استمرار المذابح ضد المدنيين في غزة يكشف حقيقة العالم اللّاأخلاقي

بقلم غادة عقيل

ترجمة وتحرير نجاح خاطر 

حين يحل الظلام على غزة، لا يمكن لأحد أن يجزم ما إذا كان سيتمكن من البقاء على قيد الحياة طيلة الليل، وإذا نجح الفلسطينيون في النجاة من هذه العقوبة الجماعية، فإنهم يتعرضون أيضاً لخطر الاختطاف والاختفاء من منازلهم أثناء الليل.

وبينما يحتفل العالم باليوم الدولي للأمم المتحدة لدعم ضحايا التعذيب الذي يحل في 26 حزيران/يونيو من كل عام، بدأت التقارير تتوالى عن انتشار التعذيب والانتهاكات في كل أنحاء غزة ومراكز الاحتجاز والتعذيب التابعة للاحتلال في الصحراء.

وفي إطار الاحتفال بهذه المناسبة، صرح الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش بأنه “لا ينبغي السماح لمرتكبي التعذيب بالإفلات من العقاب على جرائمهم، ويجب تفكيك أو تغيير الأنظمة التي تمكن التعذيب”.

لكن المؤسسات التي من المفترض أن تمنع مثل هذه الجرائم ضد الإنسانية إما عاجزة عن فعل ذلك أو غير مبالية بالأمر، فبعد سبعة وثلاثين عاماً من دخول اتفاقية مناهضة التعذيب حيز التنفيذ، لا تزال انتهاكات الكرامة الإنسانية مستمرة، بل هي آخذة في التصاعد.

في غزة اليوم، يتعرض الفلسطينيون لنوعين من التعذيب الجماعي، الأول هو اختطافهم من منازلهم من قبل جنود الاحتلال أثناء المداهمات العسكرية الليلية ومعاملتهم معاملة تجردهم من إنسانيتهم أو حتى من “أي شيء يشبه البشر” في معسكرات التعذيب، والثاني هو فرض مثل هذه المستويات المروعة من العنف على السكان المدنيين بالكامل بحيث تشكل تعذيباً بحد ذاتها.

“الجميع مجاناً”

عندما توغلت قوات الاحتلال في مدينة خان يونس جنوب القطاع في أوائل شباط/فبراير، حاولت عائلة أبو سلطان مغادرة منزلها أثناء النهار لكنها لم تكن سريعة بما يكفي، فقد كانت دبابات الاحتلال قد حاصرت حي الأمل مما أغلق كل السبل للخروج في وجه السكان.

اقتحمت مجموعة من الجنود ومعهم كلبهم المخيف منزل سعدة أبو سلطان، وهي امرأة مسنة كانت تقف متجمدة في خوف في الرواق إلى جانب شقيقها محمد وزوجها عبد الكريم.

سمحت تعليمات الاحتلال “بالانتشار” للجنود وفتح النار وارتكاب عمليات إعدام جماعي للمدنيين في انتهاك واضح لقوانين الحرب

وفي ما يبدو أنه أصبح اتجاهاً سائداً، انقض الكلب على سعدة البالغة من العمر 72 عاماً، فهاجمها بوحشية بينما كان شقيقها يحاول التدخل، وأصيب محمد برصاصة في صدره وترك ينزف على الأرض.

وكما أكدت مجلة +972 هذا الأسبوع، فإن توجيه الاحتلال لجنوده بارتكاب “القتل المجاني” سمح للجنود بفتح النار وارتكاب عمليات إعدام سريعة للمدنيين في انتهاك واضح لقوانين الحرب.

وفي منزل أبو سلطان، استخدم الجنود “حريتهم” بقوة، فأطلقوا الرصاص بلا تمييز وأصابوا العديد من أفراد الأسرة، بمن فيهم الأطفال الصغار، الذين كانوا يحتمون في الطابق الأرضي.

وفي خضم الفوضى والصراخ والذعر بين النساء والأطفال، أمر الجنود أفراد الأسرة بالاستلقاء على الأرض، وانفجرت الغرفة بإطلاق النار، واعتقل الجنود ثلاثة من أبناء سعدة البالغين وهم ابنتها الكبرى نسرين (52 عاماً)، وابنيها حسام (50 عاماً)، ومحمد (45 عاماً)، الذي سُمي على اسم عمه، وبعد ساعة من الرعب، غادر الجنود المنزل.

ظل محمد شقيق سعدة الذي كان يحتمي في منزل شقيقته منذ كانون الأول/ديسمبر 2023 ينزف بشدة غير قادر على الحركة، فتوسل للحصول على مساعدة طبية.

ولم تكن سعدة ترغب في ترك شقيقها وراءها، ولكنها وافقت على مضض على ذلك مقابل توفير الرعاية الطارئة له.

وفي رحلة امتدت إلى أربع ساعات مؤلمة وهي التي كانت تستغرق بالأصل 20 دقيقة من السير على الأقدام، تفادى المغادرون الرصاص واختبأوا من القصف المتواصل، حتى وصلت سعدة وزوجة شقيقها وأطفالهما أخيراً إلى مستشفى ناصر.

وبقوة دفع الأدرينالين والحرص على إنقاذ حياة شقيقها، لم تستطع سعدة أن تفكر في إصاباتها الخطرة، لقد مزق هجوم الكلب لحمها وحطم عظام ذراعها، مما تطلب علاجاً طبياً مكثفاً لها يشمل زراعة البلاتين.

تفاقمت معاناة محمد

أخطرت سعدة أبو سلطان على الفور عمال الإغاثة من الهلال الأحمر بالحالة المزرية التي كان يعيشها محمد، إلا أنهم لم يتمكنوا من الوصول إلى المنطقة إلا بعد أشهر عندما انسحب جنود الاحتلال من خان يونس، وبحلول ذلك الوقت، كانت جثة محمد قد تحللت في مدينة تحولت بالكامل إلى أنقاض.

وبعد أن أمضت أسبوعاً في مستشفى محاصر تمت مهاجمته بعنف من قبل قوات الاحتلال، خرجت سعدة من مجمع ناصر الطبي، وبعد أسابيع، استخرج رجال الإنقاذ مئات الجثث، بما في ذلك جثث الأطفال والنساء وكبار السن، من ساحة مستشفى خان يونس.

انتقلت سعدة وأفراد عائلتها الناجون إلى رفح، حيث كان ابنها الأصغر علي، 42 عاماً، يحتمي مع أقاربه، وكان ابناها المعتقلان نسرين ومحمد قد تحملا ثلاثة أيام من التعذيب والحرمان في مكان غير معروف قبل إطلاق سراحهما والانضمام إلى عائلتهما في رفح، أما حسام فظل رهن الاعتقال.

وبعد أن غمرها الحزن على ترك شقيقها ينزف حتى الموت وقتله في النهاية لمجرد محاولته حمايتها وكذلك على ابنها المختطف الذي احتجزته قوات الاحتلال كرهينة، تدهورت صحة سعدة أبو سلطان بسرعة كبيرة.

في 23 شباط/فبراير، وبعد أن أنهت الأسرة صلاة الجمعة، قرر محمد اصطحاب والدته إلى المستشفى برفقة بعض الأطفال لمساعدتها في إيجاد وسيلة نقل.

وعند عودتهم، تم استهداف المنزل الذي كانوا يحتمون فيه في ما يسمى “المنطقة الآمنة” في رفح بغارة جوية، مما أسفر عن استشهاد سعدة وزوجها عبد الكريم وابنتها نسرين، كما استشهد ثلاثة أفراد من الأسرة المضيفة، بينهم امرأتان وطفل، والعديد من الذين كانوا في المكان وتم نقلهم إلى المستشفى.

“ظروف لا يمكن تصورها”

وبعد أشهر من ذلك، لا يزال حسام في الأسر دون أي أخبار عن مصيره أو مكان احتجازه، حيث تتخيل زوجته وأطفاله ما لا يمكن تصوره في ظل قتامة القصص التي خرجت من سجون الاحتلال.

فقد كشفت شبكة سي إن إن عن المعاملة المروعة التي يتلقاها عشرات الأسرى الفلسطينيين من غزة المحتجزين كرهائن في معسكر سدي تيمان الصحراوي الذي تحول إلى مركز احتجاز.

وفي التقرير، الذي أثار إدانة واسعة النطاق، كشف المبلغون الإسرائيليون الذين عملوا في معسكر سدي تيمان الصحراوي عن أن الأسرى الفلسطينيين تعرضوا لضرب “انتقامي”، وبتر الأطراف بسبب الإصابات التي لحقت بهم نتيجة “التكبيل المستمر”، و”التقييد الجسدي الشديد” في بيئة تطغى عليها “رائحة الجروح المهملة التي تُركت لتتعفن”.

ورغم أن مثل هذه الأساليب والانتهاكات مثيرة للقلق في إسرائيل، فإنها ليست شاذة، بل إنها في الواقع كانت مصممة ومقننة كممارسة قانونية منظمة قبل 37 عاماً.

ففي عام 1987، وبعد بضعة أشهر فقط من التصديق على اتفاقية مناهضة التعذيب بين 174 دولة، أصبحت إسرائيل أول دولة في العالم وفي ذلك الوقت الدولة الوحيدة التي تشرع التعذيب

وبعد استشهاد اثنين من الأسرى الفلسطينيين، أصدرت لجنة لاندو التي ترعاها الحكومة، والمكلفة بالبحث في الأساليب التي يتبعها المحققون الإسرائيليون، تقريراً أقر استخدام “الضغط البدني والنفسي المعتدل” ضد “المشتبه بهم” من الفلسطينيين.

وكان رئيس اللجنة هو قاضي المحكمة العليا الإسرائيلية السابق موشيه لاندو، الذي أقر مجلس الوزراء الإسرائيلي مبادئه التوجيهية للاستجواب في عام 1987، وأيدتها المحكمة العليا الإسرائيلية في عام 1999، ثم في عام 2024.

وفي التطبيق العملي، فإن ذلك كان يعني أن المعتقلين الفلسطينيين يمكن أن يخضعوا “بشكل قانوني” لتشوهات جسدية شديدة والحرمان من النوم وإرغامهم على الإدلاء باعترافات كاذبة كإجراء نظامي.

وقد يتم تقييد المعتقلين إلى جدار أو أنابيب مع تمديد أذرعهم فوق رؤوسهم لأيام متواصلة، وفي كل مرة ينامون فيها، يتم إلقاء دلو من الماء المثلج فوقهم.

كما يمكن أن يتم ثني السجناء إلى الخلف على جانب الكرسي مع تقييد أذرعهم وأرجلهم بأرجل الكرسي، مما يمنعهم من الحركة لفترات طويلة. وقد عُرفت هذه الممارسة الوحشية باسم “الكرسي الفلسطيني” وتبناها الجيش الأمريكي أثناء حرب العراق.

في عام 1994، أدانت لجنة الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب تقرير لاندو وتفويضه لممارسات التعذيب باعتبارها “غير مقبولة على الإطلاق من قبل هذه اللجنة”.

عدم احترام القوانين

ويحظر كل من القانون الإنساني الدولي وقانون حقوق الإنسان التعذيب من خلال اتفاقيات جنيف، وخاصة المادة 27 من جنيف الرابعة، واتفاقية مناهضة التعذيب، التي عززت الاتفاقيات الدولية السابقة التي تحظر التعذيب، مثل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان.

لكن غياب أي إنفاذ للقوانين والاتفاقيات الدولية، جعل دولة الاحتلال أكثر جرأة على تصعيد التعذيب والإساءة الجماعية للفلسطينيين.

وبعد إطلاق سراحه من الاعتقال، وصف الدكتور محمد أبو سلمية رئيس أكبر مستشفى في غزة هو مستشفى الشفاء ملابسات “التعذيب اليومي تقريباً” الذي تعرض له هو وآخرون.

وقال أبو سلمية، الذي احتُجز لمدة سبعة أشهر دون توجيه تهمة إليه بعد اعتقاله في مستشفى الشفاء في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، أنه تعرض “لاعتداءات متكررة بالهراوات والكلاب، والحرمان من الطعام والدواء، فضلاً عن الإذلال الجسدي والنفسي”.

وحتى بعد مرور تسعة أشهر، يتساءل الفلسطينيون في غزة كل يوم كيف يمكن للعالم أن يشهد التعذيب المستمر، والإساءة، والقتل الجماعي، والتشويه، والتجويع، ويرفض محاسبة الاحتلال، بل إن الولايات المتحدة والمملكة المتحدة ومعظم أوروبا تدعمها الإبادة الجماعية بفعالية.

وكما لاحظ كريج موخيبر، وهو مسؤول سابق في مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان استقال من وظيفته احتجاجاً على تقاعس المنظمة وتواطؤها، فإن هذه الدول لا ترفض فقط “الوفاء بالتزاماتها بموجب المعاهدات” مثل اتفاقيات جنيف، بل إنها أيضاً تسلح الإبادة الجماعية التي ترتكبها دولة الاحتلال وتوفر لها الغطاء السياسي والدبلوماسي.

وتنص اتفاقيات جنيف على أن جميع الدول “ملزمة باحترام وضمان احترام القانون الإنساني الدولي في جميع الظروف”.

ولكن في حالة الإبادة الجماعية التي ترتكبها دولة الاحتلال وتعذيبها وإذلالها للفلسطينيين، كان العكس صحيحاً، فالدول الغربية لا تحترم القانون الإنساني الدولي والمؤسسات المصممة للدفاع عنه وتعمل بنشاط على تقويضه.

نحن نشهد عصراً من الزعامة العالمية غير الفعالة، إن لم تكن منافقة وغير أخلاقية، تسمح باستمرار بالمذابح الوحشية وقمع الشعوب، وهو ما يجب أن ينتهي الآن.

للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)

مقالات ذات صلة