بقلم هشام جعفر
ترجمة وتحرير مريم الحمد
تحاول إدارة ترامب إعادة تشكيل الشرق الأوسط بعد شن ضربات على إيران من خلال تبني استراتيجية تتسم بـ “السلام من خلال القوة والتجارة وليس الفوضى”.
ورغم تقديم هذا النهج باعتباره عملياً، إلا أنه في الحقيقة يشكل مخاطرة يزعزع استقرار المنطقة لصالح تعظيم الميزة العسكرية والاقتصادية للولايات المتحدة وإسرائيل.
يعتبر الرئيس دونالد ترامب نفسه “صانع صفقات”، معتقداً بأن الضربات العسكرية المحسوبة تخلق نفوذاً لتحقيق مكاسب دبلوماسية وخاصة من خلال الضغط على إيران للعودة إلى طاولة المفاوضات، حيث تؤكد استراتيجيته على القوة العسكرية الساحقة قصيرة المدى لتحقيق أهداف محددة وتجنب التشابكات الطويلة أو “الحروب الأبدية”، بالإضافة إلى أنه يمثل رفضاً لبناء الدولة وتحويل عبء الاستقرار الإقليمي إلى الشركاء المحليين.
ورغم انحدار القيمة الاستراتيجية لموارد الطاقة في الشرق الأوسط بالنسبة للولايات المتحدة، إلا أن المنطقة تظل ذات أهمية بالغة بل ربما أصبحت أكثر أهمية في ظل الإدارة الحالية، فكما ورد في تقرير Med This Week، هناك 3 عوامل أساسية قد ساهمت في تشكيل وتحريك الإجراءات الأمريكية الأخيرة.
العامل الأول يتلخص في التحالف الإيديولوجي بين حكومات اليمين المتطرف في الولايات المتحدة وإسرائيل، والذي يتجاوز “العلاقة الخاصة” التقليدية ويعكس اصطفافاً سياسياً واستراتيجياً أعمق.
تنظر الإدارة الأمريكية أيضاً إلى الهيمنة الإسرائيلية باعتبارها أداة لتحقيق الاستقرار الإقليمي، وتتصور “إسرائيل الكبرى” المهيمنة ــ المدعومة بدعم ساحق من الولايات المتحدة والقادرة على فرض السلام وتهميش إيران من جانب واحد.
وأخيراً، ظهرت المصالح المالية الشخصية وخاصة مصالح ترامب وعائلته بشكل بارز خلال زيارته الأخيرة للخليج، فقد كان الهدف المباشر للحرب التي استمرت 12 يوماً هو تفكيك البنية التحتية النووية الإيرانية ومنعها من الحصول على أسلحة نووية.
أعلن ترامب بأن المواقع الرئيسية “دمرت” أو “أغلقت”، مشيداً بالحملة باعتبارها ضربة حاسمة ضد تهديد وجودي متصور، حيث وجد تقرير حديث للاستخبارات الأمريكية بأن منشأة واحدة فقط من المنشآت النووية الثلاث المستهدفة دمرت بالكامل، ومن المتوقع أن تعود المنشآت الأخرى إلى العمل مرة أخرى في غضون أشهر.
بعض دول الخليج تعيد اليوم تقييم نهجها تجاه إسرائيل، متسائلة عما إذا كانت تصرفاتها تعزز الاستقرار أو تثير المزيد من الصراع
لقد أعادت هذه العمليات العسكرية تشكيل ديناميكيات القوة الإقليمية بشكل كبير، مما دفع الاستراتيجية الإقليمية لإدارة ترامب إلى الأمام، من حيث تطبيع العلاقات بين إسرائيل والدول العربية وخاصة السعودية، وربما يمتد التطبيع إلى عمان وإندونيسيا وقطر وحتى سوريا.
ومع ذلك، فإن هذا السعي لإعادة الاصطفاف يظل مقيداً بالحرب الإسرائيلية المستمرة على غزة، حيث يُنظر إلى وقف إطلاق النار والإفراج عن الرهائن الإسرائيليين على أنهما شرطان أساسيان لدفع عملية التطبيع وتوسيعها.
هل إسرائيل قوة مهيمنة؟
لقد أظهرت الولايات المتحدة استعداداً للتصرف بشكل منفرد وبقوة ساحقة خاصة من خلال استخدام القنابل الخارقة للتحصينات ضد المواقع النووية الإيرانية، فقد تم تصوير ذلك على أنه استعراض للقوة الأمريكية التي لا مثيل لها، والتي لا تستهدف إيران فحسب، بل باعتبارها أيضاً رادعاً للمنافسين مثل الصين وروسيا.
في الوقت نفسه، سعت إسرائيل إلى إبراز نفسها كقوة عسكرية هائلة ذات قدرة استخباراتية عميقة قادرة على الوصول إلى البنية التحتية النووية والأمنية لإيران، بل حتى أن بعض المسؤولين الإسرائيليين زعموا أن إسرائيل بذلك قد انضمت إلى صفوف القوى العالمية.
ويبقى السؤال: هل تستطيع إسرائيل حقاً أن تصبح قوة مهيمنة في المنطقة؟ فرغم عملياتها الأخيرة ومكاسبها التكتيكية قصيرة المدى، تواجه إسرائيل عوائق هيكلية وسياسية تحول دون استمرار هيمنتها.
لا تزال إسرائيل تعتمد بشكل كبير على الدعم العسكري والدبلوماسي والاقتصادي الأمريكي، وما زالت الصراعات الإقليمية العميقة الجذور قائمة وخاصة القضية الفلسطينية التي لم تحل بعد، والتي تعد سبباً أساسياً في استمرار تأجيج الرأي العام وعرقلة المشاركة الدبلوماسية الهادفة.
ومن غير المرجح أن تقبل القوى الإقليمية الرئيسية، مثل السعودية وتركيا ومصر، التوسع أو الهيمنة الإسرائيلية، كما أن إرادة إيران السياسية في ملاحقة طموحاتها النووية كبيرة، حيث يشير بعض المحللين إلى أن الضربات الأخيرة قد تؤدي في نهاية المطاف إلى التعجيل بتنميتها النووية بدلاً من ردعها.
ويأتي التصعيد العسكري الأخير في أعقاب حملة “الضغط الأقصى” التي مارستها الولايات المتحدة وموقفها العدائي تجاه إيران بعد انسحابها من خطة العمل الشاملة المشتركة أو الاتفاق النووي الإيراني في عام 2018، حيث عززت هذه التطورات مجتمعة من جو عدم الثقة الإيرانية مما أدى إلى تضييق مجال الدبلوماسية.
علاوة على ذلك، لا يوجد تقييم واضح يفيد بأن الضربات الأخيرة أدت إلى إصابة البرنامج النووي الإيراني بالشلل الدائم، حيث يعتقد العديد من المحللين أن أي انتكاسات سوف تستمر لأشهر فقط وليس لسنوات، وأن إيران سوف تحول عملياتها ببساطة إلى أماكن أعمق تحت الأرض.
عوائق في وجه الهيمنة الإسرائيلية
تظل القضية الفلسطينية التي لم يتم حلها أكبر عقبة أمام توسيع اتفاقيات التطبيع وتحقيق ما يسمى السلام الإقليمي، فقد أوضحت السعودية موقفها حيث طالبت بالتزام لا لبس فيه بإقامة دولة فلسطينية، لكن حكومة بنيامين نتنياهو تعطي الأولوية للهيمنة العسكرية خاصة في غزة والضفة الغربية.
لقد أدى الهجوم العسكري الإسرائيلي على غزة إلى تأجيج الرأي العام العربي، مما جعل التطبيع مكلفاً سياسياً بالنسبة لزعماء الخليج، وفي غياب رؤية واضحة لما بعد الحرب في غزة ووقف شامل لإطلاق النار، فإن الهيمنة الإسرائيلية لن تكون مستدامة.
من جانبها، تخشى الجهات الفاعلة الإقليمية خاصة في الخليج، من الظهور بمظهر المتواطئة مع دولة يُنظر إليها على أنها تنتهك الحقوق العربية، حيث أدت حرب إسرائيل المطولة على غزة والافتقار إلى خريطة طريق سياسية سبباً في تشويه صورتها العالمية، الأمر الذي أدى إلى تزايد الإدانة الدولية بل وحتى إضعاف الدعم من جانب الحلفاء التقليديين مثل الاتحاد الأوروبي.
إن تآكل الدعم الدبلوماسي لإسرائيل جنباً إلى جنب مع استمرار رفض تحميلها المسؤولية عن جرائم الحرب التي ترتكبها، لم يسفر إلا عن تفاقم عزلتها وتقويض أي محاولة لاكتساب قيادة إقليمية حقيقية.
من ناحية أخرى، تعتمد عقيدة الأمن القومي الإسرائيلي في عهد نتنياهو على التفوق العسكري باعتباره الضمان الوحيد للسلام، ولكن حتى “الانتصارات” العسكرية المزعومة تأتي بتكاليف بشرية واقتصادية مذهلة سواء بالنسبة للفلسطينيين أو الإسرائيليين.
حتى لو أدت الأعمال العسكرية الخارجية إلى تعزيز الدعم الداخلي بشكل مؤقت، فإنها غالباً ما تفشل في إحداث تغيير في النظام أو تحقيق الاستقرار على المدى الطويل، فقد أظهرت عقود من التدخلات الأجنبية أن التحولات السياسية المفروضة من الخارج من المرجح أن تؤدي إلى الفوضى أكثر من السلام الدائم.
من غير المرجح أن تقبل تركيا أيضاً بالهيمنة الإسرائيلية على المنطقة، فما كان ذات يوم “العصر الذهبي” للتعاون في التسعينيات أصبح اليوم شكوكاً متبادلة
وفي حالة إسرائيل، فقد أدت الضغوط الإقليمية والداخلية إلى تفاقم التحديات التي تواجه طموحات الهيمنة الإسرائيلية، حيث تخشى دول الخليج، التي تشعر بالقلق من الانهيار الإيراني، من الفوضى الناجمة عن ذلك والأزمة الإنسانية وتدفقات اللاجئين والانتشار النووي.
أما على الصعيد الداخلي، فيواجه نتنياهو ضغوطاً متزايدة في ظل إحباط شعبي بسبب فشله في تأمين وقف كامل لإطلاق النار في غزة أو إطلاق سراح جميع الرهائن، مما يكشف عن انقسامات داخلية تقوض أي استراتيجية متماسكة طويلة المدى.
ومن الأهمية بمكان أن إسرائيل لم تؤسس سلطة حاكمة فلسطينية شرعية لتتولى السيطرة على غزة، كما أنها لم تنجح في فرض قيادة خارجية أو منتقاة، والنتيجة هي الفوضى وظهور حركات مقاومة جديدة وهذا ينعكس أيضاً من فشل الولايات المتحدة في كل من العراق وأفغانستان.
تحديات إقليمية
لقد ظلت السعودية غير راغبة في احتضان الطموحات الإسرائيلية، وأصرت على أن أي تطبيع يجب أن يسبقه التزام ملموس بإقامة دولة فلسطينية، ومع ذلك، فإن العدوان الإسرائيلي جعل التوصل إلى مزيد من الاتفاقيات أمراً لا يمكن الدفاع عنه سياسياً.
من جهة أخرى، فإن بعض دول الخليج تعيد اليوم تقييم نهجها تجاه إسرائيل، متسائلة عما إذا كانت تصرفاتها تعزز الاستقرار أو تثير المزيد من الصراع، حيث يفضل كثيرون الآن إضعاف إيران وإسرائيل على المدى الطويل، بدلاً من تحقيق نصر حاسم لأي منهما، من أجل الحد من التهديدات التي تتعرض لها أنظمتهم.
تشير استراتيجيات السعودية والإمارات بالتحوط إلى الرغبة في تجنب الانحياز إلى أي طرف في الصراعات الإقليمية، الأمر الذي يقلل من فرص استعدادهما للانضمام إلى تحالف مناهض لإيران بقيادة إسرائيل،
من غير المرجح أن تقبل تركيا أيضاً بالهيمنة الإسرائيلية على المنطقة، فما كان ذات يوم “العصر الذهبي” للتعاون في التسعينيات أصبح اليوم شكوكاً متبادلة، حيث تزايدت أصوات الزعماء الأتراك في إدانتهم للإجراءات الإسرائيلية خاصة في غزة، كما تعتبر أنقرة تحالفات إسرائيل العميقة مع اليونان وقبرص بمثابة تهديد.
من جانبها، تواصل تركيا بناء قدراتها العسكرية والصاروخية الخاصة وتؤكد نفوذها الإقليمي في سوريا، كما أنها تقدم نفسها كوسيط محتمل في التوترات الإسرائيلية الإيرانية، وهو مؤشر على رغبتها في التصرف بشكل مستقل.
رؤية هشة
ربما تكون حملة ترامب العسكرية قد أضعفت طموحات إيران النووية وحلفائها الإقليميين، لكن الاستقرار الإقليمي على المدى الطويل يظل بعيد المنال، فوصف “السلام” الحالي بشكل أدق يكون بوصفه هدنة هشة وليس تحولاً مستداماً.
في جوهره، فشل التفوق العسكري الإسرائيلي في تقديم الحلول السياسية، ومن دون معالجة القضية الفلسطينية وتحقيق الاستقرار في غزة وتجاوز الخصومات الإقليمية المعقدة، فإن السلام الدائم يصبح مستحيلاً.
حتى لو تم إخضاع جماعات المقاومة المسلحة، مثل حزب الله أو حماس، مؤقتاً، فإن قدرة المنطقة على توليد أشكال جديدة من المقاومة ستظل قائمة، وقد تحافظ إسرائيل على تفوقها العسكري، لكنها سوف تستمر في النضال من أجل الشرعية والزعامة في الشرق الأوسط.
ومع تصاعد انتهاكات الولايات المتحدة وإسرائيل للقانون الدولي، تبدو الرسالة واضحة ومفادها أن “الضعفاء فقط هم من عليهم اتباع القواعد”، مما يؤدي إلى تآكل الأمن الجماعي وتقويض أي إجماع إقليمي حقيقي، فالسلام الحقيقي والدائم لن يأتي من خلال الهيمنة وحدها، فهو يتطلب وجود الدبلوماسية والعدالة والشجاعة لمواجهة الأسباب الجذرية للصراع.
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)