بقلم ماركو كارنيولوس
ترجمة وتحرير نجاح خاطر
في خطوة اعتُبرت تاريخية، أعلنت بريطانيا، ومعها كل من أستراليا والبرتغال وكندا، اعترافها الرسمي بدولة فلسطين، قبيل انعقاد الدورة الثمانين للجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، كما تبع هذه الخطوة اعتراف فرنسا وبلجيكا، في تطور دبلوماسي غير مسبوق يضع مسألة فلسطين مجددًا في قلب السياسة الدولية.
وخلال إعلان الاعتراف، قال رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر: “اليوم، ومن أجل إحياء الأمل بالسلام للفلسطينيين والإسرائيليين، وحل الدولتين، تعترف المملكة المتحدة رسميًا بدولة فلسطين.”
ورغم أن هذه الخطوة قد تُقرأ بوصفها محاولة لإنقاذ حل الدولتين أكثر من كونها إحياءً له، إلا أن الرسالة السياسية واضحة: لا سلام عادلًا أو دائمًا إلا عبر قيام دولة فلسطينية مستقلة، مهما عارضت واشنطن وتل أبيب ذلك.
بريطانيا وتاريخها مع فلسطين
لم يكن هذا القرار سوى استحقاق متأخر، فالمملكة المتحدة هي صاحبة المسؤولية التاريخية عن “المسألة الفلسطينية” منذ عام 1917، حين تبنت حكومة لندن “وعد بلفور” سيئ السمعة، معلنة دعمها لإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين.
واليوم، وبعد مرور أكثر من قرن، يأتي هذا الاعتراف بينما تحصي غزة أكثر من 65 ألف شهيد قضوا على يد جيش الاحتلال وقوات مرتزقة مدعومة أمريكيًا، الأسوأ أن تقديرات دولة الاحتلال نفسها تشير إلى أن 83% من هؤلاء الضحايا هم من المدنيين.
وكان كير ستارمر قد مهد لقراره خلال الصيف الماضي حين صرح بأن الاعتراف سيأتي إذا لم يلتزم الاحتلال بشروط أساسية: أولها وقف إطلاق النار في غزة، وثانيها وقف أي خطط لضم الضفة الغربية، لكن حكومة بنيامين نتنياهو لم تلتزم، بل صعّدت عدوانها باجتياح بري كامل لغزة ومحاولات لاقتلاع سكانها، في حين يواصل وزراء الحكومة إعلان نيتهم ضم الضفة الغربية.
دعم غير مشروط للاحتلال
منذ عملية السابع من أكتوبر 2023، وقفت الحكومات البريطانية – أولًا حكومة المحافظين برئاسة ريشي سوناك، ثم حكومة العمال بقيادة ستارمر – خلف رواية الاحتلال ودعمه تحت شعار “حق الدفاع عن النفس”، متجاهلة قواعد القانون الدولي، والقانون الإنساني، ومبدأ التناسب في استخدام القوة.
وعلى مدار 18 شهرًا، لم تغيّر الأرقام المروعة للضحايا المدنيين في غزة شيئًا في الموقف البريطاني، ولا مقتل أعداد غير مسبوقة من الصحفيين وموظفي الأمم المتحدة والعاملين في منظمات الإغاثة على يد جيش الاحتلال.
كذلك لم تؤثر في لندن جرائم التهجير القسري الجماعي، أو منع دخول المساعدات، أو المجازر بحق الجوعى وهم يصطفون طلبًا للطعام، ولا حتى تدمير البنى التحتية الحيوية بما فيها المستشفيات.
ضغوط الرأي العام والقانون الدولي
لكن المشهد تغير خلال الأشهر الأخيرة، إذ تزايدت الضغوط الشعبية والحقوقية داخل بريطانيا، وارتفعت أصوات المجتمع المدني والبرلمان، كما أصدرت محكمة العدل الدولية آراء أولية تتحدث عن جريمة الإبادة الجماعية التي ترتكبها دولة الاحتلال في غزة، فيما وجّهت المحكمة الجنائية الدولية لوائح اتهام بحق قادة الاحتلال بتهمة ارتكاب جرائم حرب.
ولم يعد ستارمر، الذي كان محاميًا قبل أن يصبح سياسيًا، قادرًا على تجاهل هذا الكم من الأدلة، ورغم نفيه المتكرر لوقوع جريمة الإبادة، إلا أن تقرير لجنة تحقيق أممية صدر في 16 سبتمبر/أيلول أكد وجود “أدلة قوية” على أن دولة الاحتلال ترتكب إبادة جماعية، أمام ذلك، أصبح من المستحيل على لندن الاستمرار في الإنكار.
وبذلك، يستحق رئيس الوزراء البريطاني الثناء على قراره الذي وصفه كثيرون بـ”التاريخي”، ليس فقط لأنه يعيد الاعتبار للحقوق الفلسطينية، بل لأنه أيضًا يضع حدًا – ولو جزئيًا – لسياسة التبعية العمياء لواشنطن.
لم يكن انضمام بريطانيا وحدها إلى الاعتراف بدولة فلسطين حدثًا عابرًا؛ بل رافقتها أستراليا وكندا – وهما جزء من مجموعة “العيون الخمس” إلى جانب الولايات المتحدة ونيوزيلندا، و هذه المجموعة التي تقود واحدة من أكبر شبكات التجسس وتبادل المعلومات في العالم، باتت تشهد شرخًا سياسيًا واضحًا بعدما تمردت بعض أعضائها على الموقف الأمريكي التقليدي الداعم بلا حدود لدولة الاحتلال.
تحدٍ مباشر لواشنطن
منذ عقود، ظلت لندن حريصة على عدم إغضاب واشنطن، متمسكة بخصوصية “العلاقة الخاصة” التي ربطت الطرفين في السياسات الخارجية والأمنية، لكن قرار كير ستارمر الأخير يمثل خروجًا لافتًا عن تلك القاعدة غير المكتوبة.
أما السوابق التاريخية فهي نادرة؛ حيث كانت آخر مرة حاولت بريطانيا فيها إقناع واشنطن بخيار مختلف عام 2003 حين ضغط توني بلير على إدارة جورج بوش الابن لإصدار قرار أممي بشأن العراق قبل شن الحرب، لكن المسعى فشل، وخاض الطرفان الحرب خارج الشرعية الدولية، واليوم، يأتي الاعتراف بدولة فلسطين كرسالة مباشرة بأن لندن قادرة على اتخاذ قرار مستقل حتى في ملف شديد الحساسية بالنسبة لواشنطن وتل أبيب.
ما بعد فلسطين: قضايا أكثر حساسية
هذا التحدي لا يقتصر على الملف الفلسطيني، فهناك تحديان آخران أمام بريطانيا سيحددان ملامح دورها العالمي، هما العلاقة مع الولايات المتحدة وأوروبا، خصوصًا مع سياسات دونالد ترامب المثيرة للجدل، وفرضه تعريفات جمركية عقابية على الأوروبيين، إلى جانب تقلب التزامه بحماية القارة ودعمه لأوكرانيا في مواجهة روسيا.
أما التحدي الآخر فهو العلاقة مع الصين وبروز نظام عالمي بديل، حيث يشكل التكتل الاقتصادي والسياسي المتمثل في “بريكس” ومنظمة “شنغهاي للتعاون” بديلًا للنظام الغربي التقليدي، قمة تيانجين الأخيرة مطلع سبتمبر/أيلول كانت إشارة واضحة إلى تبلور توازن عالمي جديد تقوده بكين وحلفاؤها.
في هذا السياق، لم يعد بوسع أوروبا – بما فيها بريطانيا – أن ترضخ لمعادلة واشنطن: “إما نحن أو الصين”، فالأسواق الأمريكية ليست كافية لاستيعاب خسائر أوروبا إذا قاطعت الصين، أكبر سوق ناشئة في العالم، ومن ثم، فإن لندن وبروكسل معًا مدعوتان إلى إعادة النظر في ارتهانهما السياسي والاقتصادي لواشنطن.
الحاجة إلى استقلال إستراتيجي
لقد أرسل القصف الذي تعرضت له قطر من قبل دولة الاحتلال بمباركة إدارة ترامب، كما كشفت تقارير إعلامية، رسالة صادمة لأوروبا عن حدود “التحالف” مع واشنطن، فالمصالح الأمريكية، كما تؤكد التجربة، تتقدم دائمًا على مصالح حلفائها مهما كانت درجة قربهم.
ومن هنا، يبرز اعتراف ستارمر بدولة فلسطين باعتباره ليس مجرد خطوة في ملف الشرق الأوسط، بل بداية اختبار لإمكان بناء استقلالية بريطانية وأوروبية عن الهيمنة الأمريكية.
إنها لحظة فارقة قد تحدد مستقبل التوازنات الدولية، وتضع بريطانيا أمام مسؤولية إعادة تعريف سياستها الخارجية بما يخدم مصالحها الوطنية أولًا، ويعيد الاعتبار للقيم التي طالما تغنت بها: حقوق الإنسان، والعدالة، وسيادة القانون الدولي.
للاطلاع على المقال الأصلي من (هنا)