسرائيلية في غزة”، كما أن الأمر الأكثر إحباطاً هو أن قوة كبرى أخرى في الاتحاد الأوروبي، إيطاليا، لم تصدر مناشدات لإسرائيل لتخفيف العنف إلا بعد أن شجبت البطريركية اللاتينية في القدس قتل المدنيين المسيحيين داخل كاتدرائية العائلة المقدسة في غزة على يد القناصة الإسرائيليين.
قبل وقت طويل من هجوم 7 تشرين الأول/أكتوبر، تحول الخطاب السياسي الأوروبي حول الصراع الإسرائيلي الفلسطيني إلى خطاب مسموم، حيث كانت القارة العجوز تعيش عهداً مكارثياً خاصاً بها، وباتت تقبل الروايات الأمريكية والإسرائيلية المعيبة حول الصراع دون استنكار، وبعبارة لا لبس فيها، فإن مجرد التأكيد على الحقوق الفلسطينية أصبح مرادفاً لمعاداة السامية، وارتكبت حملات تشهير لا تصدق ضد أولئك الذين يطالبون بالعدالة للفلسطينيين.
وتُعَد المحنة التي عاشتها الصحفية والكاتبة الروسية الأميركية ماشا جيسن الأسبوع الماضي مثالاً درامياً لهذا المناخ السياسي المسموم، حيث حصلت جيسن على جائزة حنا أرندت المرموقة للفكر السياسي، لكن الحفل كاد أن يُلغى لأن الجهة المستضيفة للحدث، مؤسسة هاينريش بول، سحبت دعمها بسبب مقال نشرته جيسن قبل أيام في مجلة نيويوركر، بعنوان رمزية “في ظل المحرقة”.
كانت خطيئة الكاتبة التي لا تغتفر هي أنها ساوت الأحياء اليهودية التي كان يحتلها النازيون في أوروبا بوضع الأحياء السكنية حالياً في غزة، ومن المفارقات أن الجائزة كانت تهدف إلى تكريم “الأفراد الذين يحددون الجوانب الحرجة وغير المرئية للأحداث السياسية الحالية والذين لا يخشون دخول المجال العام من خلال تمثيل آرائهم في المناقشات السياسية المثيرة للجدل”.
لقد أصبح المناخ السياسي غريباً جدًا لدرجة أنه، وفقًا لمراقب حاد، فإن “حنا أرندت نفسها لن تكون مؤهلة لجائزة حنا أرندت في ألمانيا اليوم”.
ولمرة واحدة، ساد المنطق السليم أخيرًا، وأُقيم الحفل، حيث ألقت جيسن محاضرة رائعة، أكدت فيها على أهمية المقارنة في التعلم ومعرفة العالم، وركزت على القضية التالية:
“المشروع السياسي هو حدث راهن يشهده الناس في العالم، أمضت حنا أرندت حياتها الفكرية بأكملها في التفكير بما يشكل السياسة، فبالنسبة لها، كانت السياسة مساحة نكتشف فيها كيفية العيش معًا في هذا العالم، ومساحة للحوار والتفكير وخلق إمكانيات جديدة بعد المحرقة، إنها مساحة نكتشف فيها كيفية العيش معًا في هذا العالم دون تكرار المحرقة، إن أحد الهياكل التي ابتكرناها للعمل سياسياً لمنع تكرار المحرقة، هو القانون الإنساني الدولي وخاصة القوانين المتعلقة بحماية المدنيين، وهو أيضًا إطار الفقه الدولي مثل المحكمة الجنائية الدولية، ومحاكم جرائم الحرب، ومحاكمات الولاية القضائية العالمية، كما أن مفهوم الإبادة الجماعية ظهر أيضًا نتيجة للهولوكوست”.
من المحبط إذن، وهذا أقل ما يمكن قوله، أن القانون الإنساني الدولي، الذي تم تدوينه في أعقاب المحرقة، يتم تجاهله الآن من قبل الجيش الإسرائيلي في غزة والضفة الغربية بشكل علني، ومن السخافة بمكان أن تتهم المحكمة الجنائية الدولية الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالنقل القسري للأطفال من أوكرانيا إلى روسيا، في حين لم يتم رفع أي شيء ضد إسرائيل، التي لم تجبر فقط الأطفال على النزوح داخل غزة، بل قامت أيضاً بفرض عقوبات عليهم كما قتلت ما لا يقل عن 10000 منهم.
تسليح معاداة السامية
يمثل الاحتجاج على ماشا جيسن جزءاً من مشكلة أوسع ترتبط بتعريف معاداة السامية، والخلط بينها وبين معاداة الصهيونية.
ففي عام 2016، اقترح التحالف الدولي لإحياء ذكرى المحرقة (IHRA) تعريفًا لمعاداة السامية مصحوبًا بـ 11 مثالًا محددًا لهذه الظواهر، سبعة منها مرتبطة بإسرائيل، وبعضها مثير للجدل إلى حد كبير، مثل ” الادعاء بأن وجود دولة إسرائيل هو مسعى عنصري” و”عقد مقارنات بين السياسة الإسرائيلية المعاصرة وسياسة النازيين”.
وعلى الرغم من اعتماده من قبل الولايات المتحدة و27 دولة من دول الاتحاد الأوروبي فقط، ورغم عدم وجود قوة قانونية له، فإن تعريف التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست مؤثر للغاية ويحدد إلى حد ما الخطاب السياسي حول استخدام معاداة السامية في إطار الصراع الإسرائيلي الفلسطيني الحالي، وسيكون من الأصح القول أن تعريفه بات يستخدم كسلاح لقمع الانتقادات المشروعة لبعض السياسات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين.
وفي عام 2020، اقترح بعض الأكاديميين تعريفًا بديلًا يسمى إعلان القدس بشأن معاداة السامية، قدم ذلك التعريف 15 مثالاً على معاداة السامية، يرتبط ما يصل إلى 11 منها بإسرائيل، ومع ذلك، فإن خمسة منها عبارة عن تصريحات تستخدم بشكل متكرر في سياق الصراع الإسرائيلي الفلسطيني والتي تم إدراجها صراحة على أنها ليست معادية للسامية.
الأكثر إثارة للاهتمام في تلك الأمثلة هي:
1) دعم المطلب الفلسطيني بالعدالة ومنح الفلسطينيين حقوقهم السياسية والوطنية والمدنية والإنسانية الكاملة، على النحو المنصوص عليه في القانون الدولي).
2) انتقاد أو معارضة الصهيونية كشكل من أشكال القومية أو الدعوة إلى مجموعة متنوعة من الترتيبات الدستورية لليهود والفلسطينيين في المنطقة الواقعة بين نهر الأردن والبحر الأبيض المتوسط، حيث تمنح هذه الترتيبات المساواة الكاملة لجميع السكان “بين النهر والبحر”).
3) الانتقاد المبني على الأدلة لإسرائيل كدولة، بما في ذلك مؤسساتها ومبادئها التأسيسية وسياساتها وممارساتها، في الداخل والخارج، يشمل ذلك سلوكها في الضفة الغربية وغزة، وليس من معاداة السامية الإشارة إلى التمييز العنصري المنهجي ولا مقارنة إسرائيل بحالات تاريخية أخرى، بما في ذلك الاستعمار الاستيطاني أو الفصل العنصري).
4) المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات، كأشكال شائعة وغير عنيفة من الاحتجاج السياسي ضد الدول، وفي الحالة الإسرائيلية، فإنها ليست في حد ذاتها معاداة للسامية).
5) الانتقاد الموجه إلى إسرائيل الذي قد يراه البعض مفرطا أو مثيرا للجدل، أو يعكس “معايير مزدوجة”، ليس في حد ذاته معاداة للسامية).
إن النضال ضد عودة معاداة السامية المثيرة للقلق هو نضال مشروع ولا ينبغي استخدامه كسلاح لأغراض سياسية، وللحفاظ على قبضة ضعيفة على السلطة، ولحماية إسرائيل من المساءلة عن الأفعال التي تتعارض مع قيمها الديمقراطية المزعومة.
وأخيراً، فإن استحضار المحرقة للمطالبة بالإفلات من العقاب على جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية أمر غير أخلاقي ويهين ذكرى الملايين من اليهود الذين قتلوا في غرف الغاز النازية.
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)