بقلم منى سعدي
ترجمة وتحرير نجاح خاطر
لم يكن اقتياد مصطفى شذى، وهو أب لأربعة أطفال ومدير عام مسرح الحرية، من منزله يوم الأربعاء 13 كانون الأول/ ديسمبر وتعصيب عينيه وسجنه وضربه وحرمانه من الطعام والماء، حدثاً عشوائياً، فقد سأل الجنود الإسرائيليون، الذين لا تتجاوز أعمارهم نصف عمره، الجيران بالتحديد عن مكان إقامة ذلك المنتج الفني المهيب في أواسط العمر.
لم يكن أحد ليخطئ ذلك الرجل اللطيف ذا الأخلاق الأبوية على أنه “إرهابي”، فشذى لم يكن هدفاً عسكرياً، لكنهم اعتدوا عليه لأنه مدير عام لمسرح، وكانت تلك جريمته، إذ يعتبر الاقتحام الإسرائيلي الحالي لمخيم جنين للاجئين وسيلة لتعذيب الفلسطينيين دون وجود أي هدف عسكري.
ومنذ فجر الثلاثاء، ومقاتلو كتيبة جنين يتبادلون إطلاق النار مع الجيش الإسرائيلي في مدينة جنين المجاورة، مما ترك المخيم خالياً من المسلحين.
واستغل الجيش الإسرائيلي ذلك واعتقل أكثر من 500 فلسطيني من داخل المخيم، من بينهم شذى بالإضافة إلى أحمد الطوباسي، مدير الإبداع في مسرح الحرية، الذي واجه الجنود وسألهم عن سبب مهاجمتهم للمسرح فقاموا بضربه، وداهموا منزله، وحطموا جهاز الكمبيوتر والآيباد الخاصين به، وأتلفوا مزروعاته ثم قاموا باعتقاله.
وليست الوحشية الإسرائيلية بالغريبة على الطوباسي الذي يقول إن أولى ذكرياته مع الاحتلال كانت عندما ركله جندي إسرائيلي حين كان طفلاً يختبيء في الزقاق المجاور لمنزله المتواضع، كما تم اعتقاله عندما كان شابًا.
لكن جوليانو مير خميس، الذي أسس مسرح الحرية، الذي يقوده طوباسي الآن، قام بدعمه ومنحه عملاً في المسرح، وكان هذا العمل هو الذي منح طوباسي فرصة السفر إلى النرويج، حيث عاش وعمل وحصل على الجنسية النرويجية.
لكن شجاعته وشعوره بالفخر الثقافي هما ما أعاداه إلى مخيم جنين حيث تم استهدافه من قبل القوات الإسرائيلية وتعرضه للضرب هذا الأسبوع ضرباً مبرحاً أدى إلى ظهور كدمات على ساقيه وظهره، وكانت هذه الجروح بمثابة اعتراف عميق بقدرته على بث الأمل والأحلام في قلوب شباب جنين.
خوفاً من الكبرياء الفلسطيني
اعتقل جمال أبو جوس، وهو أحد مدربي المسرح للصغار ضمن طاقم التدريب في المخيم الصيفي، وتم احتجازه أيضاً من قبل الجنود الذين كانوا يضربون المعتقلين ويطلقون عليهم الشتائم باللغة العربية.
” هذه الهجمات الوحشية تستهدف بشكل مباشر كل ما يعزز الوعي الوطني والثقافي”- حنين أمين، وزارة الثقافة في السلطة الفلسطينية
لم يكن أبو جوس رجلاً يشكل خطراً، إلا على من يخشى تماسك مجتمع تحت الحصار وبث الشعور بالذات والاستمرارية والفخر الفلسطيني.
إذا كان هذا ما تخشاه، يصبح من المنطقي أن تضرب وتسجن هذا الشاعر الشاب الحساس اللطيف، الذي بات يعاني توتراً عصبياً يدفعه لشرب الكثير من السجائر لمساعدته على التعامل مع ما أصبح الآن وراء عينيه الحزينتين وابتسامته الخجولة، بعد أن تعرض للضرب المبرح، و سُرق هاتفه و كاميرته.
وتقول حنين أمين، مديرة وزارة الثقافة في السلطة الفلسطينية: “لقد تمت مداهمة العديد من المنازل في المخيم، بما في ذلك منازل أفراد يعملون في المجال الثقافي”.
وأضافت: ” هذه الاعتداءات الوحشية تستهدف بشكل مباشر كل ما يعزز الوعي الوطني والثقافي، من خلال الدور الإبداعي الذي تلعبه هذه المؤسسات والأفراد، والمساهمة في تعزيز وسرد الرواية الفلسطينية بأصوات الشعب والحفاظ على الهوية الوطنية من خلال فنونهم وثقافتهم.”
ومنذ أيام، قطعت الكهرباء والمياه والإنترنت عن مخيم جنين وتم تدمير الطرق مرة أخرى بواسطة جرافات كاتربيلر المعدلة والمعروفة باسم D9s.
لقد كنت في مخيم جنين في الرابع من شهر تموز/ يوليو، بعد أيام قليلة من الاقتحامات الكبرى التي وقعت يومي 3 و4 من ذلك الشهر، حين قام 1000 جندي إسرائيلي باقتحام المخيم وسط اكتظاظ السماء بالطائرات الحربية والصواريخ والطائرات المسيرة.
في ذلك اليوم، اطلقت الكلاب العسكرية على منازل اللاجئين، وسط إطلاق مكثف لقنابل الغاز المسيل للدموع، وإطلاق متواصل للنار ينهمر في كل مكان كما زخات المطر.
حرب نفسية
لأسابيع عدة، ظلت الطرق خالية من المتجولين في انتظار قيام السلطة الفلسطينية بإصلاح الأنابيب المكسورة والأسلاك المقطوعة، وإعادة رصف الطرق كي يتمكن الأطفال من الذهاب إلى المدارس وتستطيع سيارات الإسعاف الوصول إلى المستشفيات في الوقت المناسب.
وهذا أحد الأسباب وراء تدمير الاحتلال للشوارع مرة أخرى وكسر قلوب الجميع، فمن المؤكد أن هناك سببًا عمليًا لتدمير الأشياء، وهو جعل الحياة صعبة، فتدمير الطرق يعني حركة أقل.
لكن الأمر لا يتعلق بهذا السبب فقط، في الواقع، أود أن أشير إلى أن الأمر يتعلق أكثر بالجانب النفسي للحرب، فالأمر يتعلق بجعل سكان المخيم يشعرون بالعجز لدفعهم للاستسلام والانتقال إلى الأردن.
وما الذي يمكن أن يكون أكثر إحباطاً من تحطيم الجدران الداخلية لمسرح يحبه الجميع بالمطارق، من تعصيب عيون العاملين فيه أمام عائلاتهم، و تكبيل أيديهم، وإطلاق رصاص حي داخله؟ كل ذلك وقع وسط هطول الأمطار حيث لم تتجاوز درجة الحرارة في الخارج الـ 16 درجة مئوية.
ولربما أنه من المثير للدهشة أن يكون هناك إجابة جيدة على هذا السؤال، فقد تبين أن هناك طرقًا أخرى يمكن للقوات الإسرائيلية أن تجدها لكسر الروح الفلسطينية تتمثل في إطلاق أغاني الحانوكا عبر مكبرات الصوت في المسجد الرئيسي في وسط مخيم جنين للاجئين بينما يقوم الجنود برسم نجمة داود على منازل السكان ويعلقون الأعلام الإسرائيلية على مبانيهم.
ويقول مؤمن السعدي، الممثل والمعلم في مدرسة مسرح الحرية: ” هذا هو قبح الاحتلال، يتعدى على ممتلكاتنا ويعمل على التغريب ويغني أغان مثيرة للاشمئزاز”.
لا شيء يستفز المستعمر كما العلم المعلق على عامود الكهرباء، خاصة عندما يقترن الامر بأعمال الإبادة الثقافية هذه، وهي المحددة في اتفاقية لاهاي، وميثاق روريش، واتفاقية التراث العالمي، وكلها اتفاقات مكسورة ومهشمة، كما هو حال عظام وأجساد زملائي وأصدقائي.
كتبت لي صديقتي وفاء، وهي أم وربة منزل تبلغ من العمر 26 عاماً، وزوجها عاطل عن العمل كنتيجة مباشرة للعنف، بينما لم يحصل ابنها البالغ من العمر سنة واحدة على الحليب لأسابيع حيث يعاني من سوء التغذية:
“مينا، الأمر مرعب”، أطفالي يشعرون بالرعب من الأصوات والصراخ وحينا مليء بالجنود وزوجي متوتر للغاية، يقولون أن القوات الإسرائيلية أوسعت المعتقلين ضرباً حتى أغمي عليهم، لقد عرفت بعد ذلك أن الإسرائيليين اعتقلوا زوجها”.
تبدو هذه لحظة مناسبة لتذكر مصير تمثال الحصان الذي كان ينتصب عند بوابة المخيم، والذي أخذه الإسرائيليون كرهينة، ولتذكر البوابات المقوسة العملاقة التي كانت تؤطر مدخل المخيم الآخر والتي جرى تدميرها الآن تحت عربدة التدمير الثقافي الفاسدة.
معاقبة المقاومة بالاعتداء على نصب تذكاري واختطاف تمثال الحصان كرهينة، هذا ما يبدو عليه القمع بأم عينه، تماماً مثلما تبدو عليه القطع المهشمة من تمثال الحصان.
القضاء على الثقافة
يشبه ذلك فيلم “سيد الذباب”، لكن الجنود الذين أطلقوهم في مخيم اللاجئين هذا ليس لديهم سوى فكرة عامة عما يجب عليهم فعله.
هناك قائمة بالأشخاص الذين سيتم اعتقالهم، أحمد، جمال، مصطفى، ولديهم قائمة بالمباني التي سيتم تخريبها، لكن المنهجية الدقيقة لذلك متروكة للمراهقين المضطربين والعنيفين الذين يحملون أسلحة آلية ويجوبون الأزقة المظلمة، التي لا يوجد بها كهرباء لإضاءتها خارج نطاق كشافات المعدات العسكرية ذات التقنية العالية.
يتعلق الأمر بالقضاء على الثقافة، لكن لا يمكن محو التطلعات الجماعية والذكريات الجماعية لشعب ما، بمجرد تفجيرها، إنها تماماً كما جاء في فيلم “برتقالة آلية”، لكنها يهودية.
هدفهم ليس المقاتلين وحدهم، بل الأمهات والآباء والأطفال وكبار السن، إذن لماذا الغاز المسيل للدموع والطائرات المسيرة التي تحلق على ارتفاع منخفض والجرافات؟ لماذا تسقط الطائرات الحربية صواريخ جو أرض، وقنابل إنيرجا المضادة للدبابات مع دويها الشديد الذي يطارد أحلامي منذ أول مرة سمعتها في جنين إلى آخر مرة سمعتها في نابلس؟ يبدو أنها مشابهة لمجموعة Vogon Constructor Fleet، إذا كنت تعرفHitchhiker’s Guide to the Galaxy.
لقد شاع أن هذا الحصار سيستمر خمسة أيام أخرى، مثل حصار الانتفاضة الثانية، عندما حُفر مخيم جنين في صفحات التاريخ، ففي الـ 72 ساعة الأولى، قُتل ما لا يقل عن 12 رجلاً وصبي صغير هو بشار حوراني الذي لم يخفت صوته بعد.
أما الشهيد الثاني عشر فهو الطالب في مسرح الحرية موسى بن ملاك البالغ من العمر 16 عاماً، وهو فتى مرح وخجول وأمه صديقة عزيزة كانت معي ومع شقيق موسى الأصغر وأخته أثناء الاجتياح الإسرائيلي لمخيم جنين في أيلول/ سبتمبر.
وطالما بقي الفلسطينيون في أرضهم، فسوف يستمرون في صنع الفن والثقافة، إذ إن اعتقال رواد الثقافة في مخيم جنين اليوم لا يقدم شيئًا للحفاظ على سلامة الإسرائيليين، لكنه يظهر كيف أن الممارسات الثقافية هي الغراء لتماسك المجتمع، ولماذا قد يهدد ذلك إسرائيل؟
إنها مجاملة غير مباشرة لقوة المسرح والفنون بشكل عام، وتحديداً لقوة مسرح الحرية في مخيم جنين، ومركز الشباب الاجتماعي أيضاً، الذي تم إحراقه.
مسرح الحرية هو جزء من شبكة غير عادية من المسارح والمنظمات الثقافية في جميع أنحاء الضفة الغربية وغزة التي تدافع عن القيم العاطفية والنفسية والروحية والثقافية لفلسطين من خلال المسرحيات والقصائد والرسم والعروض.
يوضح هذا الاقتحام كيف تخيف المنظمات الشعبية البسيطة رابع أقوى آلة عسكرية نووية في العالم، ولماذا يستحق مسرح الحرية دعم كل مؤسسة مسرحية وفنية دولية تؤمن، على حد تعبير نينا سيمون، بأن “واجب الفنان أن يعكس العصر “.
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)