بقلم جوزيف مسعد
ترجمة وتحرير مريم الحمد
في الأشهر الأخيرة، أصبح هناك زيادة في عدد التقارير التي تتحدث عن مذابح وهجمات قام بها المستوطنون الإسرائيليون ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية، الأمر الذي دفع المتحدث باسم جيش الاحتلال الإسرائيلي إلى وصف الظاهرة بـ “الإرهاب القومي”.
من جهته، قام رئيس المخابرات الإسرائيلية بتحذير رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، من خطورة “الإرهاب اليهودي” الذي قد يتسبب في دفع الفلسطينيين إلى الانتقام من مستعمريهم، بل حتى حكومة الولايات المتحدة، التي تعتبر داعماً كلاسيكياً قوياً للاستعمار اليهودي، فقد ذهبت إلى حد وصف هجمات المستوطنين بـ”الإرهاب”!
هل الجرائم التي يرتكبها المستوطنون اليوم فعلاً أقسى وأعنف مما كانت عليه منذ عام 1967؟ ناهيك عن تلك التي ارتكبت في عام 1948 مع قيام إسرائيل؟!
والعجيب أنه في الوقت الذي تحدثت فيه صحيفة النيويورك تايمز، صهيونية التوجه، عن هجمات المستوطنين بوصفها “ادعاءات انتقامية” أو “عنف”، معتبرة أن السبب فيه جرأة الفلسطينيين على مقاومة المستعمرين، أعربت عشرات المنظمات اليهودية في الولايات المتحدة عن رعبها من الظاهرة وأدانت عنف المستوطنين!
قبل أيام، وفي الوقت الذي كانت فيه الحكومة الإسرائيلية تعمل على إجراءات داعمة للسلطة الفلسطينية بهدف تعزيز حملتها لقمع المقاومة الفلسطينية ضد المستوطنين، كانت السلطة مشغولة بالمزاد العلني لبيع لوحات سيارات بأرقام مميزة بلغ سعر بعضها 250 ألف دولار!
وعلى ما يبدو، لم يشكل حادث قيام مستوطن بدهس فتى فلسطيني يبلغ من العمر 4 سنوات في تل الرميدة قرب الخليل، أي قلق للسلطة، وبعد يومين، دهس مستوطن آخر صبياً فلسطينياً آخر في الرابعة من عمره أيضاً في قرية كيسان شرقي بيت لحم.
هذا ملمح من الإرهاب المستمر منذ عقود من قبل المستوطنين في الضفة الغربية وغزة، ظاهرة وصفتها صحيفة هآرتس الإسرائيلية الليبرالية بأنها “ليست سوى عنف عنصري على غرار البيض المتعصبين في الولايات المتحدة”، ولكن السؤال، هل الجرائم التي يرتكبها المستوطنون اليوم فعلاً أقسى وأعنف مما كانت عليه منذ عام 1967؟ ناهيك عن تلك التي ارتكبت في عام 1948 مع قيام إسرائيل؟!
استهداف الأطفال
لاشك أن إرهاب المستوطنين ضد الفلسطينيين، خاصة استهداف الأطفال، قد تزايد بسرعة كبيرة منذ بداية عام 2023، إلا أنه ليس بالظاهرة الجديدة، فهذا النوع من العنف يعود إلى الأيام الأولى لاستعمار ما بعد عام 1967، خاصة النصف الثاني من السبعينات وما بعده.
أحد أهم الأمثلة على ذلك، مجموعة TnT والتي تعني “الإرهاب ضد الإرهاب”، وهي إحدى مجموعات المستوطنين الإرهابية الرئيسية التي هاجمت وقتلت فلسطينيين في منتصف السبعينات، وكانت مرتبطة بالحاخام الأمريكي العنصري، مائير كاهانا، ومؤلفة في غالبها من المستوطنين اليهود الأمريكيين.
كان هناك مجموعة أخرى من المستوطنين المتعصبين تطلق على نفسها “غوش إيمونيم” أو “كتلة المؤمنين”، هاجمت الفلسطينيين أيضاً في نفس الفترة، وكانت متخصصة في تفجير السيارات والاغتيالات، بالإضافة إلى جماعة “إيروف ماجن” و”الثورة” المتخصصة في مهاجمة المسيحيين الفلسطينيين وكنائسهم.
وفي الألفية الجديدة، أخذت جماعة “تدفيع الثمن” بالانتشار بشكل أوسع من غيرها، والتي تهدف إلى جعل الفلسطينيين يدفعون ثمن مقاومتهم للاستعمار الذي وقع على أراضيهم!
لم يسلم الأطفال الفلسطينيون من الإرهاب الإسرائيلي أيضاً، ففي عام 1979، جاء مستوطنون من مستوطنة كريات أربع لمساعدة الجيش الإسرائيلي في قمع الفلسطينيين، وفي العملية لم يتورعوا عن قتل صبية فلسطينيين، كما كانت هجمات الكر والفر، التي تستهدف الأطفال على وجه الخصوص، سمة مهمة من سمات إرهاب المستوطنين.
رغم وصف أشخاص، مثل ألبرت آينشتاين وهانا أرندت، مجموعة بيغن بالمنظمة الإرهابية، بل و”قريبة جداً من الأحزاب النازية والفاشية”، إلا أنها لم تحظ الهاغاناه بالإدانة الكافية من قبل الليبراليين الصهيونيين حين ارتكبت مذابح فظيعة في تلك الفترة!
في سبتمبر عام 2011، دهس مستوطن صبياً فلسطينياً يبلغ من العمر 8 سنوات في الخليل، وفي عام 2014 وحده، نجد أنه “في 25 سبتمبر، أصيبت فتاة فلسطينية تبلغ من العمر 10 سنوات على يد مستوطن في سلوان، وفي 17 أغسطس، قتل فلسطيني بعد أن صدمته سيارة مستوطن في القدس الشرقية المحتلة، وفي 14 أغسطس صدمت سيارة مستوطن رجلاً فلسطينياً، وفي 7 أغسطس، صدم مستوطن فلسطينياً يبلغ من العمر 8 سنوات كما تم دهس فتاة جنوب الضفة الغربية”، وفقاً لوثيقة أصدرتها الأمم المتحدة.
وفقاً لليونسيف، فقد أصاب المستوطنون 18 طفلاً عام 2012، بينهم 13 فتى و5 فتيات، فيما جرح الجيش الإسرائيلي 21 طفلاً في حوادث متعلقة بالمستوطنين، وفي عام 2015، أحرق مستوطنون طفلاً فلسطينياً يبلغ من العمر 18 شهراً حتى الموت، بعد أن أشعلوا النار في منزل عائلته في دوما، وفي عام 2016، دهس مستوطن إسرائيلي فتاة فلسطينية تبلغ من العمر 6 أعوام في قرية الخضر وقتلها، كما قام مستوطن آخر بدهس فتاة فلسطينية في يونيو 2017 وقتلها، فيما دهس مستوطن آخر فتاة أخرى تبلغ من العمر 8 سنوات في أغسطس وقتلها أيضاً.
وفي عام 2019، قام مستوطن بقتل طفل في السابعة من عمره بعد دهسه في الخليل، وفي عام 2020، صدم مستوطن بسيارته طفلاً فلسطينياً بالقرب من سلفيت ثم فر من المكان، وفي عام 2021، أصيب طفل فلسطيني يبلغ من العمر 3 سنوات وشقيقه البالغ من العمر 6 سنوات بجروح خطيرة عندما هاجم مستوطنون سيارة أسرتهم بالقرب من رام الله، وفي عام 2022، دهس مستوطن طفلاً فلسطينياً عمره 9 سنوات ثم هرب من المكان، وفي يناير 2023، دهس مستوطن طفلة فلسطينية تبلغ من العمر 7 سنوات بالقرب من قلقيلية.
يضاف إلى كل تلك الحوادث، اقتلاع آلاف الأشجار في الأراضي الفلسطينية، وهذا تخصص المستوطنين والجيش الإسرائيلي على حد سواء، خاصة منذ عام 1967!
رواد في الإرهاب!
نالت بعض الهجمات الأخيرة نصيبها من الإدانة في بعض الأوساط الليبرالية في الصحافة الغربية والإسرائيلية، فهناك قدراً من التحيز لدى الصهيونيين الليبراليين المؤيدين لإسرائيل في الحكم على إرهاب المستوطنين، في حين أن أسلافهم من الصهاينة في الثلاثينات والأربعينات، ارتكبوا جرائم أفظع، ولكن الإدانة تركزت على المستوطنين المتدينين المعاصرين!
يمكن القول أن هجمات الكر والفر التي ينتهجها المستوطنون في استهداف الأطفال، ليست إلا تكتيكات يقلدون بها رواد الإرهاب من الأوائل الذين ابتكروها!
في ربيع عام 1935، بدأت تظهر تقارير بريطانية رسمية عن وحشية “السائقين اليهود الذي يمرون عبر القرى العربية”، ففي مرة نقل مسؤول بريطاني ما رآه كشاهد عيان عن موقف شاهد فيه “سائقاً يهودياً قتل طفلاً عربياً ثم دفع جسده عن الطريق وأكمل طريقه”!
ويعتبر اقتلاع الأشجار التي يزرعها الفلسطينيون من أقدم تقاليد الاستيطان الصهيوني في فلسطين، ففي عام 1908، عندما اكتشف المستوطنون أن الفلسطينيين زرعوا غابة أرادوا تكريسها لذكرى مؤسس الصهيونية، ثيودور هرتزل، اقتلعوا جميع الشتلات وأعادوا زرعها ليقال أن اليهود هم من زرعوها!
ما نراه اليوم ليس إلا نسخة أكثر اعتدالاً من الكيفية التي سرق بها الصهاينة المستعمرون وطن الفلسطينيين، ويجب على هؤلاء الصهاينة والليبراليين الموالين لإسرائيل في الغرب، الذين لا يستسيغون إرهاب المستوطنين الحاليين، مراجعة التاريخ الصهيوني المليء بالفظائع قبل إصدار أحكامهم الأخلاقية غير العادلة
كان الأطفال مستهدفين منذ بدء المستوطنين الصهاينة باعتداءاتهم على الفلسطينيين منذ ثلاثينيات القرن الماضي، ومن أهم الامثلة على ذلك، تفجير المقاهي الفلسطينية بالقنابل اليدوية، كما حدث في القدس في 17 مارس عام 1937، ووضع ألغام موقوتة بالكهرباء في الأسواق المزدحمة، والتي استخدمت للمرة الأولى ضد الفلسطينيين في حيفا في 6 يوليو عام 1938.
هجمات تشبه في ظاهرها بعض هجمات المستوطنين المعاصرين، إلا أن المعاصرين لم يرتكبوا مذابح على مستوى الأجيال السابقة من المستوطنين المستعمرين مثل عصابات الهاغاناه والأرجون، التي كانت بمثابة الذراع شبه العسكرية للصهيونية قبل قيام إسرائيل، مثل تفجير سفينة باتريا التي رست في حيفا في نوفمبر عام 1940، مما أسفر عن مقتل 260 لاجئاً يهودياً وعدداً من أفراد الشرطة البريطانية.
وفي أربعينيات القرن الماضي، قام المستوطنون باغتيال مسؤولين حكوميين بريطانيين، وأخذوا مواطنين بريطانيين كرهائن، كما قاموا بنسف المكاتب الحكومية والفنادق وقتل موظفين ومدنيين، كما قاموا بتفجير السفارة البريطانية في روما عام 1946، وجلد وقتل بريطانيين أسرى، وإرسال رسائل وطرود مفخخة إلى سياسيين بريطانيين في لندن.
كان زعيم الأرغون الإرهابي الذي أصبح رئيس وزراء إسرائيل بعد ذلك، مناحيم بيغن، العقل المدبر لعدد من هذه الهجمات، وبعد قيادته لمذبحة دير ياسين في نيسان عام 1948، والتي قتل فيها قرابة 100 فلسطيني، أصبح اسمه يرادف الإرهاب نفسه!
رغم وصف أشخاص، مثل ألبرت آينشتاين وهانا أرندت، مجموعة بيغن بالمنظمة الإرهابية، بل و”قريبة جداً من الأحزاب النازية والفاشية”، إلا أنها لم تحظ الهاغاناه بالإدانة الكافية من قبل الليبراليين الصهيونيين حين ارتكبت مذابح فظيعة في تلك الفترة!
في ديسمبر عام 1947، استهدفت الهاغاناه قرية الخصاص الفلسطينية في الجليل، مما أسفر عن مقتل 4 مدنيين فلسطينيين و4 أطفال فلسطينيين، ولكن ما ثبت لاحقاً هو أن هذا الرقم كان ضئيلاً مقارنة بعمليات القتل الجماعي اللاحقة التي تعرض لها الفلسطينيون!
على سبيل المثال، في قرية الدوايمة، ارتكبت الهاغاناه مجزرة في أكتوبر عام 1948، وقتلت أكثر من 100 فلسطيني، بالإضافة إلى قتل واغتصاب الفلسطينيات في الحرب الإرهابية القاتلة عام 1948!
قسوة أقل حدة!
ما اقترفه المستوطنون الإسرائيليون المعاصرون منذ إعلانهم الحرب على الشعب الفلسطيني قبل 5 عقود لا يقترب حتى من هذه الأرقام، ناهيك عن مستوى الهمجية التي ارتكبها المستوطنون الصهاينة في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، والاستثناء الوحيد من ذلك هو مذبحة الحرم الإبراهيمي في الخليل عام 1994، التي قام بها باروخ غولدشتاين، مستوطن أمريكي المولد، حين قتل 29 مصلياً فلسطينياً داخل المسجد، ومع ذلك، تظل مجزرته أقل حدة من حملات الإجرام التي شنها الجيش الإسرائيلي عام 1948 وما بعدها، من مذابح قبية وكفرقاسم وغزة وخان يونس وغيرها.
لا ترمي المقارنة إلى التقليل من شأن ما يتعرض له الفلسطينيون من قبل المستوطنين في الضفة والقدس الشرقية اليوم، ولكن الهدف فضح تاريخ الإرهاب الصهيوني ضد الشعب الفلسطيني منذ بداية المشروع الصهيوني، فالمستوطنون المعاصرون اليوم يعتبرون أنفسهم نسخة أقل قسوة من أسلافهم، رغم مواصلتهم لنفس النهج الاستعماري الذي حكم به كبار الجنرالات الإسرائيليين.
يُعرف المستوطنون الاستعماريون في فلسطين ما قبل عام 1967 بمصطلح “متياشفيم” أي المستوطنين بالعبرية، فيما يطلق المستوطنون بعد عام 1967 على أنفسهم “ميتناشليم” أي ورثة الآباء الذين ورثوا عنهم أرض فلسطين، وبقدر ما يرغب الصهاينة الليبراليون بالتمييز بين المجموعتين، إلا أنه بالنسبة للشعب الفلسطيني، لا يمكن التمييز بين القسوة الاستعمارية لكلا المجموعتين وإرهابهما، حتى وإن بدا عنف المستوطنين المعاصرين أقل قسوة في الظاهر.
في نهاية المطاف، ما نراه اليوم ليس إلا نسخة أكثر اعتدالاً من الكيفية التي سرق بها الصهاينة المستعمرون وطن الفلسطينيين، ويجب على هؤلاء الصهاينة والليبراليين الموالين لإسرائيل في الغرب، الذين لا يستسيغون إرهاب المستوطنين الحاليين، مراجعة التاريخ الصهيوني المليء بالفظائع قبل إصدار أحكامهم الأخلاقية غير العادلة.
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)