الآن… الغرب يريد “ضبط النفس” بعد أشهر من دعم الإبادة الجماعية في غزة؟!

بقلم جوناثان كوك

ترجمة وتحرير مريم الحمد

على نحو مفاجئ، أصبح الساسة الغربيون، بدءاً من الرئيس الأميركي جو بايدن وليس انتهاء برئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك، من المدافعين المتحمسين عن “ضبط النفس” لتجنب حريق إقليمي.

قامت إيران بإطلاق وابل من الطائرات بدون طيار والصواريخ على إسرائيل قبل أيام، فيما كان بمثابة استعراض رمزي للقوة رغم إسقاط العديد منها إما بواسطة أنظمة اعتراض إسرائيلية تمولها الولايات المتحدة أو بواسطة الطائرات المقاتلة الأمريكية والبريطانية والأردنية. 

“أنتم تعلمون جيداً أن الهجوم على بعثة دبلوماسية هو سبب للحرب بموجب القانون الدولي، فلو تعرضت بعثاتكم لهجوم، فلن تترددوا في الرد” – فاسيلي نيبينزيا- سفير روسيا لدى الأمم المتحدة 

كان هذا أول هجوم مباشر من قبل دولة على إسرائيل منذ أن أطلق العراق صواريخ سكود خلال حرب الخليج عام 1991، وعلى عجل تم انعقاد مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، حيث دعت واشنطن وحلفاؤها إلى تهدئة التوترات التي يمكن أن تؤدي بسهولة إلى اندلاع الحرب في الشرق الأوسط وربما خارجه.

خلال الاجتماع، قال الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش: “لا المنطقة ولا العالم قادران على تحمل المزيد من الحروب، لقد حان الوقت لنزع فتيل التوتر ووقف التصعيد”.

في الوقت نفسه، تعهدت إسرائيل بجعل إيران تدفع الثمن لكن في الوقت الذي تختاره، فيما تحول الغرب بشكل مفاجئ إلى “ضبط النفس”، وهو تحول يحتاج إلى بعض التوضيح، ففي نهاية المطاف، لم يُظهر الزعماء الغربيون أي ضبط للنفس عندما قصفت إسرائيل القنصلية الإيرانية في دمشق قبل أسبوعين.

بموجب اتفاقية فيينا، لا تعد القنصلية محمية كمنشأة دبلوماسية فحسب، بل يُنظر إليها على أنها أرض إيرانية ذات سيادة، وبذلك يعتبر هجوم إسرائيل عليها عملاً عدوانياً يرقى إلى “جريمة دولية كبرى”، كما قضت محكمة نورمبرغ في نهاية الحرب العالمية الثانية.

هذا ما جعل طهران تستند في هجومها إلى المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة والتي تسمح لها بالتصرف دفاعاً عن النفس.

حماية إسرائيل

رغم السياق السابق، فقد تمت إدانة الهجوم باعتباره عدواناً على إسرائيل وهجوماً صارخاً على ما يسمى “النظام القائم على القواعد”، الذي تبجله الولايات المتحدة، مما جعل القادة الغربيين يصطفون خلف الدولة المفضلة لواشنطن، إسرائيل.

على ما يبدو، فإن “ضبط النفس” الذي يطالب به الغرب لم يرتبط إلا بالجهود التي بذلتها وتبذلها إيران من أجل الدفاع عن نفسها!

يذكر أنه وفي اجتماع لمجلس الأمن في 4  إبريل، أظهرت الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا رفضاً لضبط النفس من خلال عرقلة صدور قرار كان من شأنه أن يدين الهجوم الإسرائيلي على القنصلية الإيرانية، وهو التصويت الذي لو لم يتم إحباطه لكان كافياً لتهدئة طهران.

من ناحية أخرى، فقد أبدى وزير الخارجية البريطاني، ديفيد كاميرون، إعجابه بتسوية إسرائيل للمباني الدبلوماسية الإيرانية بالأرض، قائلاً: “أتفهم تماماً الإحباط الذي تشعر به إسرائيل”.

يمكن القول أنه من خلال حماية إسرائيل من أي عواقب دبلوماسية لعملها الحربي ضد إيران،  لم تدرك القوى الغربية أنها جعلت طهران مضطرة إلى رد عسكري.

ومع ذلك، فالأمر لم يتوقف عند هذا الحد، فبعد أن أثار شعور إيران بالظلم في الأمم المتحدة، تعهد بايدن بتقديم دعم “قوي” لإسرائيل مقابل عواقب وخيمة على طهران إذا تجرأت على الرد على الهجوم على قنصليتها، إلا أن إيران تجاهلت تلك التهديدات وأطلقت نحو 300 طائرة مسيرة وصاروخ، وكأنها احتجاج على تقاعس الأمم المتحدة عن الأخذ بحقها.

لقد فشل القادة الغربيون في ملاحظة ذلك، فقد وقفوا مرة أخرى إلى جانب إسرائيل و أدانوا طهران، ففي اجتماع مجلس الأمن الأخير عقب الهجمة الإيرانية، سعت الدول الثلاث نفسها، الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا، إلى إدانة رسمية لطهران على ردها.

من جانب آخر، فقد سخر سفير روسيا لدى الأمم المتحدة، فاسيلي نيبينزيا، مما أسماه “النفاق الغربي والمعايير المزدوجة”، وأضاف بقوله: “أنتم تعلمون جيداً أن الهجوم على بعثة دبلوماسية هو سبب للحرب بموجب القانون الدولي، فلو تعرضت بعثاتكم لهجوم، فلن تترددوا في الرد”.

لم يكن هناك أي قدر من ضبط النفس في تواطؤ الغرب علناً مع إسرائيل في إحباط الهجوم الإيراني، فقد أشاد رئيس الوزراء البريطاني، ريشي سوناك، بطياري سلاح الجو الملكي البريطاني على “شجاعتهم وحرفيتهم” في المساعدة على “حماية المدنيين” في إسرائيل.

وفي بيان له، أدان زعيم حزب العمال، كير ستارمر، إيران متهماً إياها بتوليد “الخوف وعدم الاستقرار بدلاً من السلام والأمن، مما يهدد بإشعال حرب إقليمية أوسع نطاقاً”، مؤكداً أن حزبه “سيدافع عن أمن إسرائيل”.

أين كانت المطالبة بـ “ضبط النفس” عندما مزقت إسرائيل كتاب القواعد الخاص بقوانين الحرب وسمحت لكل رجل بأن يستشهد بتساهل الغرب مع الفظائع الإسرائيلية باعتباره سابقة لتبرير جرائمه؟ وفي كل مناسبة فضل فيها الغرب أهداف إسرائيل الخبيثة، كان “ضبط النفس” مفقوداً

على ما يبدو، فإن “ضبط النفس” الذي يطالب به الغرب لم يرتبط إلا بالجهود التي بذلتها وتبذلها إيران من أجل الدفاع عن نفسها!

الموت جوعاً

نظراً لإدراك الغرب الجديد للحاجة إلى الحذر مع تكشف المخاطر من انفجارات عسكرية في المنطقة، فقد يكون الآن هو الوقت المناسب لكي يفكر قادته في “ضبط النفس” بشكل أكبر وأعم ، ليس فقط لعيون إسرائيل فقط.

رغم عدوان إسرائيل على القطاع المحاصر منذ 6 أشهر الآن، وما تبعه من دمار وتجويع لسكان غزة بسبب قلة الغذاء والماء خاصة الأطفال، ورغم قبول محكمة العدل الدولية، أعلى محكمة في العالم، قضية وجدها معقولة بأن إسرائيل ترتكب جريمة إبادة جماعية، لم تكن هناك دعوات من جانب الزعماء الغربيين إلى “ضبط النفس” طوال تلك المدة.

بدلاً من ذلك، سارع الرئيس بايدن مرارًا وتكرارًا إلى إبرام مبيعات أسلحة طارئة، متجاوزًا الكونغرس، للتأكد من أن إسرائيل لديها ما يكفي من القنابل لمواصلة تدمير غزة وقتل أطفالها!

عندما تعهد القادة الإسرائيليون بمعاملة سكان غزة مثل “الحيوانات البشرية”، وحرمانهم من كل الغذاء والماء والكهرباء، وافق الساسة الغربيون على ذلك.

ومن جانبه، لم يكن سوناك مهتماً بتجنيد طياريه الشجعان في سلاح الجو الملكي البريطاني “لحماية المدنيين” في غزة، ولم يُظهر ستارمر أي قلق حول “الخوف وعدم الاستقرار” الذي يشعر به الفلسطينيون من الإرهاب الإسرائيلي، بل أعطى موافقته، وهو المحامي الشهير، على العقاب الجماعي الذي تفرضه إسرائيل على شعب غزة مدعياً أنه “حق الدفاع عن النفس”.

من أجل تأمين مشروعها الاستعماري الاستيطاني العسكري في الشرق الأوسط ومكانتها كأكبر دولة عميلة لواشنطن في المنطقة، قامت إسرائيل بترهيب وقصف وغزو جيرانها بشكل منتظم

من خلال قيام ستارمر بذلك، فقد أبطل أحد أهم مبادئ القانون الدولي المتمثلة في أنه لا ينبغي استهداف المدنيين بسبب تصرفات قادتهم، وكما هو واضح الآن، فقد صدر حكم الإعدام بحق سكان غزة، فأين كان “ضبط النفس” إذن؟!

“ضبط النفس” المفقود

أين اختفى “ضبط النفس” حين اختلقت إسرائيل ذريعة للقضاء على الأونروا التي تشكل شريان الحياة الأخير لسكان غزة الذين يعانون من الجوع؟! وذلك رغم عدم تمكن إسرائيل من تقديم أي دليل على ادعائها بأن مجموعة من موظفي الأونروا متورطون في الهجوم على إسرائيل في 7 أكتوبر.

ومع ذلك، فقد سارع القادة الغربيون بقطع التمويل عن الوكالة، مما جعلهم متواطئين بشكل واضح فيما اعتبرته المحكمة الدولية إبادة جماعية!

أين كان “ضبط النفس” عندما اختلق المسؤولون الإسرائيليون قصصاً عن قيام حماس بقطع رؤوس الأطفال، أو قيامها بعمليات اغتصاب في 7 أكتوبر؟! خاصة بعد أن تم فضح كل هذا من خلال تحقيق أجرته قناة الجزيرة بالاعتماد على مصادر إسرائيلية!

علاوة على ذلك، لم تظهر إسرائيل أي ضبط للنفس عندما دمرت مستشفيات غزة أو عندما احتجزت وعذبت الآلاف من الفلسطينيين الذين اختطفتهم من الشوارع، فقد حصل كل ذلك وأكثر بموافقة هادئة من قبل السياسيين في الغرب.

لم توجه واشنطن والدول التابعة لها أكثر من دعوات كلامية لإسرائيل من أجل “ضبط النفس”، فلم تكن هناك أي عواقب على الإطلاق، بل مكافآت غربية على شكل مليارات لا نهاية لها من المساعدات مع وضع تجاري خاص!

أين كان “ضبط النفس” في العواصم الغربية عندما خرج المتظاهرون إلى الشوارع للمطالبة بوقف إطلاق النار ووقف إراقة دماء النساء والأطفال في غزة؟ على النقيض من ذلك، فقد تم تشويه سمعة المتظاهرين من قبل السياسيين الغربيين باعتبارهم مؤيدين للإرهاب و معادين للسامية.

أين كانت المطالبة بـ “ضبط النفس” عندما مزقت إسرائيل كتاب القواعد الخاص بقوانين الحرب وسمحت لكل رجل بأن يستشهد بتساهل الغرب مع الفظائع الإسرائيلية باعتباره سابقة لتبرير جرائمه؟ وفي كل مناسبة فضل فيها الغرب أهداف إسرائيل الخبيثة، كان “ضبط النفس” مفقوداً.

أكبر دولة عميلة لواشنطن 

هناك سبب وراء تباهي إسرائيل بوحشيتها في غزة، وهو نفس السبب الذي جعل إسرائيل تتجرأ على انتهاك الحرمة الدبلوماسية للقنصلية الإيرانية في دمشق.

على مدى عقود، حظيت إسرائيل بالحماية والمساعدة من الغرب مهما كانت الجرائم التي ترتكبها، فقد قام مؤسسو إسرائيل بالتطهير العرقي لجزء كبير من فلسطين عام 1948، وفرضت احتلالاً عسكرياً على ما تبقى من فلسطين التاريخية عام 1967، ثم فرضت نظام الفصل العنصري على المناطق القليلة التي بقي فيها الفلسطينيون.

وفي المستوطنات بالضفة الغربية، يتعرض الفلسطينيون لمعاملة وحشية ممنهجة من هدم منازلهم وبناء مستوطنات يهودية غير القانونية على أراضيهم، كما تم تطويق الأماكن المقدسة للفلسطينيين وأخذها منهم تدريجياً، أما غزة، فقد ظلت مغلقة منذ 17 عاماً مع حرمان سكانها من حرية التنقل والعمل وأساسيات الحياة.

لقد أصبح السجن والتعذيب أيضاً طقساً إجبارياً يمر به معظم الرجال الفلسطينيين حيث يتم سحق أي احتجاج بلا رحمة، والآن أضافت إسرائيل المذابح الجماعية في غزة إلى قائمتها الطويلة من الجرائم!

لقد أدى تهجير إسرائيل للفلسطينيين إلى الدول المجاورة بسبب عمليات التطهير العرقي والمذابح إلى زعزعة استقرار المنطقة ككل، فمن أجل تأمين مشروعها الاستعماري الاستيطاني العسكري في الشرق الأوسط ومكانتها كأكبر دولة عميلة لواشنطن في المنطقة، قامت إسرائيل بترهيب وقصف وغزو جيرانها بشكل منتظم.

وبذلك، لم يكن هجومها على القنصلية الإيرانية في دمشق إلا أحد أحدث الفصول في سلسلة من الإهانات التي واجهتها الدول العربية على مدى سنوات.

واشنطن صنعت من إسرائيل وحش فرانكشتاين عسكري،  فقد كان دور إسرائيل هو إبراز قوة الولايات المتحدة بلا رحمة في الشرق الأوسط الغني بالنفط، وكان الثمن التي كانت واشنطن مستعدة لقبوله هو استئصال إسرائيل للشعب الفلسطيني واستبداله بـ “دولة يهودية”

في ظل كل ذلك، لم توجه واشنطن والدول التابعة لها أكثر من دعوات كلامية لإسرائيل من أجل “ضبط النفس”، فلم تكن هناك أي عواقب على الإطلاق، بل مكافآت غربية على شكل مليارات لا نهاية لها من المساعدات مع وضع تجاري خاص!

“مستعدة للتهور”

لماذا، إذن، وبعد عقود من العنف الإسرائيلي، أصبح الغرب فجأة مهتماً بـ “ضبط النفس”؟! والإجابة واضحة، فالموقف الأخير يؤكد أن ما يخدم المصالح الغربية الآن هو تهدئة النيران التي تصر إسرائيل على إشعالها.

لقد جاءت الضربة الإسرائيلية على القنصلية الإيرانية في الوقت الذي كانت فيه إدارة بايدن تتنصل فيه من الأعذار لتوفير الأسلحة والغطاء الدبلوماسي لإسرائيل، حيث وصلت المطالب بوقف إطلاق النار وحظر الأسلحة على إسرائيل إلى درجة مشتعلة، خاصة مع تهاوي الدعم لبايدن حتى داخل حزبه الديمقراطي وقاعدته الانتخابية.

أما إسرائيل، فقد كان لديها كل الأسباب للخوف من أن يسحب راعيها البساط قريباً من تحت حملة الإبادة الجماعية التي تشنها على غزة، خاصة وأن إسرائيل ما زالت بحاجة للوقت لتصل إلى العواقب بين  مجاعة جماعية هناك أو نقل السكان إلى أماكن أخرى. 

يمكن لحرب تتمحور حول إيران أن تصرف الانتباه عن محنة غزة وتجبر بايدن على دعم إسرائيل دون قيد أو شرط، وذلك للوفاء بالتزامه “الصارم” بحماية إسرائيل.

علاوة على ذلك، فإن جر الولايات المتحدة إلى حرب ضد إيران، لن يترك لواشنطن خياراً سوى مساعدة إسرائيل في حملتها الطويلة لتدمير برنامج الطاقة النووية الإيراني، حيث تريد إسرائيل إزالة أي احتمال قد يسمح لإيران بتطوير قنبلة نووية.

وعلى عكس الوضع مع غزة، فإن تكافؤ الفرص العسكرية مع إيران يجعل إسرائيل أقل يقيناً من قدرتها على الاستمرار في التصرف كما يحلو لها مع الإفلات من العقاب، ولهذا السبب يعرب المسؤولون الأمريكيون عن مخاوفهم من أن إسرائيل “مستعدة للتهور” في محاولة لجر واشنطن إلى حرب أوسع.

الحقيقة أن واشنطن صنعت من إسرائيل وحش فرانكشتاين عسكري،  فقد كان دور إسرائيل هو إبراز قوة الولايات المتحدة بلا رحمة في الشرق الأوسط الغني بالنفط، وكان الثمن التي كانت واشنطن مستعدة لقبوله هو استئصال إسرائيل للشعب الفلسطيني واستبداله بـ “دولة يهودية”.

إن دعوة إسرائيل إلى “ضبط النفس” الآن أمر يتجاوز المحاكاة الساخرة، فلو كان الغرب يقدر حقاً “ضبط النفس”، كان ينبغي أن يصر على ذلك منذ عقود!

للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)

مقالات ذات صلة