اعتداءات الاحتلال على سوريا: تصعيد يهدد الأمن الإقليمي ويعزز حالة عدم الاستقرار

بقلم علي باكير

ترجمة وتحرير نجاح خاطر

في العاشر من ديسمبر/كانون الأول، وبعد أيام قليلة من انهيار حكومة بشار الأسد في دمشق، شنت دولة الاحتلال هجوماً على الأراضي السورية من خلال أوسع حملة عسكرية جوية في تاريخها ضد دولة مجاورة.

في هذه العملية، التي أطلق عليها “سهم باشان”، هاجمت 350 طائرة مقاتلة من لاح جو الاحتلال 320 هدفاً استراتيجياً في مختلف أنحاء سوريا، من دمشق إلى طرطوس، شملت قواعد جوية وطائرات مقاتلة من طراز ميج-29 وبطاريات صواريخ سكود وطائرات بدون طيار ومنشآت رادار وسفن بحرية بالإضافة إلى بنى تحتية حيوية أخرى.

وقد أدى الهجوم إلى تدمير أكثر من 70% من الأصول العسكرية الاستراتيجية لسوريا، مما جعل البلاد عُرضة للتفتت والتأثير الأجنبي.

ولم يأت هذا العدوان معزولاً في إطاره، بل جاء في سياق سنوات من التفاهمات الضمنية بين دولة الاحتلال ونظام الأسد، تمكنت خلالها إسرائيل من إدارة مصالحها في مرتفعات الجولان المحتلة واعتبرت الأسد جاراً مزعجاً، ولكن التنبؤ بسلوكه ممكن.

لقد كان الهدوء الذي ساد جبهة الجولان لأكثر من نصف قرن من الزمان دليلاً على هذا الوضع الراهن غير المستقر، فمع رحيل الأسد، تبدو دولة الاحتلال عازمة على ضمان عدم تمكن أي نظام يخلفه أو تحالف للثوار أو جهة فاعلة أجنبية من تحدي موقفها في المنطقة، وبالتالي باتت هجماتها تمثل نقطة تحول مهمة بالنسبة لسوريا، وهي الدولة التي تكافح الآن لإعادة البناء بعد سقوط الأسد.

الانقسامات الداخلية في سوريا

يثير نطاق العملية العسكرية وتركيزها تساؤلات ملحة حول نوايا إسرائيل وتأثيرها طويل الأجل على سيادة سوريا وسلامة أراضيها، وقد أجرى المحللون مقارنات بين الفوضى التي شهدناها في العراق بعد الغزو الذي قادته الولايات المتحدة وواقع ليبيا المجزأ بعد القذافي، حيث يزيد احتلال إسرائيل لأراض سورية إضافية بالقرب من مرتفعات الجولان من هذا الغموض.

لقد ضمت إسرائيل الجولان، وهي منطقة ذات أهمية استراتيجية ورمزية، في عام 1981، وهي الخطوة التي اعتبرتها الأمم المتحدة غير قانونية، ومنذ سقوط الأسد، وسعت إسرائيل سيطرتها، حتى أنها استولت على منطقة عازلة تراقبها الأمم المتحدة.

ولم يجلب هذا الاحتلال أي إدانة من الدول الغربية، على الرغم من تأكيدات الأمم المتحدة على السيادة السورية على مرتفعات الجولان، لكن رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو أعلن بشكل لا لبس فيه أن “الجولان سيكون جزءا من دولة إسرائيل إلى الأبد”، في موقف يؤكد على استراتيجية الاحتلال المتمثلة في تأمين المكاسب الإقليمية مع الاستفادة من عدم استقرار سوريا لتعزيز هيمنته الإقليمية.

ومن المرجح أن يؤدي احتلال إسرائيل وأنشطتها العسكرية إلى تعميق الانقسامات الداخلية في سوريا، مما يضع الفصائل التي تركز على بناء المجتمع في مواجهة مع أولئك الذين يعطون الأولوية لتحرير الأراضي المحتلة في ديناميكية تتشابه مع الصراعات المزمنة في لبنان تحت الاحتلال الإسرائيلي، حيث أعاقت الانقسامات الداخلية الاستقرار والحكم.

وإذا كان للفصائل السورية التي تركز على إعادة الإعمار امتياز السبق، فإنها تخاطر بفقدان الشرعية طالما ظلت الأراضي السورية محتلة.

وعلى العكس من ذلك، فإن إعطاء الأولوية للقتال ضد الاحتلال قد يؤدي إلى هزائم مبكرة والمزيد من الفوضى، وتحويل الموارد الحاسمة عن جهود بناء الأمة، وفي أي من السيناريوهين فإن إسرائيل ستكون المستفيدة، فسوريا المجزأة أقل قدرة على تشكيل تهديد لأمن الاحتلال وطموحاته الإقليمية.

أما بالنسبة للسوريين، فيمثل هذا الانقسام مفارقة قاسية، ذلك أن إعادة بناء دولتهم يتطلب إعطاء الأولوية للاستقرار وإعادة الإعمار، ولكن القيام بذلك تحت الاحتلال يضعهم أمام المخاطرة بتنفير أجزاء كبيرة من السكان الذين ينظرون إلى المقاومة باعتبارها ضرورة وطنية، وبالتالي فإن الانقسامات الناجمة عن ذلك ستجعل من الصعب على أي حكومة انتقالية الحفاظ على الشرعية والتماسك.

الفراغ الأمني

يشبه تدمير القدرات العسكرية السورية تفكيك الجيش العراقي أثناء الغزو الأميركي، الأمر الذي ترك فراغاً أمنياً يدعو إلى التدخل الأجنبي وصعود الجهات الفاعلة غير الحكومية، والآن يواجه مقاتلو المعارضة السوريون والسلطات الانتقالية تحدياً هائلاً يتمثل في إعادة بناء جيش مهني مع تلبية احتياجات السكان المنقسمين.

كما تعمل سلوكيات إسرائيل على تقويض الجهود الرامية إلى استعادة الأراضي التي تسيطر عليها مجموعات أخرى، بما في ذلك المجموعة الكردية المدعومة من الولايات المتحدة، وحدات حماية الشعب، ومن خلال تآكل القدرة العسكرية السورية، تضمن إسرائيل عدم الاستقرار لفترة طويلة، وتمنع أي جهد متماسك لتحدي احتلالها أو موازنة نفوذها.

وعلاوة على ذلك، استهدفت غارات الاحتلال أكثر من مجرد أصول عسكرية، فقد تم تدمير أرشيفات استخباراتية تحتوي على بيانات كان من الممكن أن تلقي الضوء على علاقات الأسد بالشبكات والدول العالمية، بما في ذلك إسرائيل نفسها.

وفي أعقاب سقوط الأسد، ظهرت تقارير عن اتفاقات سرية بين حكومته وإسرائيل، يُزعم أنها أديرت من خلال وسطاء روس، وتعقّد هذه الاكتشافات الجهود الرامية إلى إعادة بناء الثقة بين السوريين وإقامة حكومة جديدة خالية من ميراث الأسد المثير للجدل.

ويخلق هذا التدهور العسكري أرضا خصبة لظهور الميليشيات الموازية، والتي من المرجح أن يركز بعضها على مقاومة إسرائيل بدلاً من المساهمة في إعادة إعمار سوريا، ومن شأن مثل هذا التطور أن يشابه حالة الفوضى في ليبيا من الفصائل المسلحة، مع دعم القوى الأجنبية للجماعات المتنافسة لتحقيق غاياتها الاستراتيجية الخاصة.

إن دعم إسرائيل للانفصال الكردي هو جزء من استراتيجية أوسع لتقسيم وإضعاف منافسيها الإقليميين، حيث تتوافق استراتيجية الاحتلال مع أهدافه الإقليمية الأوسع، بما في ذلك دعم العناصر الكردية في سوريا

وقد أعرب المسؤولون الإسرائيليون علناً عن اهتمامهم بتعزيز العلاقات مع وحدات حماية الشعب الكردية، وهي مجموعة مرتبطة بحزب العمال الكردستاني، الذي صنفته تركيا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي وغيرها كمنظمة إرهابية، ويهدد هذا الدعم بتورط سوريا بشكل أكبر في النزاعات الإقليمية، وخاصة مع تركيا، وتعميق انقساماتها الداخلية.

وقد تصبح وحدات حماية الشعب، التي تعاونت في السابق مع جهات فاعلة متنوعة مثل حكومة الأسد وإيران وروسيا والولايات المتحدة، أداة أخرى في استراتيجية إسرائيل تجاه سوريا، وهذه الشراكة المحتملة يمكن أن تخلق مخاطرة بإشعال التوترات بين الجماعات العرقية في سوريا، وتعقيد جهود إعادة الإعمار وتنفير السوريين الذين يخشون بالفعل التلاعب الأجنبي.

ومن خلال تشجيع تفتيت سوريا، تحول إسرائيل الانتباه عن أفعالها في فلسطين ولبنان مع ضمان عدم ظهور دولة سورية موحدة لتحدي طموحاتها الإقليمية.

يشبه هذا النهج تكتيكات الاحتلال في لبنان أثناء الحرب الأهلية، حيث عززت إسرائيل التحالفات مع الفصائل المحلية لتأمين مصالحها، كما يوفر فرصة لاستدعاء التدخل الأجنبي في سوريا تحت عنوان مقاومة تدخل إسرائيل واحتلالها، وإيران هي لاعب محتمل في هذا السياق.

عدم الاستقرار الإقليمي

وتنظر تركيا، وهي لاعب إقليمي رئيسي، إلى وحدات حماية الشعب باعتبارها تهديدًا وجوديًا، وترى أن من شأن أي تعاون لها مع إسرائيل أن يوتر العلاقات بين تل أبيب وأنقرة، مما قد يتصاعد إلى صراع إقليمي أوسع نطاقًا.

وقد تؤدي مثل هذه التوترات إلى زعزعة استقرار سوريا بشكل أكبر، حيث تستغل القوى الخارجية الفوضى لتعزيز أجنداتها الخاصة، وبالتالي فإن المسار الحالي لسوريا يستحضر أوجه تشابه قاتمة مع دول أخرى في الشرق الأوسط مزقتها التدخلات الأجنبية والانقسامات الداخلية.

ففي العراق، أدى تفكيك الجيش الوطني إلى خلق فراغ في السلطة قاد بدوره إلى ظهور الجماعات المتمردة وإدامة حالة عدم الاستقرار، أما في ليبيا، فقد أدى سقوط القذافي إلى تفكك الدولة حيث تتنافس الفصائل المسلحة، المدعومة من القوى الأجنبية المتنافسة، على السيطرة، في حين أدى الاحتلال الإسرائيلي لأراض لبنانية إلى تعزيز الانقسامات الداخلية التي أعاقت تعافي البلاد من الحرب الأهلية.

وسوريا تواجه الآن خطر الجمع بين هذه العناصر، حكومة مركزية ضعيفة، وميليشيات متنافسة، وتدخلات أجنبية تعمل على إدامة عدم الاستقرار.

إن احتلال إسرائيل وتدخلاتها يهدد بتحويل سوريا إلى دولة ممزقة تعاني من الصراع الداخلي، والمؤسسات الضعيفة، والأجندات الأجنبية، وهذا المسار لا يهدد مستقبل سوريا فحسب، بل ويهدد أيضا استقرار المنطقة الأوسع، ومن شأنه في نهاية المطاف أن يرتد عليها ويهدد إسرائيل نفسها في الأمد البعيد.

ولمنع المزيد من زعزعة الاستقرار، يتعين على الجهات الفاعلة الدولية أن تدفع باتجاه إعادة تقييم سياسات الاحتلال في سوريا.

إن دعم سيادة سوريا وتعزيز مسار حقيقي لإعادة الإعمار أمر بالغ الأهمية لضمان وحدة البلاد واستقرارها، وبدون مثل هذه الجهود، تخاطر سوريا بأن تصبح دولة فاشلة أخرى في منطقة شابها بالفعل الصراع والانقسام.

قد تقدم تصرفات الاحتلال مزايا أمنية قصيرة الأجل، لكنها تعمل على إحباط السكان الذين ما زالوا يحتفلون بسقوط النظام، وبدلا من تعزيز سوريا المستقرة والآمنة، قد تكون النتيجة على المدى الطويل عدم الاستقرار المستمر وتصعيد الصراعات الإقليمية.

للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)

مقالات ذات صلة