بقلم جوزيف مسعد
وصف القرار الأخير الذي أصدرته محكمة العدل الدولية اتهامات جنوب أفريقيا لإسرائيل بارتكاب إبادة جماعية بحق الشعب الفلسطيني في حربها على غزة؛ بأنها اتهامات تستند إلى حجج ودلائل تستلزم قيام مداولات بين قضاة المحكمة واستصدار حكم في هذا الصدد. وقد دعا قرار المحكمة إسرائيل إلى “منع ارتكاب جميع الأعمال” التي تعتبرها اتفاقية الإبادة الجماعية الدولية أعمالا إبادية و”منع ومعاقبة التحريض المباشر والعلني على ارتكاب الإبادة الجماعية” بحق الفلسطينيين. وقد استشهدت محكمة العدل الدولية بتصريحات إبادية عديدة كان المسؤولون الإسرائيليون، بما في ذلك رئيس الدولة ورئيس الوزراء الإسرائيليين، قد أطلقوها.
يضع قرار محكمة العدل الدولية إسرائيل بشكل مباشر في خانة الدول الاستعمارية الاستيطانية البيضاء التي ارتكبت إبادات جماعية. ونتيجة لهذا القرار، ستتداول المحكمة التهم الموجهة لإسرائيل بارتكاب “إبادة جماعية”، وهي مداولات قد تستمر لأشهر أو سنوات قبل إصدار قرار نهائي بشأنها. وقد أصرت دولة جنوب أفريقيا في سياق القضية التي رفعتها ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية على التأكيد على أن إسرائيل ترتكب الفظائع بحق الشعب الفلسطيني منذ عام 1948، وليس فقط منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 (ناهيك عن الفظائع التي ارتكبها الصهاينة منذ ثمانينيات القرن التاسع عشر). ورغم أن هذا التحقيق الذي ستقوم به المحكمة، كأعلى منتدى قانوني عالمي، جاء متأخرا، إلا أنه يحظى بترحيب وإشادة واسعة على الصعيد الفلسطيني.
وبينما لم يكلّ الفلسطينيون عن اتهام إسرائيل بالتطهير العرقي منذ عام 1948 وما تلاه، فقد اتهم ساسة إسرائيليون وباحثون فلسطينيون وإسرائيليون كذلك المستعمرة الاستيطانية اليهودية عبر السنين الماضية بارتكاب “إبادة إثنية” و”إبادة سياسية” و”إبادة مجتمعية” بحق الشعب الفلسطيني. أما بالنسبة للإبادة الجماعية، فإن القضية التي رفعتها جنوب أفريقيا مؤخرا لم تكن المرة الأولى التي يتم فيها توجيه مثل هذا الاتهام للمستعمرة-الاستيطانية.
فعلى سبيل المثال، وفي أعقاب ارتكاب مجازر صبرا وشاتيلا في أيلول/ سبتمبر 1982، أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارا يدين المجازر باعتبارها “عملا من أعمال الإبادة الجماعية”، حيث صوتت أغلبية ساحقة من 123 دولة لصالح القرار وامتنعت 22 دولة عن التصويت ولم تعارضه أي دولة. وقد رفضت المستعمرات الاستيطانية البيضاء حينها مثل كندا والولايات المتحدة تطبيق مصطلح “الإبادة الجماعية” وامتنعتا عن التصويت. وكذلك فعلت مستعمرات المستوطنين البيض في أستراليا ونيوزيلندا والدول الاستعمارية البيضاء في أوروبا الغربية، بما في ذلك بريطانيا، وفرنسا، والسويد، وفنلندا، وهولندا، وغيرها، بينما أعلن الاتحاد السوفييتي في الوقت نفسه أن “المصطلح الذي يصف ما تقوم به إسرائيل على الأراضي اللبنانية هو الإبادة الجماعية، والغرض منه هو تدمير الفلسطينيين كأمة”. كما اتهمت جمهورية ألمانيا الديمقراطية إسرائيل بارتكاب إبادة جماعية، وكذلك فعلت كوبا ونيكاراغوا. وتعجبت مندوبة نيكاراغوا من الكيفية التي “يقوم شعب عانى كثيرا من سياسة الإبادة النازية في منتصف القرن العشرين باستخدام نفس الحجج والأساليب الفاشية والإبادة الجماعية ضد الشعوب الأخرى”.
كما أوصت لجنة دولية مستقلة مكونة من حقوقيين دوليين حققوا في جرائم إسرائيل في لبنان في أوائل عام 1983 “بتشكيل أو إنشاء هيئة دولية مختصة لتوضيح مفهوم الإبادة الجماعية فيما يتعلق بالسياسات والممارسات الإسرائيلية تجاه الشعب الفلسطيني”.
وقد تصاعدت الاتهامات الموجهة إلى إسرائيل بأنها دولة إبادة منذ بداية تحويل إسرائيل لقطاع غزة إلى معسكر اعتقال في الفترة 2005-2006، وسجن أكثر من مليوني فلسطيني داخله منذ تلك الفترة. وبالإضافة إلى الفلسطينيين أنفسهم، فقد وصف الرئيس الفنزويلي أوغو تشافيز، على سبيل المثال، القصف الإسرائيلي على غزة في الفترة 2008-2009 بأنه “إبادة جماعية”. وفي أعقاب قيام إسرائيل بقتل أكثر من 2200 فلسطيني في حربها على غزة في عام 2014، اتهم الرئيس البوليفي إيفو موراليس إسرائيل بارتكاب إبادة جماعية، كما فعل العشرات من اليهود الناجين من المحرقة ومئات من اليهود من أحفاد الناجين من المحرقة الذين اتهموا إسرائيل أيضا بارتكاب “إبادة جماعية”. وعلاوة على ذلك، اتهم باحثون دوليون إسرائيل أيضا بارتكاب إبادة جماعية بحق الفلسطينيين بسبب الفظائع التي ارتكبتها في عام 1948 وما تلاها من فظائع، في دراسات نشروها في مجلات علمية متخصصة منذ عام 2008 على الأقل.
ولطالما أنكرت إسرائيل والمدافعون عنها هذه الاتهامات بشدة، لكن إنكارها هذا إنما يضعها تماما في معية المستعمرات الاستيطانية البيضاء التي يتواصل النقاش فيها لغاية اليوم عما إذا كان استيطانها هو ما تسبب بإبادة جماعية للشعوب الأصلية.
وقد ساهم الأكاديميون الأوروبيون والأمريكيون بنشاط في محو ممارسات الإبادة الجماعية للمستوطنين البيض من الذاكرة التاريخية. فعلى سبيل المثال، قامت الفيلسوفة الألمانية الأمريكية البارزة حنة أرندت في عام 1951 بالتأكيد على أن استعمار المستوطنين الإنجليز لأمريكا وأستراليا، وهما قارتان “بلا ثقافة أو تاريخ خاص بهما”، قد شهد “فترات قصيرة نسبيا من التصفية القاسية [للسكان] بسبب الضعف العددي للسكان الأصليين”. وقد ذهبت أرندت إلى حد الزعم بأن أيا من رجال الدولة القوميين الإنجليز “لم يكن مهتما جديا بالتمييز ضد الشعوب الأخرى باعتبارها أعراقا دنيا، وإن كان ذلك فقط بسبب أن الدولتين اللتين كانوا يتباحثون في شأنهما، كندا وأستراليا، كانتا شبه فارغتين ولم تكن لديهما مشكلة سكانية جدية”.
غالبا ما صاحبت الإبادة الجماعية عملية الاستعمار الاستيطاني الأوروبي الأبيض في جميع أنحاء العالم. أما عملية تبرير إبادة السكان الأصليين كعقاب لهم على التجرؤ على مقاومة سرقة المستعمرين البيض لأراضيهم فتفيض فيها أرشيفات الاستعمار الأوروبي، وكان ذلك يحدث بشكل خاص عندما يواجه المستوطنون البيض مقاومة على “حدود” مستوطناتهم، سواء في الأمريكتين أو في أستراليا.
وتعتبر الحملات الإبادية التي يقوم بها المستوطنون بحق السكان الأصليين، والتي يشار إليها بـ”الأعمال الانتقامية” فيما توصف في حالة إسرائيل بـ”الرد على العدوان”، حجر الزاوية في منظومة الأخلاق الغربية. وخير شاهد على ذلك الدعم الهائل الذي تقدمه الحكومات الغربية لحرب الإبادة الجماعية التي تشنها إسرائيل، والتبرير لإبادة الشعب الفلسطيني الذي تسوقه الصحافة الغربية السائدة، ناهيك عن الرقابة، الحرفية والمجازية، على أي رأي، لا سيما الآراء الأكاديمية، التي تدين الفظائع الإسرائيلية على أنها جزء من الطبيعة العنصرية والإبادية للصهيونية، وهو ما أقرته الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 1975 عندما عرّفت الصهيونية بأنها “شكل من أشكال العنصرية والتمييز العنصري”.
يتم تصوير هجوم السكان الأصليين على مضطهديهم الاستعماريين على أنه باكورة العنف، وليس كرد فعل دفاعي على السرقة والقمع الاستعماريين، ومن هنا يتم تصوير حروب الإبادة الجماعية الاستعمارية على أنها “انتقام” و”ردّ على عدوان” السكان الأصليين.
إن اعتبار القرار الأخير الذي أقرته الجمعية العامة للأمم المتحدة (والذي دعا إلى وقف إطلاق النار وحظي بتأييد 153 دولة ولم تعارضه إلا 10 دول فقط، بما في ذلك إسرائيل والولايات المتحدة) وقرار محكمة العدل الدولية (الذي أيده 14 من أصل 15 قاضيا دائما في محكمة العدل الدولية) بأنهما ليسا أقل من مواجهة علنية ما بين الدول الأوروبية البيضاء ومستعمراتها الاستيطانية البيضاء من جهة وبقية العالم من جهة أخرى.
لقد شكلت الإبادة الجماعية المستمرة بحق الفلسطينيين لحظة حاسمة، فبينما يدعم البيض المؤمنون بفوقية العرق الأبيض الإبادة الجماعية للشعوب غير البيضاء من جهة، فإن بقية شعوب العالم، التي تدرك بأن إسرائيل مستعمرة استيطانية أوروبية شأنها شأن المستعمرات-الاستيطانية البيضاء الأخرى وبأنها تمارس الإبادة الجماعية بدعم من الدول الاستعمارية البيضاء، تصر على الدفاع عن الفلسطينيين من جهة أخرى.
وقد أفزعت هذه الإدانة لإسرائيل من قبل غالبية العالم؛ ألمانيا التي لها باع طويل في ارتكاب الإبادات الجماعية، والتي كانت في طليعة الدول التي دافعت عن الإبادة الجماعية الإسرائيلية بحق الفلسطينيين، حيث أصرت على الانضمام إلى فريق الدفاع عن إسرائيل كطرف ثالث في محكمة العدل الدولية. ولم يكن من قبيل الصدفة أن تغضب دولة ناميبيا، التي كان شعبها أول ضحايا الإبادة الجماعية الألمانية، من دعم ألمانيا غير التائب للإبادة الجماعية بحق الفلسطينيين كشعب غير أبيض: فقد أعرب رئيس ناميبيا هاج غاينغوب (الذي وافته المنية الأسبوع الماضي) عن أسفه لـ”عجز ألمانيا عن استخلاص الدروس من تاريخها المروع”، وأعلن أن ناميبيا “ترفض دعم ألمانيا لنية الإبادة الجماعية للدولة الإسرائيلية العنصرية”. ونظرا للدعم الدبلوماسي والمالي والعسكري المتواصل الذي قدمته ألمانيا الغربية لإسرائيل منذ خمسينيات القرن الماضي، بما في ذلك دعم الدولة الألمانية الموحدة منذ عام 1990 لحرب الإبادة الجماعية الحالية التي تشنها إسرائيل بحقهم، فلا يمكن لوم الشعب الفلسطيني إن هو اعتبر أن ألمانيا اليوم هي “الرايخ الرابع”.
وقد اعتمدت المستعمرات الاستيطانية البيضاء دائما سياسة هجرة حصرية للبيض لدولها كجزء من هيمنتها على السكان الأصليين الذين اغتصبت أراضيهم. فقد تم تطبيق سياسة وقوانين “أستراليا البيضاء” بشأن الهجرة، والتي اعتمدت في عام 1901 بشكل صارم حتى عام 1973. ولم يتم إلغاء سياسة الهجرة الحصرية للبيض في نيوزيلندا، والتي تم اعتمادها في عام 1947 حتى عام 1987 (وإن كان قد تم تعديلها جزئيا في عام 1974). وقد استمرت سياسة الهجرة العنصرية الصريحة والحصرية للبيض في كندا حتى عام 1962، كما استمرت سياسة الهجرة العنصرية في جنوب أفريقيا حتى سقوط نظام الفصل العنصري في عام 1994.
وكانت سياسات الهجرة الأمريكية العنصرية قد بدأت بعد الثورة على الفور في أول قانون للجنسية اعتمدته البلاد في عام 1790 والذي نص على حصرية تجنيس البيض فقط، ومن ثم استهل بقانون استبعاد الصينيين العنصري لعام 1882 (الذي ألغي جزئيا في عام 1943)، والذي استبعد معظم الآسيويين (بما في ذلك الهنود واليابانيون)، ولم يتم إلغاؤه بالكامل حتى عام 1965.
وقد سنت إسرائيل، شأنها شأن باقي المستعمرات الاستيطانية، قانون العودة في عام 1950 (الذي لا يزال ساري المفعول)، والذي يسمح لليهود في أي مكان في العالم بالهجرة إلى إسرائيل وأن يصبحوا مواطنين فور وصولهم، وهو حق تنكره على السكان الفلسطينيين الأصليين الذين طردتهم والذين من المفترض أن يحل هؤلاء اليهود محلهم.
لقد قام الليبراليون البيض (مع قليل من الاستثناءات)، وليس فقط المحافظون البيض، بما في ذلك الصحافة الليبرالية الغربية التي يهيمن عليها البيض وإدارات الجامعات الليبرالية الغربية -والتي شأنها شأن الحكومات الغربية نفسها تضم الآن بعض الأشخاص من غير البيض (للتغطية على هيمنة البيض العددية في كل مراكز القوى) الذين يرددون الخطاب الليبرالي الأبيض بشأن إسرائيل- بتقديم الدعم الدائم لهذه الأنظمة الاستيطانية الاستعمارية البيضاء ولسياساتها تجاه السكان الأصليين. وإن نشأت خلافات فيما بينهم، فهي في الغالب تتعلق باختلاف في وجهات النظر عن أفضل السبل للقضاء على تهديد السكان الأصليين لسرقات المستوطنين ومدى القسوة التي ينبغي استخدامها في الحد من ذلك التهديد.
تركز النقاشات الجارية اليوم حول مصير الفلسطينيين في الصحافة الليبرالية البيضاء وبين الأكاديميين الليبراليين البيض ومدراء الجامعات، بما في ذلك من غير البيض الذين تبوأوا تلك المراكز نتيجة انخراطهم في المشاريع الاستعمارية والعنصرية، كما هو الحال في جامعة كولومبيا التي أعمل فيها، على أفضل السبل لهزيمة النضال الفلسطيني وحماية نظام التفوق العرقي اليهودي في المستعمرة الاستيطانية اليهودية، حيث تتم صياغتها على أنها دعوات لـ”السلام” واللاعنف وإلى إنهاء “الأزمة الإنسانية” في غزة.
ما يوضحه كل هذا بجلاء هو أن العالم اليوم منقسم إلى معسكرين متعارضين: أقلية من البيض الإمبرياليين الذين يسيطرون على كوكب الأرض، ويعتنقون فكرة تفوّق العرق الأبيض، من ليبراليين ومحافظين على حد سواء (بما في ذلك الليبراليون غير البيض)، يدعمون الإبادة الجماعية للفلسطينيين، وأغلبية شعوب العالم التي ترفضه قطعيا. أما أنصار الإبادة الجماعية فهم لا يخجلون وغير نادمين بتاتا، حيث إن قرار محكمة العدل الدولية ضد إسرائيل ولصالح قضية جنوب أفريقيا لم يسبب لهم سوى القليل من الحرج إن كان بالفعل قد تسبب لهم بأي إحراج على الإطلاق، وهذا ما تدل عليه تصريحاتهم ومواقفهم المعلنة قبل صدور القرار وبعده.
للإطلاع على النص باللغة الانجليزية من (هنا)