بقلم كارلين زوارنشتاين
ترجمة وتحرير نجاح خاطر
في الوقت الذي تواصل فيه دولة الاحتلال قصف المدنيين الفلسطينيين وتجويعهم، تمضي قدمًا في ما قد يكون رؤيتها النهائية – أو ربما قبل الأخيرة – لغزة: حبس الناجين فعليًا داخل منطقة محروسة فوق أنقاض رفح، أشبه ما تكون بمعسكر اعتقال مكتمل الأركان.
وإذا لم يتم ردع هذه الخطة، فإن الأوبئة قد تتحول إلى أخطر أسلحة دولة الاحتلال في القطاع المحاصر.
التاريخ يروي أن الأمراض ليست مجرد أثر جانبي للنزاعات، بل أداة رئيسية في الإبادة الجماعية، من الجدري الذي أباد السكان الأصليين في الأمريكيتين، إلى الثكنات النازية في أوشفيتز.
وعلى مدار القرون، حصدت الأمراض أرواحًا تفوق في عددها ضحايا السلاح المباشر، خاصة داخل معسكرات الاعتقال التي توفر بيئة مثالية لتفشي الأوبئة القاتلة.
فخلال الحروب النابليونية، مثلًا، مات الجنود البريطانيون بسبب الأمراض المعدية بما نسبته ثماني مرات أكثر من موتهم بسبب القتال، فيما شهدت الحرب الأهلية الأمريكية ما يقارب 600 ألف وفاة ناجمة عن الملاريا والزحار وأمراض معدية أخرى.
وفي غزة اليوم، يُحشر أكثر من 2.3 مليون ناجٍ من الإبادة في منطقة أصغر من أي وقت مضى، بعد أن دُمرت البنية التحتية وحُرم السكان من الغذاء والماء.
تصف منظمة العفو الدولية هذا المشهد بـ”الإبادة الجماعية المباشرة”، وهؤلاء الناجون هم من يُجبرون الآن على الانتقال إلى مساحة لم تكن قبل وقت طويل سوى مدينة رفح، التي اعتبرها الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن “خطًا أحمر”، واليوم، تحولت تلك المدينة إلى 64 كيلومترًا مربعًا من الركام والجثث، في خطوة لا يمكن وصفها بالصدفة.
وبحسب خطة كان قد طرحها وزير الدفاع في دولة الاحتلال، يوآف كاتس، ستضم هذه “المدينة الإنسانية” في البداية نحو 600 ألف شخص ممن اجتازوا “الفحص الأمني” – أي من لم يتم إعدامهم أو اعتقالهم عند البوابات – قبل أن تضم بقية الناجين، لتصل الكثافة السكانية إلى نحو 35,938 شخصًا لكل كيلومتر مربع.
وفي هذه البيئة الخانقة، يمكن لعدوى بسيطة أن تتحول إلى حكم بالإعدام، وتصبح الأمراض القابلة للعلاج أدوات قتل جماعي.
تحت مسمى “الرعاية”، سيخضع هؤلاء لإشراف دولي شكلي، من خلال شركات أمنية خاصة مدعومة من الولايات المتحدة ودولة الاحتلال، ذات سجل دموي بحق طالبي المساعدة، فضلًا عن ميليشيات محلية مرتبطة بـ” أبو شباب”، زعيم عصابة مدعوم من دولة الاحتلال ومتورط في نهب شاحنات المساعدات.
والأهم، أنه لن يُسمح لهم بالمغادرة، ما يعني أن الموت نتيجة انتشار الأمراض سيصبح أكثر فتكًا من الصواريخ التي سقطت على غزة طوال 22 شهرًا من المجازر اليومية.
منذ أن أنشأت بريطانيا أول “معسكر اعتقال” في حربها ضد البوير بجنوب أفريقيا، والتي أودت بحياة 28 ألف معتقل بسبب التيفوئيد، مرورًا بمخيمات هيريرو وناما في ناميبيا إبّان الإبادة الألمانية الأولى، وصولًا إلى معسكرات النازيين حيث ماتت آن فرانك بالتيفوس في بيرغن بيلسن، ظل المرض حليفًا دائمًا للإبادة، وحتى المعتقلون اليابانيون في كندا والولايات المتحدة خلال الحرب العالمية الثانية لم يسلموا من الأوبئة في سجونهم.
واليوم، في غزة، تتكرر الحكاية، مع فارق أن البنية الصحية نفسها صارت هدفًا مباشرًا للصواريخ والقصف الممنهج.
الأوبئة تنهي ما بدأته قنابل دولة الاحتلال في غزة
منذ بدء الحصار والقصف والغزو البري على غزة، استهدفت دولة الاحتلال بشكل منهجي البنية التحتية الصحية والمياه والكهرباء، وصولًا إلى الأمهات اللواتي يعانين من سوء تغذية حاد يمنعهن من إنتاج حليب طبيعي يحمي الأطفال من الأمراض، بينما تفرض دولة الاحتلال حصارًا يمنع دخول حليب الأطفال.
القصف لم يستثنِ محطات تحلية المياه، ولا مرافق الصرف الصحي، ولا حتى الألواح الشمسية التي قللت اعتماد غزة على الطاقة القادمة من الاحتلال، فيما يُحظر إدخال الكلور ومواد الصيانة الضرورية، ويكفي أن نتذكر ما كتبه يوآف كاتس – حين كان وزيرًا للطاقة في دولة الاحتلال – في أكتوبر/تشرين الأول 2023: “لن يحصلوا على قطرة ماء واحدة أو بطارية واحدة حتى يغادروا هذا العالم”.
إن هذه السياسة أدت إلى تفشي أوبئة تنقلها المياه والهواء والاتصال المباشر، كما حذرت منظمة الصحة العالمية في ديسمبر/ كانون الأول 2023 من أن الأمراض قد تحصد أرواحًا أكثر من القنابل إذا لم يُعاد بناء النظام الصحي ولم يتم توفير الغذاء والماء والدواء والوقود.
وقد ظهرت مبكرًا موجات من فيروس كورونا، والتهابات معوية حادة، وأمراض جلدية، إضافة إلى عودة شلل الأطفال، في ظل تهديد مستمر ينذر بانتشار الكوليرا.
ولمنع تفشي شلل الأطفال خارج غزة، وافقت دولة الاحتلال على وقف القصف مؤقتًا، لكنها استخدمت طائرة مسيرة لإلقاء قنبلة صوتية قرب عيادة تطعيم، ما أدى لإصابة ستة أشخاص، بينهم أربعة أطفال.
وفي ظل هذه الظروف، يواصل الأطباء العمل رغم الجوع والجفاف، حتى أن جراحًا أجرى عملية وهو مصاب بالتهاب المعدة والأمعاء، وتفاقمت أزمة مقاومة المضادات الحيوية، بينما حذرت منظمة إنقاذ الطفولة في أبريل/ نيسان 2024 من أن سوء التغذية يجعل الأطفال أكثر عرضة للإصابة بأمراض قاتلة.
أصبحت غزة اليوم، بحسب أوكسفام، “مختبرًا للأمراض”، حيث تضاعف معدل اليرقان الحاد، وارتفع الإسهال الدموي بنسبة 302%، والأمراض المنقولة بالمياه بنسبة 150%. ومع حرارة الصيف، وقلة المراحيض، وتلوث الطعام، وانتشار القوارض والحشرات، يتكرر سيناريو معسكر أوشفيتز، حيث انتشرت أمراض مثل التيفوس والزحار والملاريا والجرب.
كما أن انخفاض معدلات التطعيم – التي كانت سابقًا تتجاوز 99% ضد شلل الأطفال – ضاعف خطر تفشي الأوبئة، وحتى يونيو/ حزيران 2025، كان 77% من مرافق المياه والصرف الصحي خارج الخدمة بسبب الحصار، فيما صودرت أكثر من 82% من أراضي غزة وحُولت لمناطق عسكرية مغلقة.
ومهما توقفت القنابل اليوم، فإن تفشي الأوبئة سيكمل “إنجاز المهمة القذرة” للإبادة الجماعية، ما لم تشمل الاستجابة إعادة تغذية دقيقة تحت رقابة صحية، وترميم شامل للبنية الطبية، وضمان وصول السكان إلى المياه النظيفة والمراحيض والرعاية المستمرة.
إن التاريخ المظلم لمواقع الاعتقال القسري يثبت أن الإهمال الصحي ليس عرضيًا، بل جزء من استراتيجية تطبق لإبادة من تبقى على قيد الحياة، وهذه المرة تحت إشراف مباشر من دولة الاحتلال.
للاطلاع على المقال الأصلي من (هنا)