بقلم وسام شرف
ترجمة وتحرير نجاح خاطر
تفرض التقارير الأخيرة حول محادثات مزعومة بين الحكومة المؤقتة في سوريا ودولة الاحتلال بشأن اتفاق أمني يشمل هضبة الجولان المحتلة و”منطقة عازلة” إسرائيلية موسّعة، ضرورةً ملحّة لإعادة التذكير بالأسس القانونية والسياسية التي تحكم هذا الملف الشائك.
فأي محاولة لعقد مثل هذا الاتفاق، دون مرجعية واضحة للقانون الدولي أو مراعاة الكلفة الإنسانية الباهظة لعقود من الاحتلال والتهجير، لا تمثّل فقط تقويضًا للشرعية الدولية، بل تشكّل خرقًا خطيرًا للولاية المحدودة التي تملكها سلطة انتقالية غير منتخبة في دولة ما تزال تحت الرماد.
احتلال بلا شرعية
والقانون الدولي واضح ولا يحتمل التأويل، فهو يعتبر هضبة الجولان أرضاً سورية محتلة، وقد تمكّن الاحتلال الإسرائيلي من بسط سيطرته على هذه المرتفعات في حرب عام 1967، لكنه لم ينجح في منح احتلاله أي شرعية قانونية.
وقد تبنّى مجلس الأمن الدولي عام 1967 وبالإجماع القرار 242، مطالبًا بانسحاب الاحتلال من الأراضي التي استولى عليها بالقوة، وحيث أكد القرار 338 عام 1973 هذا المبدأ، ليأتي القرار 497 عام 1981 ويعلن أن ضم الجولان أحادي الجانب “لاغٍ وباطل ولا قيمة قانونية له”.
وعليه، فإن بقاء الاحتلال في الجولان، وما يرافقه من فرض قوانينه وتوسيع مستوطناته، يشكّل انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي، وتحديدًا لاتفاقية جنيف الرابعة، التي تحظر على دولة الاحتلال نقل سكانها المدنيين إلى الأراضي المحتلة.
منطقة عازلة أم تجزئة مستمرة؟
ولا يمثل إعلان الاحتلال العام الماضي عن توسيع ما يسمّى “المنطقة العازلة” داخل الأراضي السورية، بذريعة الحفاظ على “الاستقرار”، غير طبقة إضافية من فرض السيطرة الفعلية وتكريس التغييرات الميدانية.
وتمثل هذه الخطوات شكلاً مستحدثًا من التجزئة الممنهجة للسيادة السورية، وتثبيتًا لواقع استعماري تحكمه القوة لا القانون، بل هي سياسة الأمر الواقع التي تُفرض فوق الخرائط وتُسوّق باسم الأمن.
لكن الأهم من كل ذلك، أن الجولان ليس مجرد ملف قانوني أو نزاع على الحدود، إنه جرح إنساني لم يلتئم منذ عام 1967، حين طُرد أكثر من 130 ألف سوري قسرًا من أرضهم.
وما زال هؤلاء اللاجئون وأبناؤهم، المنتشرون في الداخل والخارج، محرومين من حق العودة الذي تكفله الشرعية الدولية لهم، لقد فقدوا أراضيهم ومنازلهم وذاكرتهم الجماعية، وحُرموا من حقهم في الدفن في تراب أجدادهم، وفي الزواج ضمن قراهم، وفي رواية حكاياتهم لأطفالهم بين أشجار الكرز التي كانوا يعرفونها شجرةً شجرة.
هذه الكارثة لا تُقاس بالأرقام، إنها تراكُم للألم والحرمان، تُضاف إليه طبقات جديدة من الإهمال والتهميش السياسي والاجتماعي، سواء من طرف الاحتلال أو من النظام السوري نفسه.
اللاجئون والدروز.. أوجه النسيان والتمييز
ولا تقتصر تداعيات الاحتلال الإسرائيلي للجولان على تهجير عشرات الآلاف، بل تمتد إلى استمرار معاناة من تبقّى في الأرض، لا سيما أبناء الطائفة الدرزية، الذين يزيد عددهم اليوم عن عشرين ألف نسمة يعيشون في قرى الجولان تحت حكم الاحتلال.
إذ تخضع هذه المجتمعات لنظام تمييز ممنهج يشمل مصادرة الأراضي، وكذلك تخضع لسياسات إسرائيلية تهدف إلى تفكيك النسيج الاجتماعي السوري داخل المرتفعات، غير أن أبشع ما يواجهونه هو الحرمان من صلة الرحم، ذلك أن قانون الاحتلال يمنعهم منذ عقود من التواصل مع أقاربهم في سوريا، لا عبر الزيارات ولا حتى عبر الهاتف أو الإنترنت.
ونتيجة لذلك فقد تفكّكت الأسر، ومنع الأب من حضور جنازة ابنه، وحُرمت الأمهات من توديع بناتهن، وأُطفئت شموع الأعراس في عزلة إجبارية، لقد أصبح الجولاني، بقرار إداري من الاحتلال، منفيًّا في أرضه، يتنفس الهواء السوري ويُمنع من لمسه.
هذا الانتهاك العميق لا يمس فقط بالحق في الحياة الأسرية، بل يضرب في صميم الكرامة الإنسانية التي يُفترض أن تحميها كل المواثيق الدولية.
الحكومة المؤقتة.. من خواء الشرعية إلى خطر التنازل
ولا تملك الحكومة السورية المؤقتة، التي نشأت في سياق النزاع، أي شرعية دستورية أو تفويض شعبي يخولها التفاوض على ملفات تتعلق بسيادة الدولة ووحدة أراضيها.
وأي اتفاق سياسي أو أمني يمس بوضع الجولان أو يعترف ضمنيًا بسلطة الاحتلال، هو اتفاق باطل، ليس فقط لأنه يفتقر إلى الغطاء القانوني، بل لأنه يتناقض مع جوهر المسؤولية الوطنية، إذ لا تملك حكومة انتقالية أن تتصرف في ما لا تملك.
كما أن القانون الدولي واضح في هذا الصدد: الأراضي المحتلة لا تُمنح، والاحتلال لا يُجزى عليه بالتطبيع أو بالتنازل.
وبالتالي، فإن مجرد التلميح بوجود مفاوضات على الجولان في سياق سعي سلطات مؤقتة لتثبيت نفسها سياسيًا أو اكتساب الشرعية الدولية، يشكل تهديدًا مباشرًا للحقوق السيادية لسوريا، وخروجًا عن المبادئ التي تحكم الوضع القانوني للأراضي المحتلة.
السيادة لا تُقايض… ولا تُهدى
ولا يمكن فصل مصير الجولان عن مصير سوريا كدولة، ولا عن كرامة السوريين كشعب، فبعد أكثر من عقد من الحرب والدمار، يحتاج السوريون حقًا إلى السلام وإلى إعادة الإعمار وإلى مصالحة وطنية تعيد الحياة إلى بلد مزقته التدخلات والقمع والانقسامات.
لكن السلام الحقيقي لا يُبنى على التنازل عن الأرض، ولا على شرعنة الاحتلال، بل يُصاغ من خلال اعتراف عادل بالحقوق، ومن خلال استعادة السيادة لا التفاوض عليها.
إن تقديم الجولان كورقة على طاولة التفاوض، أياً تكن الدوافع السياسية أو الترتيبات الأمنية، لا يمثل مخرجًا مشروعًا من الأزمة السورية، بل هو سقوط في فخ المساومة على الثوابت الوطنية، وتفريطٌ بحقوق لا تملك أي سلطة مؤقتة أن تتنازل عنها.
فالأرض ليست ملكًا للأنظمة، ولا للحكومات المؤقتة، بل هي حقٌ للأجيال القادمة، وتاريخٌ لشعب بأكمله، ولا أحد يملك الحق في “إهداء” الجولان لأي طرف كان، تحت أي عنوان كان.
الجولان… رمز وطني ودليل قانوني
كما أن مرتفعات الجولان ليست مجرد منطقة جغرافية، بل رمز سيادي، وشاهد حي على ما يعنيه الاحتلال: التهجير، الحرمان، الفصل، التمييز، والاقتلاع من الجذور.
والقانون الدولي، بقراراته الواضحة، لا يترك مجالًا للغموض: الاحتلال لا يخلق حقًا، وفرض القوة لا يمنح شرعية، والحدود المعترف بها لسوريا تشمل الجولان، كاملةً، من دون اجتزاء أو تفاوض على ما هو غير قابل للتفاوض.
يجب أن يكون هذا المبدأ نقطة انطلاق لأي نقاش سياسي حقيقي حول مستقبل سوريا، فليس من العدل، ولا من المنطق، أن يُطلب من الضحية أن تتنازل عن حقها في وجه من يحتلها، لا لشيء سوى أنها ضعيفة حاليًا.
الوعي والمساءلة
على السوريين في كل أطيافهم وانتماءاتهم أن يبقوا يقظين، فالقضية لم تعد فقط قانونية، بل باتت قضية كرامة ووجود، الجولان ليس ورقة تفاوضية، بل جزء لا يتجزأ من الروح السورية.
وعلى المجتمع الدولي، إذا أراد أن يكون جزءًا من الحل لا من المشكلة، أن يرفض أي اتفاق يتم بعيدًا عن الشرعية، وألا يغض الطرف عن محاولات الاحتلال الاستفادة من الفوضى السورية لتكريس أمر واقع جديد.
إن ما هو على المحك ليس مجرد شريط من الأرض، بل مبدأ أن الأرض لا تؤخذ بالقوة، وأن السيادة ليست هدية، وأن الشعوب لا تُجرد من حقوقها باسم الواقعية السياسية.
للاطلاع على المقال الأصلي من (هنا)