بقلم جوزيف مسعد
صوّرت وسائل الإعلام الغربية فضيحة التعذيب الجنسي الإسرائيلية الأخيرة، والتي تم بموجبها اعتقال عشرة جنود بتهمة تعذيب رجال فلسطينيين جسديا وجنسيا، على أنها نوع من الانحراف عن قواعد أساليب التعذيب الإسرائيلية المعتادة. والمقصود هنا أن تعذيب الإسرائيليين للسجناء الفلسطينيين لا يتضمن عادة عمليات اغتصاب. وقد أُطلق سراح أربعة من الجنود الإسرائيليين المعتقلين في وقت لاحق.
وصفت وزارة الخارجية الأمريكية، التي يُفترض بأنها شعرت بالفزع إزاء الواقعة، مقطع فيديو التعذيب بأنه “مروع”، وأصرت على أنه “يجب أن يكون هناك عدم تسامح على الإطلاق مع الاعتداء الجنسي واغتصاب أي معتقل، نقطة على السطر.. إذا كان هنالك معتقلون تعرضوا للاعتداء الجنسي أو الاغتصاب، فإن حكومة إسرائيل، وجيش الدفاع الإسرائيلي، بحاجة إلى التحقيق بشكل كامل في هذه الأفعال ومحاسبة أي شخص مسؤول إلى أقصى حد يسمح به القانون”. أما البيت الأبيض، والذي من المفترض أنه ينأى بنفسه أيضا عن ممارسات إساءة معاملة السجناء السياسيين المحتجزين في الزنازين الأمريكية، فقد حافظ على رباطة جأشه، ولكنه وجد أن التقارير عن التعذيب الجنسي الإسرائيلي “مقلقة للغاية”. وقد حذا الاتحاد الأوروبي حذوه وزعم أنه أيضا “قلق للغاية”.
أثار اعتقال الجيش الإسرائيلي للجنود المارقين الذين اغتصبوا السجين الفلسطيني اغتصابا جماعيا موجة من الغضب بين أوساط الإسرائيليين اليمينيين (الذين يشكلون أغلبية الناخبين الإسرائيليين) الذين حاولوا، ومعهم أعضاء في الكنيست الإسرائيلي، اقتحام منشأتين عسكريتين كان الجنود محتجزين فيهما لتحريرهم. وفي الوقت نفسه، دافع العديد من وزراء الحكومة الإسرائيلية عن اغتصاب السجناء الفلسطينيين باعتباره “عملا مشروعا”.
وقد ناقشت قناة إسرائيلية صباحية أفضل السبل لتنظيم اغتصاب السجناء الفلسطينيين، لكنها انتقدت الطريقة “غير المنظمة” التي يتم بها اغتصابهم، وهي مناقشة تبدو عادية في إسرائيل، ولكن المراقبين الغربيين تظاهروا بالصدمة إزاءها.
لكن هذا الشعور بالصدمة مُستغرَب، حيث إن منظمة حقوق الإنسان الإسرائيلية “بتسيلم” كانت قد ذكرت أن إسرائيل اتبعت سياسة منهجية لإساءة معاملة السجناء وتعذيبهم منذ شهر تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، حيث أخضعت المعتقلين الفلسطينيين لأعمال عنف، بما في ذلك الاعتداء الجنسي. وتضمن التقرير تفاصيل عن كيفية تعرض السجناء الفلسطينيين للضرب التعسفي والمعاملة المهينة والمذلة والحرمان من النوم، فضلا عن “الاستخدام المتكرر للعنف الجنسي بدرجات متفاوتة من الشدة”.
وقد تمت دعوة أحد المغتصِبين الإسرائيليين المزعومين للظهور مقنّعا على القناة 14 التلفزيونية الإسرائيلية للدفاع عن عمليات الاغتصاب. وقد أصدر لاحقا مقطع فيديو يخلع فيه قناعه على تويتر ويُظهر فخره بوحدته ومعاملتها للفلسطينيين. وفي الوقت نفسه، كانت التغطية التلفزيونية الإسرائيلية تدعو إلى وصف من سرّب مقطع الفيديو الخاص بالاغتصاب للجماعات الحقوقية بـ”الخائن” لإسرائيل.
لكن هذا ليس تطورا جديدا في مستوى وحشية النظام الاستعماري-الاستيطاني الإسرائيلي، فقد استخدم الجيش الإسرائيلي التعذيب الجسدي والجنسي بشكل منهجي ضد الفلسطينيين منذ عام 1967 على الأقل، كما كشفت جماعات حقوقية قبل سنوات. وقد كانت السادية سمة مميزة لمعاملة المستعمرين الصهاينة للفلسطينيين منذ ثمانينيات القرن التاسع عشر، كما اشتكى حتى القادة الصهاينة في تلك الفترة. لكن هذه السادية والتعذيب الجنسي الذي يصاحبها لا يستندان غالبا إلى الغطرسة الاستعمارية الأوروبية فقط، بل وأيضا إلى وجهات نظر استشراقية مفادها أن العرب “لا يفهمون إلا مبدأ القوة” فقط، وأنهم يعانون جراء التعذيب الجنسي أكثر من نظرائهم الأوروبيين البيض على المستوى النفسي والثقافي.
لكن إسرائيل ليست الوحيدة التي تستخدم هذه الممارسات. ففي أعقاب الكشف في عام 2004 عن التعذيب الجسدي والجنسي الممنهج الذي مارسته الولايات المتحدة بحق السجناء العراقيين في سجن أبو غريب في عام 2003، كشف الصحافي الأمريكي المخضرم سيمور هيرش أن الرأي القائل بأن “العرب معرضون بشكل خاص للإذلال الجنسي أصبح موضوعا للحديث بين المحافظين المؤيدين للحرب في واشنطن في الأشهر التي سبقت غزو العراق في آذار/ مارس 2003”. ووفقا لهيرش، فقد علم المحافظون الجدد الأمريكيون بمثل هذا “الضعف” من كتاب المستشرق الإسرائيلي رافائيل باتاي سيئ السمعة، الذي صدر عام 1973 تحت عنوان “العقلية العربية”. ونقل هيرش عن مصدره أن الكتاب كان “إنجيل المحافظين الجدد فيما يتعلق بالسلوك العربي”. ويؤكد مصدر هيرش أن مناقشات المحافظين الجدد برزت فيها فكرتان: “أولا، أن العرب لا يفهمون إلا القوة، وثانيا، أن أكبر نقاط ضعف العرب هي الشعور بالعار والإذلال”. ويواصل هيرش تقريره:
“أضاف المستشار الحكومي أن هناك هدفا جديا ربما كان وراء الإذلال الجنسي والصور الملتقطة. وكان من المعتقد أن بعض السجناء سيقومون بأي شيء -بما في ذلك التجسس على زملائهم- لتجنب نشر صور تعذيبهم المخزية بين أفراد الأسرة والأصدقاء. وقال المستشار الحكومي: لقد قيل لي إن الغرض من الصور هو إنشاء جيش من المخبرين، أشخاص يمكن تسريبهم مرة أخرى بين السكان. وأضاف أن الفكرة كانت أن هؤلاء المخبرين سوف يكونون مدفوعين بالخوف من الفضيحة، وسيقومون بجمع المعلومات حول أعمال التمرد الوشيكة. لكن إذا كان الأمر بالفعل كذلك، فإن هذا لم يكن فعالا؛ فقد استمر التمرد في النمو”.
لا يمثل هذا التعذيب العنصري الثقافات الإمبريالية فقط في الوقت الحاضر، بل وأيضا تاريخيا. وفيما يلي أحد هذه التقارير:
“إن أنواع التعذيب المستخدمة متنوعة، فهي تشمل الضرب بالقبضات و[الدوس] بالأحذية.. فضلا عن استخدام العصي للضرب والجلد حتى الموت… ومن أساليب التعذيب التي استخدمها الجنود في التعذيب إدخال العصي في شرج الضحايا، ثم تحريك العصا يمينا ويسارا، وأماما وخلفا. كما تضمنت أساليب التعذيب الضغط على الخصيتين باليدين وعصرهما حتى يفقد الضحية وعيه من شدة الألم، وحتى تتورم الخصيتين إلى الحد الذي لا يستطيع معه الضحية المشي أو الحركة إلا بحمل رجليه الواحدة تلو الأخرى.. كما تضمنت أساليب التعذيب تجويع الكلاب ثم استفزازها ودفعها لالتهام لحم السجين وأكل فخذيه. كما تضمنت أساليب التعذيب التبول على وجوه الضحايا.. [ومن أشكال التعذيب الأخرى] اعتداء الجنود عليهم، حيث يبدو أن عددا من الأشخاص قد تعرض لذلك”.
كُتِب هذا التقرير الذي يصف بعبارات متطابقة تقريبا ما عاشه الأسرى العراقيون في عام 2003 على أيدي الأمريكيين أو ما عاشه الأسرى الفلسطينيون منذ عام 1967 على أيدي الإسرائيليين؛ في آب/ أغسطس 1938 لوصف معاملة الجنود البريطانيين واليهود الصهاينة للثوار الفلسطينيين أثناء الثورة الفلسطينية الكبرى ضد الاستعمار في ثلاثينيات القرن العشرين. وكان كاتب التقرير “صبحي الخضرا” سجينا سياسيا فلسطينيا معتقلا في سجن عكا، وقد علم بالتعذيب الذي تعرض له هؤلاء الأسرى والذي جرى في القدس، عندما نقل الأسرى لاحقا إلى سجنه في عكا، ورووا له تجاربهم وأظهروا له علامات التعذيب على أجسادهم. وقد وصف الخضرا دوافع الجلادين البريطانيين على النحو التالي:
“لم يكن هذا تحقيقا تستخدم فيه أساليب القوة، لا، لقد كان انتقاما وإطلاقا لأشد الغرائز وحشية وهمجية وروح الكراهية المركزة التي يشعر بها هؤلاء الرعناء تجاه المسلمين والعرب. قاموا بالتعذيب من أجل التعذيب فقط، وإشباع شهيتهم للانتقام، وليس من أجل التحقيق أو الكشف عن الجرائم”.
وقد تم نشر تقرير الخضرا في الصحافة العربية وتم إرساله إلى أعضاء البرلمان البريطاني.
يتميز مزيج الجنس والعنف في بيئة إمبريالية أمريكية (أو أوروبية أو إسرائيلية) بالعنصرية والسلطة المطلقة، وهو ممارسة معتادة وليست استثنائية. فأثناء حرب الخليج “الأولى” في عامي 1990 و1991، أمضى طيارو المقاتلات والقاذفات الأمريكيون ساعات في مشاهدة الأفلام الإباحية ليضعوا أنفسهم في المزاج المناسب للقيام بالقصف الهائل الذي نفذوه في العراق. وفي فيتنام، لم يتم تطبيع اغتصاب الجنود الأمريكيين للنساء الفيتناميات المقاتلات أثناء الغزو والاحتلال الأمريكي للبلاد فحسب، بل كان جزءا من تعليمات التدريب للجيش الأمريكي. وقد ساد النموذج الاستشراقي والجنساني نفسه الذي يشكّل المواقف الإسرائيلية تجاه السجناء الفلسطينيين بين الأمريكيين في فيتنام. والواقع أن اغتصاب الإسرائيليين للنساء الفلسطينيات تمت َ”سلْحَنَتُه” (أو جعله سلاحا) أثناء حرب عام 1948 وبعدها على أساس عنصرية سادية مماثلة. كما استمرت عمليات التعذيب والانتهاك الجنسي التي تمارسها إسرائيل بحق الرجال والنساء الفلسطينيين في الضفة الغربية وغزة على مدى الأشهر العشرة الماضية، كما أفادت الأمم المتحدة والجماعات الحقوقية.
إن التظاهر بأن الجيش الإسرائيلي “جيش أخلاقي”، ناهيك عن كونه “الجيش الأكثر أخلاقية في العالم”، كما تزعم العنصرية الإسرائيلية في كثير من الأحيان، ليس أكثر من محاولة جديدة من حملات العلاقات العامة للتغطية على جرائم الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني. وبما أن قتل واغتصاب الفلسطينيين وسرقة أراضيهم وبلادهم كانت استراتيجية إسرائيلية مستمرة منذ عام 1948، فإن تحقيق الجيش الإسرائيلي في جريمة الاغتصاب الجماعي التي كُشف عنها مؤخرا لسجين فلسطيني لا يمكن أن يقوم سوى بإعادة تأكيد حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها مع التمسك بالمبادئ الأخلاقية والقانونية الأكثر نبلا، وهي المبادئ الأخلاقية والقانونية نفسها التي سمحت لإسرائيل منذ عام 1948 باقتلاع شعب بأكمله من وطنه واضطهاده من دون عقاب.
للإطلاع على النص الأصلي من (هنا)