عندما انضمت فلسطين رسمياً إلى المحكمة الجنائية الدولية قبل تسع سنوات، حرص المسؤولون الفلسطينيون على التأكيد أن جني ثمار ذلك يستغرق سنوات.
وقال رياض المالكي، وزير خارجية السلطة الفلسطينية آنذاك: “لا أريد أن أخيب أمل شعبنا، لكن إجراءات المحكمة الجنائية الدولية بطيئة وطويلة وقد تواجه الكثير من العقبات والتحديات وقد تستغرق سنوات”.
ويوم الخميس الماضي، آتت هذه العملية الطويلة المليئة بالعقبات أُكلها حين أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرات اعتقال بحق بنيامين نتنياهو ويواف غالانت.
ويمثل توجيه الاتهامات إلى رئيس وزراء الاحتلال ووزير دفاعه السابق علامة فارقة تاريخية في السعي لتحقيق العدالة للفلسطينيين، لكن اتخاذ القرار بالسير على طريق العدالة القانونية الدولية استغرق وقتاً طويلاً.
وأوضح السفير الفلسطيني لدى المملكة المتحدة حسام زملط أن الخطوات التي اتُخذت للانضمام إلى المحكمة الجنائية الدولية جاءت في أعقاب عدوان الاحتلال الأول على غزة في ديسمبر/كانون الأول 2008 واستمرت ثلاثة أسابيع.
“كنا في احتياج إلى آليات العدالة وآليات الردع، وأفضل طريقة لتحقيق العدالة والردع هي محاسبة مجرمي الحرب، والطريقة التي تحظى بأكبر إجماع دولي لذلك هي المحكمة الجنائية الدولية” – حسام زملط، السفير الفلسطيني في المملكة المتحدة
وفي 21 يناير/كانون الثاني 2009، أي بعد ثلاثة أيام من انتهاء الحرب، قدمت السلطة الفلسطينية طلباً إلى المحكمة الجنائية الدولية إعلاناً لمنح المحكمة الولاية القضائية على الأراضي الفلسطينية المحتلة.
وبموجب المادة 12(3) من نظام روما الأساسي، المعاهدة التي أسست المحكمة الجنائية الدولية، يمكن للدول غير الأعضاء في المحكمة الجنائية الدولية تقديم إعلان يمنح المحكمة الولاية القضائية للتحقيق في الجرائم المرتكبة داخل أراضيها بعد تاريخ محدد.
وقد تبنت أوكرانيا هذا النهج لمعالجة الجرائم الروسية المزعومة.
“إلى من نشكو؟”
وبعد مداولات طويلة، رفضت المحكمة الجنائية الدولية إعلان فلسطين على أساس أن المادة 12(3) من نظام روما الأساسي تنطبق فقط على “الدول”.
لكن الاعتراف بفلسطين كدولة مراقبة غير عضو في الأمم المتحدة بعد تصويت الجمعية العامة في أواخر عام 2012 فتح الباب لتقديم إعلان إلى المحكمة الجنائية الدولية وكذلك للحصول على العضوية الكاملة.
ومن شأن هذا التطور أن يتيح ولأول مرة إمكانية التحقيق مع إسرائيل بتهمة ارتكاب جرائم على الأراضي الفلسطينية، رغم أن تل أبيب لم توقع على نظام روما الأساسي.
وقد مارست دولة الاحتلال والولايات المتحدة ترهيباً صارماً على رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس لثنيه عن التوقيع على النظام الأساسي، وهددتاه بفرض عقوبات قاسية على السلطة في حال فعل ذلك.
ولكن الفلسطينيين اتخذوا قراراً معاكساً بعد انسحاب الاحتلال من مفاوضات السلام التي تدعمها الولايات المتحدة عام 2014، وشنها عدواناً دموياً أسفر عن استشهاد 2310 أشخاص في قطاع غزة.
وقال عباس لمجموعة من القادة الفلسطينيين أثناء جلوسه للتوقيع على نظام روما في ديسمبر/كانون الأول 2014: “إنهم يهاجموننا ويهاجمون أرضنا كل يوم، إلى من نشتكي؟ لقد خذلنا مجلس الأمن، إلى أين نذهب؟”.
وأضاف عباس قبل التوقيع على الوثيقة: “نريد أن نشير إلى المؤسسات الدولية، وهذه هي المؤسسة التي نشير إليها، وسنشتكي هؤلاء إليها”.
حظيت هذه الخطوة بدعم جميع الفصائل السياسية في فلسطين، بما فيها حماس، التي كانت تعلم أنه من المرجح أن يواجه قادتها ومقاومتها تحقيقات من قبل المحكمة الجنائية الدولية في المستقبل.
وبعد أربعة أشهر، أصبحت دولة فلسطين رسمياً العضو رقم 123 في المحكمة الجنائية الدولية
التهديدات الإسرائيلية والأمريكية
وقال زملط: “لقد تحملت منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الفلسطينية وجميع المؤسسات الوطنية تكلفة باهظة بسبب هذا القرار”.
حجبت دولة الاحتلال 400 مليون دولار من عائدات الضرائب الخاصة بالسلطة الفلسطينية في أوائل عام 2015 كعقاب على سعيها إلى العدالة القانونية الدولية.
حتى أن هذا القرار كان له عواقب شخصية على زملط، الذي قاد سابقًا بعثة منظمة التحرير الفلسطينية في الولايات المتحدة.
فقد أوضح الكونغرس أنه سيتم إغلاق مكاتب منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن إذا انضمت إلى المحكمة الجنائية الدولية وصادقت على نظام روما الأساسي.
وتم تنفيذ هذا التهديد فعلاً في عهد إدارة الرئيس دونالد ترامب، ونتيجة لذلك، تم طرد زملط من الولايات المتحدة.
ووصف زملط الولايات المتحدة وحلفاء إسرائيل الآخرين بأنهم تصرفوا “مثل عائلة سوبرانو”، حيث أصدروا تهديدات ليس فقط ضد الفلسطينيين، ولكن أيضًا ضد قضاة المحكمة الجنائية الدولية والمدعين العامين بسبب تحقيقاتهم في انتهاكات إسرائيل.
ولكن سنوات التهديدات لم تمنع المحكمة الجنائية الدولية من القيام بعملها.
“إنها البداية فقط”
وخلال عام 2021، فتحت المحكمة الجنائية الدولية تحقيقًا رسميًا في مزاعم ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية من قبل إسرائيل وحماس منذ يونيو/حزيران 2014.
وقال المدعي العام الرئيسي كريم خان العام الماضي أن لدى المحكمة سلطة قضائية على الجرائم التي ارتكبتها حماس في إسرائيل والإسرائيليون في غزة خلال الحرب الحالية.
وقد بلغت هذه الحملة ذروتها في توجيه الاتهامات إلى الزعيمين الإسرائيليين وثلاثة من قادة حماس، يحيى السنوار وإسماعيل هنية ومحمد ضيف.
لكن هنية، رئيس الجناح السياسي لحماس، استشهد في إيران في 31 يوليو/تموز، واستشهد خليفته السنوار في غزة في أكتوبر/تشرين الأول، وزعمت دولة الاحتلال في أغسطس/آب أنها قتلت الضيف، رغم أن حماس نفت هذا الادعاء.
وبناء على مذكرات المحكمة، فإن جميع الدول الأعضاء في نظام روما الأساسي البالغ عددها 124 دولة ملزمة الآن باعتقال نتنياهو وغالانت وتسليمهما إلى المحكمة الجنائية الدولية.
وكما فعلوا قبل عقد من الزمان عندما وقعت فلسطين على نظام روما الأساسي، هدد المسؤولون الإسرائيليون مرة أخرى باتخاذ إجراءات ضد السلطة الفلسطينية بسبب دورها في مذكرات الاعتقال. ودعا وزير المالية الإسرائيلي اليميني المتطرف، بتسلئيل سموتريتش، إلى “فرض عقوبات مؤلمة على السلطة الفلسطينية وقادتها تقودها إلى حد الانهيار”.
ورد زملط بالقول أن مثل هذه العقوبات تشكل جزءًا من “حرب الإبادة” التي تشنها دولة الاحتلال على الفلسطينيين، والتي تشمل “انهيار نواة دولة فلسطين”. واعتبر زملط صدور مذكرات الاعتقال دليلاً على أن العملية البطيئة والشاقة المتمثلة في السعي إلى العدالة القانونية الدولية تؤتي ثمارها.
وقال زملط: “لقد تنفس الذين عملوا بلا كلل من أجل هذا اليوم الصعداء، كان الجهد هائلاً ومتواصلاً ومتراكمًا”. ورغم ذلك، أكد زملط أن هذه ليست سوى بداية المساءلة عن جرائم الحرب الإسرائيلية ضد الفلسطينيين. وختم بالقول: “هذه المساءلة ستنتهي عندما نرى نتنياهو وغالانت وجميع مجرمي الحرب خلف القضبان بالفعل”.