بقلم مها الحسيني
ترجمة وتحرير نجاح خاطر
اعتادت أمل البيوك أن تحضر في كل صباح، خلال الأيام الأربعة الماضية، إلى مستشفى ناصر لتفقد عمليات إخراج الجثث، لكنها، كما الكثيرين من أهالي المفقودين الذين يواصلون القدوم إلى هذه البقعة المدمرة من خان يونس، كانت تعود وخيبة الأمل مرسومة على وجهها.
يبدأ عمال الإنقاذ باستخراج الجثث مبكراً، ومع توالي ساعات اليوم يتم إخراج العشرات من تحت الأنقاض حيث تقول البيوك: “كنت أنظر إلى وجه كل جثة يتم إخراجها، لكنني لم أهتدِ إلى ابني بعد”.
وبالنسبة للأمهات الفلسطينيات اللاتي ينتظرن بفارغ الصبر حول حفر المقابر الجماعية، فإن أي أخبار عن أبنائهن تعتبر أخباراً جيدة، حتى لو كانت تُفيد بموتهم، فبعضهم لا يزال مفقوداً منذ ثلاثة أشهر.
يصعب التمييز بين ملامح الجثث، إذ يمكن أن تكون بعض الجثث متحللة بشدة أو تعرضت للتشويه بطريقة ما، وعن ذلك تقول البيوك: “إذا لم تكن ملامح وجه ابني واضحة، فسوف اتعرف عليه من أسنانه، كان لديه سن مرتفع فوق بقية أسنانه، يمكنني أن أميزه بهذه الطريقة”.
ينتشر الدمار في كل ركن حول المقابر الجماعية هناك، حتى أن مباني مستشفى ناصر المتبقية أصبحت مجرد هياكل مجوفة، حيث تم ببساطة محو المنطقة المحيطة بها.
وشرعت قوات الاحتلال في عدوانها على خان يونس في كانون الثاني/يناير، ودفع العدوان السكان إلى النزوح، ولجأ نحو 10,000 منهم إلى مستشفى المدينة الواقعة جنوب قطاع غزة، فضلاً عن وجود 450 مريضاً و300 موظفاً.
وتعرض المستشفى نفسه للهجوم بشكل متكرر من قبل الاحتلال، ففي شباط/فبراير شنت قوات الاحتلال هجوماً على المنشأة، وبقيت هناك إلى أن انسحبت من مدينة خان يونس تماماً في وقت سابق من هذا الشهر.
وبعد انسحابها من هناك، اكتشف الفلسطينيون العائدون أكواماً لافتةً للشك من الرمال والأتربة خارج أنقاض المستشفى، حيث قال يامن أبو سليمان، رئيس فريق البحث والإنقاذ بالدفاع المدني بخان يونس، إنه تم العثور على ثلاث حفر للدفن في المكان.
كان طاقم المستشفى قد عمد إلى نبش أول حفرتين حول محيط أسوار المستشفى أثناء حصار الاحتلال له، لكن أفراد الطاقم لم يتمكنوا من نقل الجثث بأمان إلى المقابر.
وفي 27 كانون الثاني/يناير، قال مسؤولو الصحة إنهم دفنوا 150 شخصاً في أرض المستشفى، فيما يبدو أن حفرة ثالثة قد تم حفرها من قبل جنود الاحتلال عندما احتلوا الموقع.
وينفي جيش الاحتلال قيامه بحفر أي قبور، قائلاً إنه استخرج الجثث “بكل احترام” أثناء البحث عن بعض الأسرى الإسرائيليين الـ 133 الذين تم أسرهم خلال الهجوم الذي شنته حماس على مستوطنات غلاف غزة في 7 تشرين الأول/أكتوبر.
ووفقاً لأبو سليمان، فإن جنود الاحتلال لم يكتفوا بنبش القبور فحسب، بل حفروا حفرة جديدة وألقوا فيها العديد من الجثث، “بما فيها جثث الذين استشهدوا داخل المستشفى”.
وعندما بدأ عمال الإنقاذ في إزالة أكوام الرمال المحيطة بالمستشفى، لم يتوقعوا أبداً ظهور أطراف الشهداء أثناء الحفر، وقد كان من بينهم رجال ونساء وأطفال يقول عمال الإنقاذ ومكتب حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة أن أيدي بعضهم كانت مقيدة خلف ظهورهم.
ووفقاً للدفاع المدني، فقد تم العثور على جثث كان أصحابها يرتدون الزي الذي يستخدمه الاحتلال للمعتقلين، وبدت على بعضهم آثار إصابات بالرصاص في الرأس.
وقال أبو سليمان: “لقد أخرجوا 330 جثة حتى الآن من موقع دفن واحد، ولا يزال هناك حفرتان أخريان للتحقق منهما”.
نار تحرق قلبي
وخلال ستة أشهر من الحرب، قتل الاحتلال 34 ألف فلسطيني، وما زال آلاف آخرون في عداد المفقودين، بعضهم دُفن تحت أنقاض المباني التي قصفت، والبعض الآخر اختفى دون أن يترك أثراً، ومن بينهم مدحت سليمان عطا ابن أمل البيوك.
تنحدر العائلة من خان يونس، ولكنها لجأت إلى رفح، مثل 1.5 مليون فلسطيني آخرين نزحوا من مختلف أنحاء قطاع غزة، وفي الثاني من شباط/فبراير ذهب مدحت للتنزه لكنه لم يعد.
وتتذكر والدته لحظات خروجه قائلةً: “لقد خرج رغم أن الوقت كان ليلاً وكان هناك الكثير من التفجيرات في مكان قريب، وكان الأمر مرعباً.
وبحثاً عن أي خبر عنه، قامت عائلة مدحت بوضع صوره على الزجاج الأمامي للسيارات في شوارع رفح، حيث تقول أمه: “لقد رأى أحدهم صورته وأخبرنا أنه رآه في المستشفى أثناء حصاره من قبل جنود الاحتلال، لكن لا أعرف ما إذا كان قد أصيب وتم إحضاره إلى هناك أم ماذا”.
وقال الشاهد للوالدة المكلومة إن “جنود الاحتلال أمروا الجميع بمغادرة المستشفى، وعندما وصل مدحت إلى المدخل، طالبه الجنود بإبراز هويته، فأخبرهم أنها ليست مع، فأطلقوا عليه النار ثلاث مرات في صدره”.
واستدركت الأم بالقول: “لا أعرف مدى موثوقية القصة، لكنني مستمرة في البحث عنه ولا ينبغي لأحد أن يمر بما مررنا به”.
وأردفت الأم تقول في وصف الحفرة التي تترقب خروج جثمان ابنها من داخلها: “إنها حارة مثل النار، أريد إغلاقها، إذا وجدته شهيداً فلا خسارة، فهو عند ربنا، ولكن إذا لم أجده أبداً، فسيظل قلبي دائماً يتألم وسأظل أبحث عنه طوال حياتي”.
“الوضع مأساوي حقا”
يرتدي معظم الناس المتجمعين في مستشفى ناصر الأقنعة التي لا تؤثر كثيراً لإخفاء رائحة اللحم المتعفن وإن كانت تساعد قليلاً.
وبين الحين والآخر، يضطر الفلسطينيون الذين ينتظرون فحص الجثث إلى الابتعاد وأخذ قسط من الراحة من رائحة الموت ولذلك تفضل تهاني أبو رزق (45 عاماً) أن تحكي قصتها خارج أسوار المستشفى وهي تقول: “كما ترون الوضع هنا في ناصر مروع حقاً”.
في 23 كانون الثاني/يناير، كان أحمد شقيق أبو رزق وأفراد آخرين من عائلتها يجلسون في مقهى على الشاطئ في المواصي، وهي بلدة تقع على بعد بضعة كيلومترات شرق خان يونس، عندما سقط صاروخان على المكان، مما أدى إلى استشهاد أحمد واثنين من أبناء عمومته.
وقيل لأبو رزق إن أحمد نُقل إلى مستشفى ناصر مع المصابين في الهجوم ودُفن في الأرض دون أن يتسنى لأحد العثور على جثته.
وتقول أبو رزق: “لا نعرف ما الذي بقي منه، هل تم حرقه حتى الموت؟ هل لا يزال هناك حتى ولو هيكلاً عظمياً؟”.
وتقول أبو رزق: “نريد فقط العثور على أي شيء يخصه، حتى ولو قطعة صغيرة من الملابس، حتى نشعر وكأننا عثرنا عليه، كان الله في عون أطفاله، لقد ظلوا يبكون منذ ثلاثة أشهر”.
للاطلاع على النص الأصلي (هنا)