بقلم أمير مخول
ترجمة وتحرير مريم الحمد
مؤخراً، أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، عن استعداد الجيش للتقدم نحو رفح، التي يعيش فيها اليوم 1.4 مليون فلسطيني، وذلك بعد موافقته على خطة اجتياحها.
كانت حكومة الحرب “الثلاثية” بين نتنياهو ووزير الدفاع يوآف غالانت وزعيم المعارضة السابق بيني غانتس، قد توصلت بالفعل إلى إجماع حول كيفية التوغل في رفح للسيطرة على ممر فيلادلفيا، الذي ذكره نتنياهو في خطاب ألقاه أمام منظمة إيباك، جماعة الضغط المؤيدة لإسرائيل في الولايات المتحدة، مصراً على أن “الطريق إلى النصر يمر عبر رفح”.
وفي الوقت الذي تعمل فيه تهديدات الساسة الإسرائيليين بغزو وشيك لرفح على توجيه انتباه العالم نحو جنوب القطاع المحاصر، سارعت الحكومة الإسرائيلية بخطواتها على الأرض في شمال غزة لتعزيز احتلالها وضمان استمراره.
الطريق الذي تم تشييده حديثاً في المنطقة الشمالية يؤدي إلى تفتيت المدينة وتحويلها إلى ساحات سكنية معزولة، كما يبدو في المخطط وكأن موقع الطريق الإسرائيلي الممتد إلى البحر يتوافق مع موقع “الرصيف العائم” الذي اقترحت إدارة بايدن بناءه كوسيلة “مؤقتة” لتوزيع المساعدات الإنسانية!
من أهم سمات استراتيجيتها هو منع عودة النازحين الفلسطينيين من الجنوب في إطار سعيها إلى تغيير الخصائص الجغرافية والديمغرافية لقطاع غزة.
“احتلال دائم”
أظهرت صور الأقمار الصناعية حللتها شبكة CNN مؤخراً، أن الطريق الذي يبنيه الجيش الإسرائيلي لتقسيم غزة إلى قسمين قد وصل إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط.
وفقاً لتقرير سي إن إن، فإن صورة الأقمار الصناعية التي التقطت في 6 مارس، “تكشف أن الطريق بين الشرق والغرب، الذي كان قيد الإنشاء منذ أسابيع، يمتد الآن من منطقة الحدود بين غزة وإسرائيل بعرض حوالي 6.5 كيلومتر نحو شاطئ البحر فاصلاً شمال القطاع عن جنوبه بالكامل”.
ويشير التقرير إلى أن الجيش استخدم “كمية كبيرة من الألغام والمتفجرات” في المنطقة، حيث استخدمت القنابل الأمريكية الصنع لتدمير ما تبقى من المنازل والبنية التحتية في شمال غزة، وخاصة في منطقة بيت حانون المتاخمة لمعبر إيريز، فيما أصبحت مناطق أخرى شرق مدينة غزة جزءاً من المنطقة العازلة التي تبنيها إسرائيل في غزة وعلى طول الحدود.
أما في حي الزيتون، فقد تقدم الجيش الإسرائيلي ضمن “مشروع تجريبي” للإدارة المدنية يهدف إلى السيطرة الكاملة على توزيع المواد الغذائية وغيرها من المؤن، على مبدأ أن من يسيطر على الطعام يسيطر على الناس!
الهدف الأهم لدى إسرائيل هو منع عودة السكان النازحين، وحتى من يعود فإنه لن يجد ما يعود إليه، إذ لا بيوت ولا أحياء ولا مدينة، وهو ذات المبدأ الذي تم العمل به منذ النكبة الفلسطينية عام 1948 ونشوء قضية اللاجئين الفلسطينيين
وهنا يمكن تفسير الحظر الصارم الذي تفرضه إسرائيل على المساعدات المقدمة إلى غزة وطرد المنظمات الإنسانية من المنطقة، في سياسة تسعى إلى تدمير دور وكالة الأمم المتحدة للاجئين الفلسطينيين، الأونروا، كجزء من هدف أكبر بالقضاء على قضية اللاجئين وحق العودة للفلسطينيين.
من جهة أخرى، تسعى القوات الإسرائيلية إلى تجنيد عملاء فلسطينيين للتعاون معها تحت غطاء توزيع الغذاء والمساعدات، بحيث يتم توفير التدريب الأمني لهؤلاء العملاء وتوزيعهم في ميليشيات تعمل على إثارة الرعب والتعدي على الفلسطينيين، فتصبح هذه الميليشيات امتداداً للاحتلال في غزة!
من اللافت كذلك أن الطريق الذي تم تشييده حديثاً في المنطقة الشمالية يؤدي إلى تفتيت المدينة وتحويلها إلى ساحات سكنية معزولة، كما يبدو في المخطط وكأن موقع الطريق الإسرائيلي الممتد إلى البحر يتوافق مع موقع “الرصيف العائم” الذي اقترحت إدارة بايدن بناءه كوسيلة “مؤقتة” لتوزيع المساعدات الإنسانية!
في ظل كل ذلك، تبدو إسرائيل وكأنها تعمل على تطوير البنية التحتية لاحتلال دائم لقطاع غزة لا يشبه بالضرورة الوضع الذي كان عليه قبل الانسحاب الإسرائيلي من القطاع عام 2005، حيث لن تكون فيه غزة امتداداً للسكان الفلسطينيين أو جزءاً من الأراضي الفلسطينية من الناحية الجغرافية.
الهدف الأهم لدى إسرائيل هو منع عودة السكان النازحين، وحتى من يعود فإنه لن يجد ما يعود إليه، إذ لا بيوت ولا أحياء ولا مدينة، وهو ذات المبدأ الذي تم العمل به منذ النكبة الفلسطينية عام 1948 ونشوء قضية اللاجئين الفلسطينيين.
إعادة استيطان إسرائيلي
الحقيقة أن إسرائيل بصدد إعادة احتلال غزة، وذلك من خلال السيطرة على الطرق والممرات والشوارع الرئيسية، حيث تعود فكرة تقسيم قطاع غزة إلى مناطق يمكن للإسرائيليين الوصول إليها ومقصورة على الفلسطينيين، إلى احتلال عام 1967.
في عام 1971، أعد أرئيل شارون، الذي كان قائد المنطقة الجنوبية بالجيش الإسرائيلي آنذاك قبل أن يصبح رئيسًا للوزراء فيما بعد، خطة لتقسيم غزة وشمال سيناء إلى 5 مناطق استيطانية تؤدي إلى ضمان قطع التواصل الجغرافي بين الفلسطينيين في الشمال والوسط والجنوب.
وفقاً للخطة، تعمل إسرائيل على إحاطة تلك المنطقة من الشمال بالمستوطنات ونقاط التفتيش ومن الجنوب بكتلة استيطانية في صحراء شمال سيناء، في خطة أطلق عليها شارون اسم “خطة الأصابع الخمسة”، وتبنتها الحكومة برئاسة غولدا مئير بالكامل في عام 1972.
إسرائيل لا تفكر في حل شامل للحرب، بل تسعى فقط لصفقات جزئية ومؤقتة، تستمر بعدها الحرب ولا تنسحب فيها إسرائيل ولا تعود العائلات النازحة، وقبل أي وقف لإطلاق النار، ستكون إسرائيل قد أكملت نظام سيطرتها وعززت وجودها الاستعماري في غزة
الأول هو “الاصبع الشمالي” الذي يضم كتلة استيطانية أقصى شمال قطاع غزة عند معبر بيت حانون وإيرز، وكان الهدف منه توسيع نطاق عسقلان إلى مناطق داخل غزة.
أما الاصبع الثاني فقد كان “إصبع نتساريم”، الذي يمتد من معبر المنطار حتى البحر، ويبلغ طوله 8 كيلومترات ويفصل مدينة غزة عن وادي غزة ووسط القطاع، وهي المنطقة التي كانت فيها مستوطنة نتساريم قبل عام 2005، ويمر هذا الاصبع عبر طريق الرشيد وصلاح الدين، الطريق الرئيسي لمدينة غزة، ويمتد من شمال القطاع إلى جنوبه، ليشكل نقطة مراقبة لميناء غزة.
الإصبع الثالث يدعى “محور كيسوفيم”، وهي مستوطنة قريبة من شارع الشهداء، تفصل دير البلح عن المناطق الوسطى بغزة حتى خان يونس، حيث أقيمت كتلة غوش قطيف الاستيطانية.
أما الاصبع الرابع فهو”كيبوتس صوفا”، وهي مستوطنة زراعية تقع بين خانيونس ورفح، أنشئت عام 1974 كموقع عسكري في شبه جزيرة سيناء، ثم تطورت إلى مزرعة مدنية عام 1977، وقد تم تصميمها لتمتد إلى البحر.
الإصبع الخامس فهو “تجمع ياميت” الاستيطاني في شمال سيناء، على أطراف رفح من الجنوب، وهدفه منع أي تواصل جغرافي بين رفح وسيناء، ثم تم ضم 12 من المدن ومطار إسرائيلي عام 1982 بعد اتفاقية كامب ديفيد مع مصر، ثم تم إنشاء ممر فيلادلفيا، ولذلك ومن خلال غزو رفح الآن، تسعى إسرائيل إلى السيطرة على المعبر مع مصر.
تجدر الإشارة إلى أن معظم “الأصابع” تتجه من الشرق إلى الغرب، وصولاً إلى البحر، لمنع التواصل الجغرافي داخل قطاع غزة في عدة مناطق استراتيجية، إلا أن معظم مخططات الأصابع لم تصمد مع مرور الوقت، وانتهت عام 2005 عندما قررت الحكومة برئاسة شارون الانسحاب الكامل من غزة.
التركيز المستمر على شمال غزة باعتباره منطقة خاصة يشير إلى اعتراف دولي ضمني بأن شمال غزة قد أصبح بالفعل منفصلاً عن الجنوب، فمن خلال إنشاء هياكل منفصلة لتوزيع المساعدات بين الشمال والجنوب، وتديرها إسرائيل، فإن المجتمع الدولي يضمن استمرار وجود إسرائيل واحتلالها لقطاع غزة!
يحاول الإسرائيليون إحياء تلك الأصابع اليوم، ومن ذلك قيام مجلس الاستيطان في الضفة الغربية بعقد مؤتمر شعبي لإعادة استيطان غزة، حضره 12 وزيراً من حزبي الصهيونية الدينية والليكود، حيث تم فيه استعراض خطط إعادة بناء الكتل الاستيطانية في نفس الأماكن التي تم سحبها وهدمها عام 2005.
المساعدات ودورها في احتلال شمال غزة
من المرجح أن تكون تهديدات نتنياهو باقتحام رفح وممر فيلادلفيا بمثابة تكتيك تفاوضي للضغط على قادة حماس ومصر وابتزازهم فقط، حيث يصر المحللون الإسرائيليون على أن المصالح الاستراتيجية الحقيقية لإسرائيل تكمن في شمال غزة وأن المواجهة مع مصر قد تؤدي إلى معضلة استراتيجية.
يؤكد ذلك على أن إسرائيل لا تفكر في حل شامل للحرب، بل تسعى فقط لصفقات جزئية ومؤقتة، تستمر بعدها الحرب ولا تنسحب فيها إسرائيل ولا تعود العائلات النازحة، وقبل أي وقف لإطلاق النار، ستكون إسرائيل قد أكملت نظام سيطرتها وعززت وجودها الاستعماري في غزة.
أما الفلسطينيون والعرب، فيركزون بشكل كبير على المفاوضات أو محادثات وقف إطلاق النار وأساليب العرقلة التي تتبعها إسرائيل، في حين تكشف تصرفات إسرائيل على الأرض بوضوح العودة إلى احتلالها الكامل لغزة وتدميرها كوحدة جغرافية واحدة لشعبها.
من جانب آخر، فإن تركيز المجتمع الدولي على المساعدات الإنسانية، مع تجاهل خطط إسرائيل طويلة الأمد، قد يؤدي في نهاية المطاف إلى تهجير الفلسطينيين إلى أجل غير مسمى!
هناك قضية أخرى أيضاً تتعلق باقتراح “الرصيف البحري العائم”، الذي يدعي البيت الأبيض أنه سيتم استخدامه لتوصيل مليوني وجبة يوميا إلى غزة، فوفقاً لما هو مخطط، ستتولى إسرائيل السيطرة على أمن الميناء المؤقت بالشراكة مع الجيش الأمريكي الذي لن يدخل غزة، كما أكد نتنياهو مؤخرًا على أن هذا الرصيف يمكن أن يساعد في “ترحيل” الفلسطينيين من غزة بشكل جماعي.
تجدر الإشارة هنا أيضًا إلى أن الطريق الواسع الذي يبنيه الجيش الإسرائيلي من جنوب شرق مدينة غزة إلى البحر يتوافق جغرافيًا مع الاقتراح الذي قدمه وزير الخارجية الإسرائيلي، يسرائيل كاتس، لقادة الاتحاد الأوروبي حول التهجير القسري للفلسطينيين إلى جزيرة صناعية.
علاوة على ذلك، فإن التركيز المستمر على شمال غزة باعتباره منطقة خاصة يشير إلى اعتراف دولي ضمني بأن شمال غزة قد أصبح بالفعل منفصلاً عن الجنوب، فمن خلال إنشاء هياكل منفصلة لتوزيع المساعدات بين الشمال والجنوب، وتديرها إسرائيل، فإن المجتمع الدولي يضمن استمرار وجود إسرائيل واحتلالها لقطاع غزة!
يعني ذلك أيضاً أن المساعدات الإنسانية الأميركية تصبح أيضاً امتداداً للاحتلال الإسرائيلي وآليات لسيطرته على غزة، حيث تم تشكيل هذا المشروع على خلفية قيام أنصار حكومة نتنياهو بمنع دخول المساعدات إلى غزة عبر معبر كرم أبو سالم أو كرم أبو سالم الحدودي.
خطاب غير واقعي
على الجانب الآخر، فإن الخطاب السياسي داخل الفصائل الفلسطينية غير واقعي ويتعامل مع الوضع وكأن الظروف هي نفسها التي كانت قبل 7 أكتوبر ولم تتغير بشكل جذري، حتى بعد أن أصبح وادي غزة بمثابة حدود تقيد حركة الفلسطينيين في غزة على غرار جدار الفصل العنصري في الضفة الغربية.
لقد غيّر جدار الفصل العنصري بشكل جذري الخصائص السياسية والجغرافية للسكان في الضفة الغربية، فقد تم بناؤه على أنقاض الوجود الحضري الفلسطيني والسكان الذين هُجروا قسراً ومُنعوا من العودة.
من خلال تنفيذ خططها في غزة، وخاصة في الشمال، تعمل إسرائيل على تأمين احتلالها الدائم لغزة فعلاً، وهنا يتعين على الفلسطينيين والعرب، فضلاً عن المجتمع الدولي، أن يركزوا انتباههم على التغيرات الجذرية التي طرأت مؤخراً على الواقع الجغرافي والديمغرافي الموجود على الأرض.
لابد من ممارسة ضغوط عربية مباشرة على الولايات المتحدة لإجبار إسرائيل على السماح بدخول المساعدات الإنسانية إلى غزة عبر حدودها البرية وعدم الخضوع لشروط الحكومة الإسرائيلية، حيث تظل غزة منطقة فلسطينية وليست إسرائيلية.
يجب عليهم أيضًا اتخاذ موقف حازم للضغط على إدارة بايدن لوقف تزويد إسرائيل بالمساعدات العسكرية والأسلحة المستخدمة للقضاء على جميع عناصر الحياة في غزة من خلال تجويع السكان الفلسطينيين وارتكاب أعمال خطيرة ترقى إلى مستوى جرائم الحرب وإبادة جماعية!
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)