بقلم عبد أبو شحادة
ترجمة وتحرير نجاح خاطر
يؤذن اغتيال خمسة من صحفيي قناة الجزيرة يوم الأحد، وما تلا ذلك من إعلان فوري لجيش الاحتلال عن مسؤوليته عن العملية بدخول مرحلة جديدة في خطة الاحتلال لغزة، مرحلة عنوانها القتل المتعمّد بهدف إسكات التوثيق الفلسطيني لجرائم الحرب والاحتلال العسكري.
ويجسد هذا الفعل آلية تنفيذ قرار حكومة نتنياهو باحتلال غزة، ويؤكد، في ظل تصاعد الضغوط الدولية والانقسامات العميقة في المجتمع والسياسة داخل الدولة العبرية، أن إدارة نتنياهو تجاوزت نقطة اللاعودة، في ظل إدراك تام بأن عجلة التاريخ بدأت تدور ضد تل أبيب، بعد الفظائع التي ارتكبتها على مدار العامين الماضيين من الإبادة الجماعية.
وبسبب هذا الإدراك بالذات، يسعى رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو إلى إعادة صياغة قواعد اللعبة، سواء داخل السياسة المحلية أو على الساحة الدولية، معتمدًا على القمع العنيف لكل أشكال المقاومة، واضعًا نصب عينيه هدفًا مركزيًا يتمثل في القضاء التام على التطلعات الوطنية الفلسطينية، مهما كان الثمن.
ورغم الانتقادات الحادّة والمُبرّرة من داخل الأوساط المؤيدة لفلسطين بشأن اعتراف بعض الدول الغربية بالدولة الفلسطينية، خاصةً في ضوء دعمها السابق، سواء بشكل مباشر أو ضمني، للإبادة الجماعية في غزة، يدرك نتنياهو أن لهذا الاعتراف وزنًا دبلوماسيًا محتملاً.
فالقرار بحد ذاته لا يحمل قيمة أخلاقية مطلقة، إذ لا يمكن اعتباره إيجابيًا أو سلبيًا بطبيعته، وإنما كأداة سياسية، تتحدد أهميته وفقًا للطريقة التي تختار بها القيادة الفلسطينية استخدامه.
لكن، وبعد مرور 22 شهرًا على الإبادة في غزة، لم يصدر عن رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس سوى تصريح سياسي واحد ذي دلالة، حين أهان حركة حماس ونعَت أبناءها بـ “الكلاب”، في وقت يواصل فيه هو التنسيق الأمني مع الاحتلال، متجاهلًا ما تقوم به قواته من خطوات منهجية لخنق السلطة اقتصاديًا ودفعها نحو الانهيار.
الاعتراف بالدولة الفلسطينية
المستقبل بطبيعته ديناميكي وغير قابل للتنبؤ، ولا توجد ضمانات بأن القيادة الحالية أو الوضع القائم في العلاقة بين السلطة الفلسطينية والاحتلال سيبقى على حاله.
فإذا مضت فرنسا في تنفيذ وعدها بالاعتراف بدولة فلسطينية، فستُجبر حينها على الاعتراف بأن استيلاء نتنياهو المرتقب على غزة يُعد غزوًا لأراضي دولة ذات سيادة، ما سيُلزم باريس باتخاذ خطوات اقتصادية ودبلوماسية ردًا على ذلك.
وحتى إن لم تُتخذ مثل هذه الإجراءات في ظل القيادة الفلسطينية الحالية، فإن الاعتراف نفسه سيبقى أداة يمكن أن تستفيد منها قيادات فلسطينية مستقبلية.
وبذات القدر من الأهمية، يدور نقاش داخل الحركات الداعمة للقضية الفلسطينية، في ظل انتقادات مشروعة للدول الغربية والعربية التي تحاول التهرب من تقديم حل عادل من خلال العودة إلى إطار “حل الدولتين”.
وهذه الانتقادات محقة، خصوصًا أن الجغرافيا المتخيلة التي يتبناها المجتمع الدولي بين النهر والبحر، وآليات عمل المؤسسات السياسية والاقتصادية، منفصلة تمامًا عن الواقع القائم.
فموازين القوى تميل بشكل مطلق لصالح الاحتلال، حيث يعتمد الاقتصاد الفلسطيني هيكليًا على اقتصاد الاحتلال، فيما تتوزع المستوطنات عمدًا في أنحاء الضفة الغربية المحتلة لإعاقة تواصل الجغرافي، وفيما يعيش الفلسطينيون في ظل مجموعة متشابكة من الوضعيات السياسية، جميعها خاضعة لمؤسسات تتحكم فيها تل أبيب.
لهذا السبب، أرى أنه لا جدوى من النقاش حول “الحلول” السياسية في هذه اللحظة التاريخية، فمثل هذه النقاشات أقرب إلى تمرينات ميتافيزيقية، منفصلة عن غياب أي مشروع سياسي فلسطيني قابل للتطبيق، سواء في إطار حل الدولتين أو الدولة الواحدة.
وعليه، فإن ما هو مطلوب الآن هو مقاومة مباشرة لسياسات الاحتلال، سواء في الضفة الغربية المحتلة أو في غزة.
وتبدو نوايا دولة الاحتلال واضحة، وهي تتمثل في تهجير السكان، فرض سيطرة كاملة على غزة، والهندسة السياسية والاجتماعية للضفة الغربية المحتلة، ومن المرجّح أيضًا أن تسعى لتغيير الوضع القائم في المسجد الأقصى، في الوقت الذي تمنح فيه نفسها تفويضًا باستخدام قوة غير متناسبة وغير مسبوقة.
وقد يشير البعض إلى وجود قيود على تل أبيب، من بينها معارضة قياداتها الأمنية لغزو غزة، انطلاقًا من قناعتهم بأن الاحتلال سيُنتج حتمًا مقاومة فلسطينية، كما يُحذر اقتصاديون في دولة الاحتلال من أن مثل هذه السيطرة قد تكلّف مليارات الشواكل وتثقل كاهل الاقتصاد الإسرائيلي.
تفكيك الطموحات الوطنية الفلسطينية
لكن بالنسبة لبنيامين نتنياهو، لا تتوقف الحسابات عند حدود بقائه السياسي أو هزيمة حركة حماس، فهدفه الأبعد هو تفكيك فكرة الطموحات الوطنية الفلسطينية من أساسها، وهو يدرك تمامًا أن الحرب ستُكلّف ثمنًا باهظًا، غير أنه مستعد هو وحلفاؤه وشرائح واسعة من مجتمع الاحتلال لدفعه.
صحيح أن دولة الاحتلال تعاني من نقص في القوات، وتراجع في المعنويات، وتململ بين عائلات الأسرى، وأزمة مجتمعية تعكس تصدعات أعمق في المشروع الصهيوني، خاصة فيما يتعلق باستعداد الدولة للتضحية بالأسرى من أجل تحقيق أهدافها الحربية، غير أن هذه التحديات لم تُفضِ إلى ظهور حركة احتجاج جماهيرية تُطالب بوقف الحرب.
فالاحتجاجات الوحيدة ذات الزخم في الدولة العبرية هي تلك المطالبة بالإفراج عن الأسرى، ولا توجد قوة سياسية أو اجتماعية إسرائيلية تُعبّئ الشارع ضد الإبادة الجارية.
والأسوأ من ذلك، أن المزاج العام في دولة الاحتلال يتأرجح اليوم بين الخوف الوجودي الذي شكّلته أحداث العامين الماضيين وبين الإيمان بأن القوة العسكرية وحدها هي السبيل إلى الأمان. ويدرك نتنياهو هذا الواقع تمامًا، فعند اللحظة الحاسمة، ستكون هناك تعبئة شعبية واسعة لصالح مجهود الحرب.
ومن الممكن أن تعمل الضغوط الدولية المتزايدة على بناء حواجز قانونية ودبلوماسية تحول دون تهجير الفلسطينيين من غزة والضفة الغربية المحتلة، بل وربما تسعى أيضًا إلى خلق أدوات ضغط اقتصادي على دولة الاحتلال وقطاعها الخاص.
لكن هذا الواقع يفتح أيضًا هامشًا للمناورة السياسية أمام الفلسطينيين، ليس فقط من أجل وقف الإبادة، بل للدفع باتجاه التحرر الوطني.
لا شيء محتوم أو قدري، لكن من واجبنا استخدام كل أداة سياسية متاحة لوقف خطط الاحتلال على المدى القريب، وللأسف، أظهرت الساحة الدولية أن الدول سواء الغربية أو العربية مستعدة لتجاهل الرأي العام الداخلي ودعم الإبادة إذا توافقت مع مصالحها الاقتصادية أو الأمنية.
هذا هو الواقع الذي نعيش فيه، وفي هذا الواقع، علينا أن نبني تحالفات شعبية من القاعدة، وأن نتعامل مع الاعتراف بالدولة الفلسطينية لا باعتباره أمرًا جيدًا أو سيئًا بحد ذاته، بل كأداة نضالية لمنع تهجير الفلسطينيين من أرضهم، ولحماية القضية الفلسطينية من الطمس.
فإن لم يحدث ذلك، فإن المجزرة المتعمّدة التي أودت بحياة خمسة من صحفيي قناة الجزيرة لن تكون سوى بداية لمرحلة مرعبة جديدة من هذا الصراع، مرحلة قد تنجح فيها دولة الاحتلال في إسكات التوثيق الفلسطيني لجرائمها عمدًا، بينما يقف العالم متفرجًا بصمت.
للاطلاع على المقال الأصلي من (هنا)