بقلم د. عدنان أبو عامر
بات واضحاً أن الاحتلال الإسرائيلي دخل عملية “بيت وحديقة” ضد مخيم جنين، مثلما فعل في جميع معاركه الأخيرة، دون استراتيجية سياسية للخروج منها، ولا بنك أهداف سياسية، ولا قرار مسبق بشأن الحد الأدنى المطلوب من المعركة، واستكمالاً لذلك، انتهت الجولة الأخيرة من العدوان على جنين دون إنجاز مهمّ، وسط جدل داخلي، وإحباط يستمران حتى الجولة المقبلة، وبهذه الطريقة تحظى المقاومة بفترة تهدئة تستغلها لإعادة تنظيم صفوفها، وملء مخزونها من السلاح والعتاد والتحصين.
مع العلم أن الاحتلال انطلق في عدوانه الأخير على جنين لتحقيق عدة أهداف، أهمها زيادة الضغط على المقاومة، وتقليص عملياتها الفدائية، والكشف عن الوسائل القتالية التي يعرف الجيش بعض أماكنها، استنادا لتقديرات الشاباك والاستخبارات العسكرية، سواء الجاهزة للاستخدام، أو في طور التحضير، لاسيما العبوات الناسفة.
في الوقت ذاته، فقد اعترف ضباط إسرائيليون بمخاطر كثيرة على دخول جيشهم البرّي إلى جنين، ومن أهمها استهداف الجنود عند اقترابهم من الأحياء السكنية بالقنابل والعبوات، ورصد قوات المشاة التي ستتخذ لها حيزًا مكانيًا تتوقف فيه ثابتة، والبحث عن أماكن تصنيع السلاح باستهداف الدبابات والناقلات بعبوات تؤدي لخسائر، وتفخيخ بعض المنازل، وكيفية التعامل مع المقاومة مع ضمان عدم سقوط ضحايا، مما قد يثير ردود فعل واسعة ضد الاحتلال في المحافل الدولية.
ومن أجل تدارك كل هذه المخاطر، كان لابد أن تكون العملية البرية سريعة ومحاطة بنيران كثيفة لمنع تعرض الجنود للخطر، والضغط بقوة على حماس للتراجع والقبول بالتهدئة، لأن العملية البرية، ورغم أن أهدافها المسبقة ستكون محدودة، لكن من شأنها أن تتعقد، وتتورط أكثر، فمعالجة التهديدات التكتيكية الآنية، وبشكل أساسي خطر الأنفاق، قد يؤدي لضحايا عديدة، ويدهور الوضع في المنطقة بشكل سافر.
مع العلم أن تصعيد الاحتلال التدريجي ضد المقاومة منحها هامش تحرك لمواكبة تطورات العدوان أولاً بأول، حتى وصلت بهذه المعركة المفتوحة إلى مرحلة “عض الأصابع”، بحيث ينتظر كل طرف من الآخر التوقف أولاً، ونجحت المقاومة في “بلورة تكتيكات جديدة” لم تستخدمها في المواجهات السابقة، من خلال الرد على هجمات الاحتلال وفقاً لتكتيكات محسوبة، وتقديرات واحتياطات جديدة حافظت بها على رجالها بعيداً عن مرمى سلاح الطيران، مما أسهم في توجيه ضربات مؤلمة للعدو.
تمكنت المقاومة منذ بداية العدوان على جنين من إدارة الميدان بحنكة عالية، بعيداً عن الاندفاع العاطفي في تعاطيها مع موجات التصعيد الإسرائيلية، وركزت على استخدام الأساليب النفسية والوسائط الإعلامية والتسجيلات بتوجيه رسائلها للاحتلال وجبهته الداخلية، قبل أن تبادر بردودها على هجماته، مستفيدة من تجاربها السابقة، وباتت أكثر قدرة على المناورة، ووعياً في استخدام وسائلها القتالية وحنكة، وتأنياً في ردودها، بخلاف حملات العدوان السابقة التي عملت أثناءها المقاومة تحت وطأة العواطف الجماهيرية.
وهذه كلها رسائل تتضمن خلاصات مؤثرة للمجتمع الإسرائيلي، معتمدة على الحسابات السياسية والعسكرية الموزونة، ضمن خطوات محسوبة وتدريجية تفرضها مجريات تطور الأوضاع، عبر استفادتها من فترات التهدئة المبرمة مع الاحتلال في نظم نفسها، والتخطيط للمواجهة الحالية.
وفي ذروة العدوان على جنين، بدا جيش الاحتلال أكثر تردداً بسبب عدم قدرته على الرؤية الجيدة، ولا يملك معلومات كافية عن تطور أدوات المواجهة العسكرية، ولا يعرف بدقة الأسلحة المتوفرة بأيدي المقاومة، وقد فوجئ بالأسلحة القتالية والعبوات الناسفة التي اعترضت آلياته التي اقتربت من مشارف المخيم، دون القدرة على اجتياحه.
لقد كشف الجدل في الكيان الإسرائيلي عن جملة اتجاهات متضاربة من العدوان على جنين، أولها السعي لتفادي الضربة خشية ردات الأفعال والنتائج غير المحسوبة، وثانيها إحداث اختراق بري يلامس حدود الكثافة السكانية الفلسطينية، ولا يخترقها، فضلاً عن الأبعاد المعنوية لهذه الاختراقات، وثالثها الحديث عن إعادة احتلال المخيم لـ”تطهيره” نهائياً من المقاومين، وتسليمه للسلطة الفلسطينية الممعنة في تنسيقها الأمني.
في الوقت ذاته، تركّز النقاش المتصاعد في أروقة الحكم الإسرائيلي، بعد التلخيصات الأولية للعملية الحربية على جنين على اجتياح المخيم، وإذا ما سيكون سلاح الجو قادراً أم عاجزاً عن القضاء على المقاومة وحده دون مساعدة برية.
لقد عبرت العديد من الأقوال والتصريحات الإسرائيلية المعترفة بالفشل على المقاومة في جنين عن تململ في أوساط النخبة السياسية والعسكرية الإسرائيلية، لكن ما طرحه المجتمع الإسرائيلي كانت تساؤلات جدية ومصيرية عن قدرة الجيش الحقيقية في تحقيق الأمن لهم.
كما حفلت وسائل الإعلام بعشرات ومئات المقالات التي شككت في جدوى هذه السياسة، وحذرت من عواقبها، وأكدت أن من شأن الإمساك بالخيار العسكري لوحده ضد جنين تبديد إنجازات الحملات العسكرية من جهة، وزيادة دوافع المقاومة بين الفلسطينيين من جهة أخرى، وهو ما حصل في عملية مستوطنة كدوميم بعد ساعات فقط من وقف العدوان على جنين.