بقلم نادية ناصر نجاب
ترجمة وتحرير نجاح خاطر
في أواخر كانون الثاني/ يناير، تابع الفلسطينيون في جميع أنحاء العالم قرار محكمة العدل الدولية القاضي بمنع إسرائيل من ارتكاب الإبادة الجماعية في غزة، وسط حرب مستمرة أدت إلى استشهاد أكثر من 27 ألف فلسطيني، وقد سعى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى تبرير ذلك بالتأكيد على أن الحرب سوف تقضي على حماس.
وأثارت قضية محكمة العدل الدولية آمال الفلسطينيين في انتهاء الحرب ومحاسبة إسرائيل على جرائمها، لكن إسرائيل واصلت هجماتها ووضعت غزة على حافة المجاعة، حيث يدرك المواطنون في الغرب جيداً حجم الكارثة التي تتكشف ويتم بث الصور المروعة من الأرض مباشرة ونشرها على وسائل التواصل الاجتماعي.
أما في غزة، فينشغل الفلسطينيون بالنزوح من الموت ومحاربة الجوع ولا يزال العديد منهم يقطن الخيام فيما يتم استهداف المدنيين بشكل متكرر من خلال القصف الإسرائيلي حتى أثناء انتقالهم إلى ما يسمى بالمناطق الآمنة، وقد غمرت الأمطار الخيام، بينما يعاني الفلسطينيون من نقص الغذاء والمياه النظيفة والصرف الصحي المناسب والأدوية.
عندما نتأمل الأحداث الجارية في غزة، فإننا لا نرى كارثة إنسانية تتكشف فحسب، بل نرى عدالة متأخرة فقدت القرارات والتفسيرات المختلفة معها كل معنى، وهذا ما يشير إليه المثل العربي ” من كانت يده ليس كمن كانت يده في النار”، وفي هذه الحالة فإن الفرق يتجلى في فترة الإنذار الممتدة إلى شهر والتي يُطلب فيها من إسرائيل بأدب اتخاذ خطوات لطمأنة “المجتمع الدولي” أن إبادة جماعية لا ترتكب في غزة بينما يطالب الفلسطينيون هناك بوقف الموت غير المبرر والمعاناة الإنسانية فوراً.
وعلى الرغم من أن قضية محكمة العدل الدولية في جنوب أفريقيا تمثل خطوة غير مسبوقة ضد دولة تمتعت منذ فترة طويلة بالإفلات من العقاب، فإن الفلسطينيين يبدون حذراً متفهماً لأسباب ليس أقلها أن السرد العالمي حول “حقوق” الفلسطينيين اتسم تاريخياً بالخداع وتوظيف الذرائع القانونية في خدمة سلطة الدولة.
ففي العام 1917، وعد بلفور بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين التاريخية، وبدلاً من الاعتراف بالشعب الفلسطيني، رأى أنه من المناسب استدعاء “الحقوق المدنية والدينية” لغير اليهود.
ومنذ ذلك الحين، بات المصطلح الغامض “الوطن القومي اليهودي”، الذي تم تطويره وزراعته وتطبيقه من أجل الإخفاء والخداع، في قلب الصراع بين الفلسطينيين واليهود الصهاينة، لقد كلف وعد بلفور والأحداث التي تلته الفلسطينيين وطنهم في نهاية المطاف.
المعايير المزدوجة
وخلال فترة الانتداب البريطاني، سهّلت حكومة المملكة المتحدة الهجرة اليهودية بينما كانت تؤيد المطالب الفلسطينية كلامياً، وبعد عدة سنوات من الثورة العربية عام 1936، أصدرت بريطانيا “الكتاب الأبيض” الذي اقترحت فيه الحد من الهجرة اليهودية، لكن هذا لم يكن أكثر من مجرد محاولة متأخرة لاسترضاء الفلسطينيين.
وفي عرض لافت للنظر إلى المعايير المزدوجة، ترى حكومة الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون أنه من المناسب تفعيل حل الدولتين وسط استمرار إراقة الدماء والبؤس الإنساني في الأراضي الفلسطينية المحتلة، متجاهلين ببساطة أعداد المستوطنين المتزايدة في الضفة الغربية، إلى جانب دعوات رسمية إسرائيلية لنقل الفلسطينيين وإقامة “إسرائيل الكبرى“.
ومؤخراً، حضر أكثر من عشرين سياسياً إسرائيلياً مؤتمراً ناقش إعادة التوطين في غزة، لقد كان مفهوم نقل السكان جزءاً من الصهيونية منذ بدايتها، ولا يزال تأثيره حياً إلى حد كبير حتى اليوم.
وهناك العديد من الأمثلة التاريخية على ذلك، فبعد حرب عام 1967، فكر الوزراء الإسرائيليون في نقل الفلسطينيين بشكل جماعي من غزة إلى سيناء، وفي نهاية المطاف، دمرت القوات الإسرائيلية آلاف المنازل في مخيمات اللاجئين في غزة، وتم ترحيل بعض السكان إلى سيناء فعلاً وتمت مصادرة الأراضي لإقامة المستوطنات الإسرائيلية.
لن يكون هناك أبداً أمن أو سلام كامل إذا تم تجاهل تطلعات الفلسطينيين وحقوقهم السياسية
وفي الفترة بين عامي 2000 و2004، هدم الجيش الإسرائيلي أكثر من 2500 منزل في غزة، معظمها في رفح، على الحدود مع مصر، وفقد نحو 16 ألف فلسطيني منازلهم مع قيام الجيش الإسرائيلي بتوسيع “المنطقة العازلة” في الجنوب.
لقد بدأت اتفاقيات أوسلو، التي تم التوقيع عليها في التسعينيات، فعلياً من حيث توقف إعلان بلفور، وصاغت أهدافها الفعلية بشكل غامض، ومن خلال تأجيل المفاوضات حول التسوية الدائمة بشأن الحدود واللاجئين والقدس لمدة خمس سنوات، مكنت الاتفاقيات إسرائيل من خلق حقائق على الأرض عبر زيادة عدد المستوطنين في الضفة الغربية المحتلة والعمل على تهويد القدس في مخالفة صريحة للمادة 31 التي تنص على أنه ” يجب أن لا يمس شيء أو يستبق نتيجة المفاوضات حول الوضع الدائم المزمع إجراؤها“.
الخطط المنحازة
ويظهر هذا الغموض أيضاً في نصوص وممارسات القانون الدولي الأعم، فبينما تستند عدم شرعية المستوطنات في الأراضي المحتلة إلى اتفاقية جنيف الرابعة فإنه وبموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة يسمح لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة “ بتحديد وجود أي تهديد أو خرق للسلام أو عمل عدواني”، وتأييد أو اتخاذ الإجراءات العسكرية وغير العسكرية اللازمة “لاستعادة السلام والأمن الدوليين“.
ومع غياب التجميد الصريح للاستيطان، أشارت اتفاقيات أوسلو إلى أن “ الجانبين ينظران إلى الضفة الغربية وقطاع غزة كوحدة إقليمية واحدة، سيتم الحفاظ على سلامتها ووضعها خلال الفترة الانتقالية“.
توافقت خطة “السلام من أجل الازدهار” التي طرحتها إدارة ترامب لعام 2020 إلى حد كبير مع وعد بلفور، لأسباب ليس أقلها أنها تمت صياغتها دون استشارة الفلسطينيين وبالتعاون الكامل من الحكومة الإسرائيلية.
وبرر مستشار ترامب جاريد كوشنر ذلك بقوله إن الفلسطينيين ” يحتاجون إلى القليل من الوقت للاستحمام البارد واستيعاب الخطة وقراءتها”، من جانبه، أوضح نتنياهو أن ذلك غير مهم، مؤكداً أنه ” سواء قبلوا بها أم لا، فإنها سوف تنفذ”.
وبعد عدة سنوات، وفي اليوم الذي أصدرت فيه محكمة العدل الدولية قرارها المؤقت في قضية الإبادة الجماعية، قطعت كل من الولايات المتحدة وكندا تمويلهما عن وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين (الأونروا)، على أساس مزاعم إسرائيلية بأن بعض موظفيها تورطوا في هجمات السابع من أكتوبر، وقد اعترف وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن قائلاً: ” لم تكن لدينا القدرة على التحقيق في الادعاءات بأنفسنا. لكنهم يتمتعون بمصداقية عالية“.
تعيد هذه الحادثة إلى الأذهان تكرار الرئيس جو بايدن مزاعم “ الأطفال مقطوعي الرؤوس” التي أخذ يرددها بعد وقت قصير من هجمات 7 تشرين الأول/ أكتوبر، والتجاهل الذي ظهر عندما تجاوزت السلطة التنفيذية الأمريكية الكونجرس للموافقة على المساعدات العسكرية الطارئة لإسرائيل.
العقاب الجماعي
كما قامت دول أوروبية أخرى بتعليق تمويل الأونروا دون انتظار نتيجة تحقيق الأمم المتحدة، على الرغم من أن هذا يعتبر شكلاً من أشكال العقاب الجماعي، وهو أمر محظور بموجب القانون الدولي ودون أن تتخذ الدول الغربية أي إجراء بشأن قتل إسرائيل لأكثر من 150 موظفًا للأمم المتحدة في غزة.
بالنسبة للفلسطينيين، فإن الإجراءات العقابية تسبق التحقيقات والإجراءات القانونية الواجبة، أما بالنسبة لإسرائيل، كما ظهر من الهجوم الأخير على مستشفى جنين وقتل ثلاثة فلسطينيين، فإن إجراء التحقيقات والإجراءات القانونية الواجبة ناهيك عن التدابير العقابية ليس لها حتى مجرد اعتبار.
لقد غض المسؤولون الغربيون الطرف مراراً وتكراراً عن التحريض العلني من جانب المسؤولين الإسرائيليين، بمن فيهم وزير الدفاع يوآف غالانت، الذي أمر في غضون أيام من هجوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر بفرض “حصار كامل” على غزة، مؤكداً ” نحن نقاتل حيوانات بشرية”، وبدوا على نحو مماثل غير منزعجين عندما دعا وزير التراث عميحاي إلياهو إلى إسقاط قنبلة نووية على غزة.
تعد الأونروا مسؤولة عن تقديم الخدمات الإنسانية في قطاع غزة، حيث غالبية السكان هم من اللاجئين أو من نسل اللاجئين، والآن، وبسبب وقف التمويل الغربي، لن تكون المنظمة قادرة على تقديم الخدمات الحيوية في وقت تتفاقم فيه الأزمة في غزة كل يوم، حيث قال المبعوث الأمريكي لدى الأمم المتحدة أن التمويل لن يستأنف إلا بعد “تغييرات جوهرية” في الأونروا.
ومن الممكن فهم التدابير الأخيرة باعتبارها جزءاً من استراتيجية محسوبة طويلة الأمد، فخلال عام 2018، قطعت إدارة ترامب التمويل عن الأونروا وهي خطوة تراجع عنها بايدن لاحقًا، ووصفتها بأنها “عملية معيبة بشكل لا يمكن إصلاحه”، وفي العام السابق، كجزء من حملة للقضاء على فئة “اللاجئين الفلسطينيين” بالكامل، قال نتنياهو إنه يجب “تفكيك الأونروا ودمجها مع المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين“.
وإلى جانب الجهود المستمرة لتشويه الاحتجاجات الشعبية بشكل صارخ، فإن الأمل الرئيسي وربما الوحيد للفلسطينيين هو مجموعات التضامن الشعبية العالمية التي تشمل المشاركين اليهود، والذين يواجهون تحديات كبيرة تشمل محاولات قمعهم وحتى تجريمهم فيما يواصلون التأكيد على الحقوق الفلسطينية.
وفي الوقت نفسه، يبدو أن الدولة الإسرائيلية لا تملك الإجابات، لأن أفضل ما يمكن أن تقدمه كبار العقول السياسية والعسكرية لديها هو إنشاء “منطقة عازلة” بعمق كيلومتر واحد حول غزة تسعى إسرائيل من خلالها إلى عزل القطاع بالأسوار بالفعل.
ويتناسب هذا السلوك مع العقلية الصهيونية المتمثلة في الاستيلاء على المزيد من الأراضي ودفع الفلسطينيين إلى جيوب أصغر من أي وقت مضى، ولن يكون هناك أبداً أمن أو سلام كامل إذا تم تجاهل تطلعات الفلسطينيين وحقوقهم السياسية.
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)