بقلم بيتر أوبورن
يبدأ الكاتب بيتر أوبورن مقالته بنقل ما رأته عينه حين زار المدينة المقدسة قبل شهر بقوله ” لقد بدا واضحاً أن إسرائيل بدأت بإحكام قبضتها على المكان المقدس”، ليربط ذلك في مقالته بتسلم المتطرف اليميني إيتمار بن غفير وزيراً للأمن القومي، فماذا يعني ذلك بالنسبة للمكان المقدس في المرحلة القادمة؟
فيما يلي نص المقال:
لم تكن هذه الزيارة الأولى للسياسي اليميني ورئيس حزب “القوة اليهودية”، إيتمار بن غفير، إلى ساحات المسجد الأقصى، غير أنها المرة الأولى له كوزير في حكومة إسرائيلية، حيث تكمن خطورة هذه الزيارة في رسالة تحملها مفادها أن عناصر الحكومة الإسرائيلية الجديدة جاهزون لطمس ملامح أي ترتيبات سابقة كانت قد حافظت على السلام في البقعة المقدسة بشكل أو بآخر لقرون، ومستعدة لعواقب كارثية.
زيارة بن غفير للأقصى حملت رسالة مفادها أن عناصر الحكومة الإسرائيلية الجديدة جاهزون لطمس ملامح أي ترتيبات كانت قد حافظت على السلام في البقعة المقدسة بشكل أو بآخر لقرون
ويقصد بترتيبات الواقع مجموعة التفاهمات التي سمحت بوجود الأديان السماوية الثلاثة في البقعة المقدسة، ابتداء من معاهدة برلين بين الامبراطورية العثمانية وبريطانيا كقوتين عظميين عام 1878، وانتهاء بالوصاية الهاشمية على المسجد الأقصى، حيث نصت هذه التفاهمات على أن الصلاة في المسجد الأقصى مقتصرة على المسلمين، بينما يستطيع غير المسلمين زيارة الأقصى تحت إشراف الأوقاف الأردنية الفلسطينية المشتركة، ووفقاً لهذا التفاهم يسمح لليهود بالصلاة عند حائط البراق الغربي فقط، ولكن السلطات الإسرائيلية في الواقع تحكم سيطرتها على المسجد كاملاً.
لسنوات، ظل المسؤولون السياسيون والأمنيون الإسرائيليون يدركون الحاجة للحفاظ على هذا التفاهم وذلك بعد احتلال القدس عام 1967، خاصة أن الحاخامية الإسرائيلية الرئيسية أصدرت فتوى دينية بحرمة زيارة الهيكل في وضعه الحالي، ولكن مع مرور الوقت تجاوزت إسرائيل أي تفاهم سابق أو حرمة دينية وتخطت الأوقاف الإسلامية، وتزايدت اقتحامات اليهود المتدينين وسياسيين يمنيين للمسجد الأقصى، حتى صار هناك اقتحامات منظمة وشبه يومية منذ 2017.
خطورة الوضع الراهن
في تاريخ إسرائيل، تبرز شخصيتان من السياسيين الإسرائيليين في تجاوز التفاهم على المنطقة المقدسة، الأول كان أرئيل شارون، الذي اقتحم ساحات الأقصى مع عدد من أعضاء الكنيست بحراسة ألف شرطي إسرائيلي في سبتمبر عام 2000، الأمر الذي تسبب باستفزاز كبير للفلسطينيين وتفجير الانتفاضة الثانية، وفرضت تضييقات على دخول المسجد للمسلمين وغير المسلمين على حد سواء لثلاث سنوات بعد ذلك، وبعد انتخاب شارون رئيساً للوزراء، أعاد فتح المسجد لليهود أيضاً هذه المرة، ومنذ ذلك الحين تم تجاوز اتفاق “الوضع الراهن”، وقد شاهدت ذلك بعيني حين زرت الأقصى قبل شهر.
نظرياً، وبحسب اتفاق “الوضع الراهن”، يتولى الأردن إدارة الحرم القدسي، ولكن القوات الإسرائيلية هي التي تديره على أرض الواقع، حتى أن لها مكتباً للشرطة داخل ساحات المسجد شمال قبة الصخرة، بالإضافة إلى نقطة تجمع لعشرات من عناصر الشرطة المسلحين قرب المسجد القبلي، فسألتهم “ماذا تفعلون هنا؟” فأجاب أحدهم “نحن هنا للحماية، لحماية اليهود بالتحديد، لأن المسلمين لا يرحبون بقدومهم”.
استراتيجية قديمة
عندما كنت هناك، شاهدت مجموعة من اليهود المتدينين يدخلون إلى باحات الأقصى وعيونهم تحدق بقبة الصخرة، فأجابني أحدهم عند سؤاله عن سبب توجيه نظرهم إلى قبة الصخرة ” هذا مكان الهيكل الذي سيكون هنا يوماً”، فمنذ عقدين حتى الآن، تم اختراق أي تفاهمات سابقة، فجماعات “الهيكل” اليهودية تقتحم المسجد المقدس بشكل شبه يومي وبحماية الشرطة الإسرائيلية، وهو تجاوز ينذر بتفجر الأوضاع ليس في القدس الشرقية فقط، وإنما في مناطق أخرى أيضاً.
أما المتطرف إيتمار بن غفير، وزير الأمن القومي في الحكومة الإسرائيلية الحالية، فهو الشخص الثاني الذي شكلت زيارته للمسجد الأقصى، مرة برفقة وزير المالية رفيقه المتطرف بتسلإيل سموتريش، والأخيرة التي قام بها وحده، سبباً جديداً لإثارة الجدل واستفزاز المسلمين، خاصة في ظل انتمائه لخطاب ديني يدعو إلى إزالة الأقصى وبناء الهيكل مكانه.
“أطلقت القوات الإسرائيلية الرصاص على حراس الأقصى دون أن يقوموا بفعل شيء، إصابتان في العين، هذا ليش أمراً عشوائياً” مسؤول في أوقاف القدس
خلال تواجدي في القدس، أخبرني مسؤول في أوقاف القدس، أن السلطات الإسرائيلية تعمل على سحب السيادة في المسجد من الأوقاف بالتدريج، فالأوقاف باتت ملزمة بإبلاغ السلطات الإسرائيلية في حال قررت طلاء الجدران مثلاً، “مرة جاء مهندس لإصلاح أنابيب صدئة داخل الحرم، أوقفته الشرطة واعتقلته، وظلت المياه تتسرب لأيام عدة، لا يسمحون لنا بالحفر أو إدخال المعدات أو الاسمنت لإصلاح الأعطال، بينما تقوم السلطات الإسرائيلية بما تريد من حفريات وأنفاق تحت المسجد”.
حدثني المسؤول أيضاً عن اعتقال السلطات الإسرائيلية لحراس الأقصى بشكل دائم، يقول ” يستغلون أي موقف مهما كان بسيطاً لفعل ذلك، وإذا اقتربوا من المقتحمين اليهود يطلقون عليهم الرصاص المطاطي، دون أن يقوموا بشيء، إصابتان في العين، هذا ليس أمراً عشوائياً”، وأضاف “في مرة أطلقوا رصاصاً مطاطياً على صدر مصلٍ كان برفقة أطفاله، لم يفعل شيئاً، كان هناك متظاهرون قريباً منه”، أما المستوطنون اليهود فهم “يرفعون العلم الإسرائيلي ويرددون نشيدهم وتراتيل دينية داخل الأقصى ولا يفعلون لهم شيئاً، رغم أن ذلك كان ممنوعاً بقوانينهم في السابق”.
هل هي حرب دينية؟
تسيطر القوات الإسرائيلية على باب المغاربة سيطرة كاملة منذ احتلالها للقدس الشرقية عام 1967، فهو الباب الذي يدخل منه غير المسلمين، الأمر الذي يعني أن الأوقاف لا تملك أي سلطة عليه، وتستطيع القوات الإسرائيلية الدخول منه متى شاءت، وهذا انتهاك صارخ لترتيبات ضمنية سابقة.
في السنوات الأخيرة، هاجمت القوات الإسرائيلية في مناسبات عدة، تضمنت اقتحام الشرطة للجامع القبلي والاعتداء على المصلين، وهذا انتهاك آخر لتفاهمات سابقة، ولا يتوقف الأمر هنا، فوفقاً لمسؤول أردني سابق “باتت إسرائيل تشير إلى العرب المقدسيين على أنهم مستأجرون سيتم إجلاؤهم في نهاية المطاف”.
قبل مغادرتي، ذهبت للقاء الشيخ عزام الخطيب، مدير عام أوقاف القدس وشؤون المسجد الأقصى، فقال لي بنبرة قوية واثقة “نحن نصلي في الأقصى منذ 1500 عام، إسرائيل تحاول تغيير الواقع التاريخي للأقصى، تنشر قواتها وتنصب الحواجز في كل مكان، وتضيق على المصلين وتمنعهم من الدخول في أوقات كثيرة، كما منعونا من تنفيذ 20 مشروعا كبيرا داخل الأقصى”، وأضاف ” إنهم يحكمون قبضة حديدية حول الأقصى، وهذا ينذر بحرب دينية واسعة تتخطى حدود القدس”.