بقلم جوناثان كوك
ترجمة وتحرير نجاح خاطر
يروق للنقاد أن يطلقوا على الفيلم الوثائقي “الأرض المقدسة ونحن” اسم “العرض التلفزيوني الشجاع”، فالوثائقي الذي اختتم بثه في جزئين على شاشة البي بي سي، يستكشف قصة تأسيس إسرائيل.
عرض جزء الفيلم الأول شهادة عن مذبحة سيئة السمعة ارتكبتها مليشيا صهيونية وراح ضحيتها أكثر من 100 فلسطيني، كثير منهم من النساء والأطفال، في أوائل عام 1948، قبل أسابيع من إعلان قيام دولة إسرائيل.
وصفت صحيفة الغارديان الفيلم بـ “خرق المحرمات”، وبالتأكيد فقد فتح الوثائقي، من المنظور الفلسطيني، آفاقًا جديدة في الرواية التلفزيونية السائدة.
وعلى عكس عشرات المجازر اللاحقة التي ارتكبتها القوات الصهيونية والتي تم التستر عليها، وكان بعضها أسوأ، تم نشر الفظائع في قرية دير ياسين قرب القدس على نطاق واسع في ذلك الوقت.
في الواقع، تم تضخيم أعداد الذين قُتلوا هناك، بما في ذلك رواية نيويورك تايمز الشهيرة التي أوصلت عددهم إلى أكثر من 200 فلسطيني.
تعريف النكبة ببساطة كحدث تاريخي يُنظر إليه الآن على أنه عمل شجاع
استقبل تضخيم عدد القتلى على نحو إيجابي من قبل الفلسطينيين على أمل جذب الاهتمام والتدخل الدوليين، أما مؤسسو إسرائيل فلم يكونوا أيضا أقل سعادة بذلك من أجل إرهاب المزيد من الفلسطينيين كي يفروا من وطنهم ليتسنى لهم إقامة دولة يهودية بسهولة أكبر على أنقاضه.
ومع ذلك، فمن المفارقات اليوم ألا يعرف أحد شيئًا عن دير ياسين، أو المئات من المجتمعات الأخرى التي طردت القوات الإسرائيلية الفلسطينيين منها خلال عملية محو وطنية استمرت لمدة عام، في أحداث يعرفها الفلسطينيون باسم النكبة.
ومن المفترض أن هذا هو السبب في أن قناة البي بي سي بدت كمن اخترق المحرمات حين عرضت فيلم “الأرض المقدسة ونحن”، لأن مجرد تعريف النكبة كحدث تاريخي يُنظر إليه الآن على أنه عمل شجاع، لذلك تم محوه تمامًا من الوعي الغربي، تمامًا مثلما تم محو مئات القرى الفلسطينية.
فعلى مدى 75 عاما تم اختزال المقاومة الفلسطينية خطأً إلى “إرهاب”، بينما تحول استمرار العنف الإسرائيلي إلى مجرد “انتقام” و “أمن”، وكأن الفلسطينيين هم من بدأوا في نزع ممتلكاتهم.
وفي هذا الصدد، فإن “الأرض المقدسة ونحن” استثناء محل ترحاب، إنه يستدعي بعض السياق التاريخي المفقود لـ “الصراع” الذي يفترض أنه مستعصي على الحل اليوم.
ولكن في الوقت نفسه، حتى عندما تكسر البي بي سي المحرمات التي فرضتها على نفسها، لا يزال صانعو البرامج قادرين على التعتيم والتضليل.
تعكير المياه
فالبرنامج يقسم قصته إلى روايتين متوازيتين، تعرضان بشكل منفصل فلسطينيين بريطانيين ويهود بريطانيين يتابعون الحديث عن علاقات عائلاتهم بالأحداث التي صاحبت تأسيس إسرائيل في عام 1948.
على الرغم من أن هذا يسهم في تحقيق التوازن، إلا أنه يستمر في تعكير المياه بين الجهتين، بدلاً من كشف الحقيقة وتحقيق المصالحة كهدف ظاهري للبرنامج.
يقدم الفيلم الروايتين الفلسطينية والصهيونية كوجهين للقصة نفسها عبر سرد ادعاءات متناقضة لشعبين حول المعاناة: الناجون من الهولوكوست وضحايا النكبة.
تعرّض المنافسة بين الهولوكوست والنكبة الفلسطينيين للإخفاق في الحصول على تعاطف مشاهدي التلفزيون الغربي، لأن التكافؤ فيها زائف، فالفلسطينيون ظلوا بأرضهم كنتيجة مختلفة عن نتيجة الهولوكوست الأوروبية الصارمة.
لكن إنشاء إسرائيل تطلب ممارسة التطهير العرقي لطرد الفلسطينيين من أرضهم في حملات عسكرية ما كان لإسرائيل أن تقوم دونها، ولهذا السبب وضع الآباء المؤسسون لإسرائيل مبادئ الطرد في خطة داليت سيئة السمعة.
ومع ذلك، فقد غاب مصطلح “التطهير العرقي” عن الفيلم ولسبب وجيه.
التطهير العرقي
يعمل الفيلم على دعم الأسطورة الغربية القائلة بأن الصراع لا يمكن حله بين القوميتين الإسرائيلية والفلسطينية، ليوجه تعاطفنا الأساسي نحو الضحايا الذين نعرف قصتهم بدلاً من الضحايا الذين لا نعرف قصتهم.
لتحقيق ذلك، يؤطر الجزء الأول من الفيلم مذبحة الفلسطينيين الدامية في دير ياسين بقصة أحفاد يهودي بريطاني هو ليونارد غانتس، الذي اضطرته الهولوكوست الأوروبية إلى الفرار من لندن إلى فلسطين للمساعدة في بناء دولة يهودية.
شارك العديد من المهاجرين اليهود، بمن فيهم أولئك الذين فروا من الهولوكوست، في عمليات التطهير العرقي ضد السكان الفلسطينيين الأصليين.
وبمساعدة القوى الغربية، تمكنوا من طرد 750 ألف فلسطيني يشكلون نحو 80 في المائة من السكان من المناطق التي كان من المقرر أن تكون في نهاية المطاف دولة يهودية.
لم يشارك غانتس في مجزرة دير ياسين، تم حجب دوره في النكبة بشكل رئيسي، ومع ذلك، تظهر صورة قديمة له وهو يحمل مدفعا رشاشا في مكان قريب، في قرية تم تطهيرها عرقياً تسمى جمزو، حيث تم طرد سكانها البالغ عددهم 1750 فلسطينيا من الدولة اليهودية الجنينية خلال النكبة.
ينتقل دانيال نجل غانتس وحفيده ديفيد إلى موقع جيمزو بطريقة تعاملت معها البي بي سي بشكل مقيت جدا.
دموع الكبرياء
يعرض ذلك مباشرة بعد أن سمعت شيرين، وهي امرأة بريطانية من أصل فلسطيني، شهادة مؤلمة حول ذبح أفراد من عائلتها في دير ياسين على يد ميليشيا إرغون اليهودية.
تنهار شيرين حين قيل لها إن 22 فردًا من عائلتها قد ذبحوا على يد الإرغون.
لكن على الفور تقريبًا تعود الرواية إلى دانيال وديفيد، اللذين علِما بمآثر والدهما في جيمزو، حيث تعرض مدنيون فلسطينيون للهجوم والقتل والطرد في عملية داني.
ومع ذلك، فإن مؤرخاً إسرائيلياً انضم للفيلم يقدم تورط غانتس في العملية ببساطة على أنه دور بطولي، فيما تبتسم عنات ستيرن وهي تعلن أن الموقع الفارغ الذي يقفون عليه كان “قرية عربية”.
وتختتم ستيرن بإخبار الأب والابن أنهما يجب أن “يفخرا” بغانتس لاختياره المجيء إلى المنطقة للقتال، إلى مكان لا يعرفه، وأنه “ساهم في إنشاء دولة إسرائيل”، ليغرق الابن والحفيد في دموع الكبرياء.
تطلق الغارديان على هذا المشهد اسم “اللحظة الحاسمة”، حيث كتب:” فخر دانيال وامتنانه عميقان، ويشاركهما الملايين ويحظيان بأكبر قدر من الاحترام من قبل البرنامج”.
وفي الجزء الثاني من الوثائقي، يعتقد روب ريندر أن عمه الأكبر كان منخرطًا في المبدأ اليهودي المتمثل في “إصلاح العالم”، من خلال النشاط المسلح في كيبوتس التي تم بناءها لطرد المزارعين الفلسطينيين المستأجرين بالقرب من بحيرة طبريا.
ولا يزال جميع الفلسطينيين ممنوعين من العيش في كيبوتس، وشاعار هجولان، حتى أولئك الذين يحملون اليوم جنسية إسرائيلية.
النكبة الجارية
تواصل البي بي سي، توجيه انتباهنا بعيداً عن المسؤولية الحقيقية عن مجزرة دير ياسين، إنهم ليسوا اليهود الصهاينة مثل غانتس أو أولئك الذين فروا من الهولوكوست.
لقد حجب البرنامج حقيقة أن معظم اليهود الفارين من الهولوكوست الأوروبي لم يكونوا يرغبون بأن ينتهي بهم المطاف في فلسطين، بل كانت وجهتهم المفضلة هي الولايات المتحدة.
ولكن حالة معاداة السامية من قبل القادة الأمريكيين أبقت الأبواب مغلقة في وجه معظم هؤلاء اللاجئين اليهود.
لقد ذهبوا إلى فلسطين لأن القوى الغربية كانت تنظر إلى المنطقة على أنها أرض نفايات لمجموعة عرقية غير مرغوب فيها.
يمكن حل “المشكلة اليهودية” بجعل الفلسطينيين يدفعون ثمن ذلك، كما اقترح وعد بلفور البريطاني عام 1917.
بموجب الوعد، حصل الغرب على دولة يهودية معسكرة وتسلط القوة الغربية على الشرق الأوسط العربي الغني بالنفط.
ما كان يجب أن يفعله البرنامج هو تسليط الضوء على الأشرار الحقيقيين.
كانت الأنظمة الغربية العنصرية هي التي تركت لليهود الأوروبيين طريقًا واحدًا موثوقًا به للهروب من معاداة السامية الغربية: عن طريق طرد الفلسطينيين.
عند تقديم هذه الانتقادات لفيلم “الأرض المقدسة ونحن”، قال متحدث باسم البي بي سي أنه يهدف إلى عرض كل وجهات النظر والتجارب في هذه الأحداث على قدم المساواة، كما يتضح من وجهات النظر الشخصية للأفراد المشاركين.
يسمي الفلسطينيون تجربتهم كشعب بـ “النكبة المستمرة” لسبب. فمعاناتهم وتجريدهم من ممتلكاتهم لم ينتهيا قط.
الحقيقة والمصالحة
تطرح مراجعة الغارديان سؤالاً موجها عن غير قصد: هل سيجعل هذا الفيلم الوثائقي عن إسرائيل وفلسطين كل جانب يتعاطف مع الآخر؟
فبينما يمكن للفلسطينيين أن يقدموا تعاطفهم مع اليهود بشأن الجرائم التي ارتكبها الأوروبيون في الهولوكوست، فإن التعاطف ليس هو المطلوب من اليهود الإسرائيليين.
إنهم بحاجة إلى مواجهة الجرائم التاريخية التي ارتكبت لإنشاء إسرائيل على أنقاض الوطن الفلسطيني، والجرائم التي لا تزال مستمرة حتى يومنا هذا لنزع ملكية الفلسطينيين وقمعهم، وهذا يتطلب الحقيقة والمصالحة وليس التعاطف.
هل سيتعين على الفلسطينيين الانتظار 75 عامًا أخرى لسماع اعتراف بي بي سي بأنهم يعيشون تحت حكم الفصل العنصري الإسرائيلي، تمامًا كما كان عليهم الانتظار 75 عامًا حتى تعترف بي بي سي بأن النكبة تكمن في جذور “الصراع” الإسرائيلي الفلسطيني؟
من أجل الفلسطينيين والإسرائيليين، دعونا نأمل بشدة ألا يحدث ذلك.
للإطلاع على النص الإصلي من (هنا)