بقلم أحمد السماك
ترجمة وتحرير نجاح خاطر
كانت تسنيم عوني وشقيقات زوجها منشغلات بتحضير طعام العشاء يوم الجمعة 13 تشرين الأول/ أكتوبر عندما أسقطت الطائرات الإسرائيلية منشورات تأمر 1.1 مليون من سكان شمال غزة بإخلائه والتوجه نحو الجنوب، وجاء في المنشورات “مدينة غزة الآن ساحة معركة”.
وفي عاصفة من الذعر، عجّلت تسنيم وأفراد عائلتها الممتدة، الذين يقيمون معًا في منزل يغطيه الأسبستوس، بجمع ممتلكاتهم الأساسية ومدخراتهم المتواضعة وبعض قطع الملابس.
تقول تسنيم:” غادرت وأنا أذرف الدموع مع أطفالي، في تلك اللحظة أدركت أن منزلي هو أغلى شيء أملكه ويحل في المرتبة الثانية بعد أطفالي”.
ومع وجود أكثر من 12 فردًا من أفراد الأسرة، بمن فيهم حماتها ذات الإعاقة وهي في الستينيات من عمرها، فإن ركوب سيارة صغيرة وتحريكها لا يزال من التحديات بالنسبة لتسنيم التي قالت:” شعر أطفالي بالرعب مع استمرار القصف المدوي”.
تحولت الرحلة صوب الجنوب إلى ملحمة كابوسية، وفقًا للأم، فقد اكتظت الشوارع التي حفرتها القنابل بعشرات الآلاف من النازحين، وشوهد العديد من الغزيين يتنقلون على عربات تجرها الحمير محملة بأكياس الدقيق واسطوانات الغاز.
وذكرت تسنيم:” رأيت أمًا حامل تمشي مع أطفالها، كانت تحتضن رضيعها بيد وتحمي بطنها باليد الأخرى، لقد كان مشهدًا مؤلمًا”.
ورغم أن الرحلة نفسها استغرقت 15 دقيقة فقط، إلا أن الخوف الذي خيم عليها جعلها تبدو وكأنها أيام مؤلمة.
لجأت العائلة إلى شقة لأحد الأقارب في مدينة الزهراء وسط قطاع غزة حيث كانت حدة القصف أخف قليلاً من المناطق الأخرى.
ومنذ أن قطعت إسرائيل الكهرباء والوقود والمياه والمساعدات الإنسانية عن غزة في أعقاب هجوم 7 تشرين الأول / أكتوبر، توجه زوج تسنيم واسمه أحمد، 35 عاماً، برفقة شقيقه أكثر من مرة لمدينة غزة في زيارات محفوفة بالمخاطر لشراء الوقود من محطة بنزين محلية، وكانوا بحاجة إلى هذا الوقود لتشغيل مولد كهربائي يمكنّهم من استخراج المياه من بئر قريبة.
الإخلاء الثاني
ورغم ذلك، سرعان ما تبين للعائلة أن ملجأها الجديد ليس آمنًا على الإطلاق.
ففي صباح يوم 19 تشرين الأول / أكتوبر، خيم عليهم الذعر مرة أخرى عندما شنت إسرائيل غارة جوية استهدفت برجين في مدينة الزهراء.
وقالت تسنيم البالغة من العمر 32 عاماً وهي أم لثلاثة أطفال:” لقد حذرني صهري من أنه إذا استهدفت إسرائيل برجاً واحداً في المدينة، فمن المرجح أن تمتد غاراتها إلى جميع الأبراج، إنها مثل السرطان الخبيث، الذي ينتشر بسرعة”.
وعند نحو الساعة السابعة مساءً، أصدرت إسرائيل تحذيرًا لجميع سكان الزهراء لإخلاء المنطقة قبل شن غارات على 22 برجًا آخر.
جمع أفراد العائلة على عجل مجدداً أمتعتهم وملابسهم وبطانياتهم، وبدأ نضالهم الحقيقي عندما اضطروا إلى حمل حماة تسنيم إلى أسفل الدرج، فيما كان الآلاف من الناس يحتشدون في الشوارع للهروب من الخطر الوشيك.
وجه الدفاع المدني نصائحه للأهالي بالتجمع قرب إحدى المدارس الحكومية، محذراً من التجمع داخلها تفادياً لمصير مماثل لمصير المستشفى الأهلي العربي.
تجمع الناس بالفعل قرب جدران المدرسة، وخلت الشوارع بشكل مخيف من أي علامات للحياة أو الحركة باستثناء النباح المزعج للكلاب.
أخذت السماء بعد ذلك تتوهج بلون أحمر ناري، وأعقب ذلك وابل من الانفجارات التي تصم الآذان.
وقالت تسنيم:” لقد كان صوتاً يفوق الوصف، وهو أعلى صوت سمعته على الإطلاق كما أنه صوت لا يطاق”.
وأضافت أن هذه الدورة من القصف تتكرر كل 15 دقيقة تقريباً، وتستمر من الليل حتى الصباح.
وتابعت:” كل 15 دقيقة كنا نبكي ونصرخ من الخوف واليأس، لم نكن قادرين على استيعاب القصف المتواصل الذي كان يقع على بعد بضع مئات من الأمتار منا، كنا في الشوارع مع أطفالنا ولم يكن هناك ملاذاً يمكن لأحد أن يلتجأ إليه.
وأردفت:” ما زاد الطين بلة، أنه في الساعة الثالثة صباحًا بدأنا نحس بالبرد، لم نكن قد ارتدينا ملابس دافئة وهذا زاد من معاناتنا، وكانت تلك الليلة، بلا شك، أسوأ ليلة في حياتي، لا توجد كلمات يمكن أن تعبر عن الرعب الذي عشناه، لقد كان الأمر يفوق الوصف.”
وفي صباح اليوم التالي، واجهت الأسرة الممتدة، التي نجت بأعجوبة، خيارًا صعبًا يتمثل في العودة إلى منزلها في غزة أو البحث عن ملجأ في إحدى المدارس التي تديرها وكالة الأمم المتحدة لغوث اللاجئين (الأونروا) والتي لجأ مئات الآلاف من الناس إليها قبل أن يختاروا العودة إلى ديارهم في نهاية المطاف.
ووفقاً لمكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، فقد أدى العدوان الإسرائيلي إلى نزوح أكثر من 1.4 مليون من سكان غزة، بمن فيهم 640,000 لجأوا إلى 150 مبنى للأونروا في جميع أنحاء قطاع غزة و121,750 لجأوا إلى المستشفيات والكنائس والمباني العامة الأخرى.
وقالت تسنيم:” تمكن تسعة منا من العودة بالسيارة، بينما اضطر باقي أفراد عائلتنا إلى السير لمسافة 10 كيلومترات تقريباً، لعدم توفر سيارات الأجرة”.
وأضافت:” في منزلي، نواجه الواقع القاسي المتمثل في عدم وجود كهرباء أو ماء، ونعتمد على جارنا الذي يملك بئراً صغيراً ليزودنا بكميات محدودة من الماء، ولسوء الحظ، فإن الماء مالح للغاية، نظرا لظروف الطقس القاسية ولقرب البئر من البحر.
وأردفت:” لقد أصبح العثور على المياه الصالحة للشرب والغذاء الكافي بمثابة صراع يومي، خياراتنا للطهو أصبحت محدودة، عادة نتناول المعكرونة والسلع المعلبة المتوفرة في محلات البقالة المحلية مثل العدس والفاصوليا، وأنا أعتبر نفسي محظوظة لامتلاك أسطوانة غاز للطهو عندما أرى جيراني يشعلون النار في الخلاء لإعداد طعامهم”.
التأثير على الأطفال المتضررين من الحرب
أودى القصف الإسرائيلي حتى الآن بحياة 7326 فلسطينياً، بمن فيهم 3038 طفلاً في غزة، و1400 إسرائيلي تاركاً بصمة لا تمحى على جبين قطاع غزة الفقير وخاصة على صغاره.
وقد سلطت تقارير عديدة الضوء على الصدمة العميقة التي يعاني منها أطفال غزة، فخلال عام 2021، كشف المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان أن أكثر من 90% من الأطفال في غزة عانوا من أحد أشكال اضطراب ما بعد الصدمة بسبب الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على المنطقة.
وقالت تسنيم:” أطفالي الآن خائفون حتى من الذهاب إلى الحمّام بمفردهم، عندما يسمعون القصف يسارعون للاختباء خلفي أو خلف زوجي، أو يجلسون على الأرض ويضغطون بأصابعهم على آذانهم لتجنب الصوت، لقد أصبحوا يعانون من فرط النشاط، ويشعرون بالملل المستمر، ويطلبون مني أن أشغل لهم برامج الرسوم المتحركة، لكن ليس لدينا كهرباء للقيام بذلك”.
من ناحيته، أشار ياسر أبو جامع، كبير الأطباء النفسيين ومدير برنامج الصحة النفسية في غزة، إلى أن أعراض الصدمة تظهر بطرق مختلفة على الأطفال، مبيناً أن أعراضها تشمل رفض تناول الطعام أو شرب الحليب وضعف النمو وإظهار النشاط الزائد وصعوبة التركيز والمعاناة من الكوابيس والتشبث بأمهاتهم والتبول اللاإرادي والشكوى من آلام في الركبتين أو البطن.
وقال أبو جامع:” لا بد من وضع حد للأحداث التي زرعت انعدام الأمن والخوف، وقف إطلاق النار ووقف كافة عمليات القصف هو الخطوة الأولى، وبعدها يمكننا التدخل وتقديم المساعدات اللازمة”.
وتنشط فرق برنامج الصحة النفسية في الميدان وتقوم بتشغيل 12 خطًا ساخنًا مجانيًا لخدمات الصحة العقلية.
وشدد أبو جامع كذلك على أن هناك قلق من الأمراض المعدية التي يمكن أن تنجم عن عدم كفاية النظافة وسوء ظروف الصرف الصحي بين النازحين في مدارس الأونروا، موضحاً أن ذلك يفاقم التحديات التي يواجهها الأطفال في التعامل مع ظروفهم الصعبة.
وقال أن هذا القلق المتزايد بين الآباء بشأن صحة أطفالهم يزيد من حالة الضيق العام.
وأوضح كبير الأطباء النفسيين:” عادة ما يرتفع الطلب على خدمات الصحة العقلية بشكل كبير بعد أسبوعين من وقف إطلاق النار لأن الناس ينشغلون في المقام الأول بضمان سلامتهم البدنية، وإيجاد مأوى، وتزويد أفراد أسرهم بالضروريات الأساسية مثل الغذاء والماء”.
للإطلاع على النص الأصلي من (هنا)