بقلم ديفيد هيرست
ترجمة وتحرير مريم الحمد
قبل كلمة الرئيس الأمريكي جو بايدن أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة مؤخراً، صرح مسؤول أمريكي كبير لصحيفة واشنطن بوست بالقول أنه “بشكل عام، أصبحت المنطقة أكثر استقراراً، تماماً كما كانت قبل سنوات”!
في الشرق الأوسط اليوم، هناك 5 دول في حالة مدمرة، 4 منها بسبب تدخل الولايات المتحدة، و3 أخرى تدعم واشنطن حكامها الديكتاتوريين وتقف اليوم على حافة الإفلاس، ومع ذلك، استطرد المسؤول الأمريكي حديثه بالقول “أعتقد أن الكثير من ذلك يرجع إلى دبلوماسية واشنطن الذكية جدًا في بعض الأحيان، والتي غالبًا ما تكون وراء الكواليس”!
واليوم تحتل السعودية مكان الصدارة في شرف الحصول على جوائز تلك الدبلوماسية الأمريكية، إن صح التعبير، مع جهود بايدن لإتمام تطبيعها مع إسرائيل، فوزير الخارجية، أنتوني بلينكن، بات يتحدث عن العملية بحماسة غريبة، بعد أن كان من أول المشككين بها، حين كانت ملفاً بين يدي جاريد كوشنر صهر الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب.
تعد محاولة تلميع صورة بن سلمان باعتباره مصلحاً صاحب رؤية، أمر أشبه بالكوميديا السوداء، إن لم تكن مهينة للعائلات السعودية التي عانت من قمعه، فبعد 5 سنوات فقط، من مقتل جمال خاشقجي بأمر من بن سلمان، عاد المستثمرون الغرب إلى مؤتمر دافوس في الصحراء السعودية، يبحثون بشراهة عن أي مكسب محتمل!
عبر بلينكن عن حماسته باعتبار الصفقة المرتقبة “حدثاً تحويلياً، فيما أشار مستشار الأمن القومي، جيك سوليفان، إلى أن الأطراف المعنية لديها “فهم واسع لعناصر العملية الأساسية” على حد وصفه.
ولعل أحدث قطعة في الأحجية المعقدة هي موافقة السعودية على الإشراف النووي لوكالة الطاقة الدولية التابعة للأمم المتحدة، في مشروع تعد فيه المساعدة الأمريكية في مجال التخصيب النووي أحد البنود المدرجة على قائمة المطالب السعودية، في حين يظهر ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، تردداً حتى الآن في التوقيع على بنود اتفاقية أمنية أمريكية خوفاً من تأثيرها على علاقته بالصين.
محاولة مسح قادة جدد!
في مقابلته الأخيرة مع فوكس نيوز، نفى بن سلمان تعليق المحادثات بسبب الحكومة اليمينية في إسرائيل، مؤكداً أنه “في كل يوم نقترب من التوصل إلى اتفاق، هذه المرة الأمر حقيقي وجاد”، وفي نفس الوقت أكد أن الاتفاق لن يؤثر على دعمه لروسيا في منظمة أوبك، مشيراً إلى أن الأمر يتعلق “بالعرض والطلب”، وبالصين التي اعتبر أن زعيمها شي جين بينغ “قد بذل قصارى جهده” لدعم بلاده.
التطبيع العربي مع إسرائيل، إذن، يحمل معاني مختلفة جذرياً بالنسبة للأطراف المختلفة، بالنسبة للولايات المتحدة، التي تواجه مصاعب في الانسحاب من المنطقة بعد عقدين من التدخلات الفاشلة، فإن المكاسب التي يمكن أن يأتي بها التطبيع السعودي مع إسرائيل ستكون جيوسياسية بالدرجة الأولى، يتعلق الأمر بإبعاد الصين وروسيا عن الخليج من أي شراكة ما عدا التجارية.
مع مرور الوقت، أصبح توجه الرئيس الأمريكي الأسبق، باراك أوباما، نحو المحيط الهادئ و”صفقة القرن” التي طرحها ترامب أكثر اندماجاً ضمن محور واحد، كل الرؤساء الثلاثة قد مزقوا ورقة البحث عن حل للصراع الإسرائيلي الفلسطيني، أما بالنسبة لدول الخليج الغنية، فالأمر كله يتمحور حول اللعب في السوق والحصول على أعلى سعر في المزاد.
خلال السنوات السابقة، مرت كل من السعودية والإمارات وقطر بنفس الصدمات التي مرت بها غيرها من الدول التي اعتمدت على التمويل والتكنولوجيا والدعم العسكري من الغرب، كما مرت إيران وروسيا وتركيا في نفس المرحلة، ولذلك، باتت كل تلك الدول تريد إسقاط الهيمنة الأمريكية في القرن 21، رغم اختلاف التصريحات والتحالفات الخارجية في ظاهرها.
من على منصة الأمم المتحدة، أعلن نتنياهو النصر، مستعرضاً خرائطه الخادعة، والتي طمست منها الأراضي الفلسطينية، وما ذلك إلا وهم كبير!
كانت تلك الدول تؤمن بالحلم الغربي باعتباره محركاً للتنمية، وهم يشعرون بخيبة أمل عميقة وأصبحوا مصممين على صياغة مستقبلهم من خلال بناء تحالفات من منظورهم الخاص، بعيداً عن الصبغة الأمريكية المفروضة.
محاولة تلميع محمد بن سلمان!
من يعتقد أن التطبيع السعودي القادم قد يعزز من صورة بن سلمان والسعودية لدى المعسكر الغربي، فهو يعيش في وهم كبير، فما تفعله الرياض لا يعلو عن نشر رهاناتها، وهو أمر مفهوم في ظل الظروف الراهنة.
الحقيقة هي أن محمد بن سلمان أقرب لنموذج الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على الساحة العالمية، فكلاهما بدأ غريباً وتم طرده من قبل أقرانه والاستهانة به من طرف أعدائه، ولم يجد طريقه للقمة إلا بأقصى درجات القسوة والقمع، وآخر الأمثلة ما فعله بوتين باغتيال بريغوجين في الخارج.
من هنا، تعد محاولة تلميع صورة بن سلمان باعتباره مصلحاً صاحب رؤية، أمر أشبه بالكوميديا السوداء، إن لم تكن مهينة للعائلات السعودية التي عانت من قمعه، فبعد 5 سنوات فقط، من مقتل جمال خاشقجي بأمر من بن سلمان، عاد المستثمرون الغرب إلى مؤتمر دافوس في الصحراء السعودية، يبحثون بشراهة عن أي مكسب محتمل!
أما بالنسبة لإسرائيل، فإن التطبيع مع جيرانها العرب يعني تثبيت مكانتها كقوة عسكرية وتكنولوجية مهيمنة في المنطقة، فالأمر لا يدور حول التكافؤ أبداً، أو البحث عن شراكة متساوية، أو حتى حول مستعمر أوروبية تحاول التصالح مع حقيقة وجودها في الشرق الأوسط، رغم كل الاتفاقيات التي وقعت أو يمكن أن توقع عليها، فإن إسرائيل سوف تظل مصرة دائماً على التفوق العسكري في المنطقة.
إعلان انتصار للصهيونية!
يضاف إلى ذلك عنصر أيديولوجي قوي بالنسبة للقيادة الإسرائيلية المتطرفة الحاكمة اليوم، فهي لا تريد تجنب الصراع ناهيك عن صناعة السلام، ولكن التطبيع مع السعودية يشكل إعلان انتصار للمشروع الصهيوني أكثر من أي شيء آخر، وهو ما أكده رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، في كلمته أمام الجمعية العامة، بل زاد عليه أن “الفلسطينيين لا يمكن أن يكون لهم حق الفيتو على السلام”!
قال في كلمته “أعتقد أننا على أعتاب سلام تاريخي بين إسرائيل والسعودية، مثل هذا السلام سيقطع شوطاً طويلاً نحو إنهاء الصراع العربي الإسرائيلي، وسوف يشجع دولاً عربية أخرى على التطبيع، نحو مصالحة أوسع بين اليهودية والإسلام، بين القدس ومكة، بين نسل إسحاق ونسل إسماعيل”.
من على منصة الأمم المتحدة، أعلن نتنياهو النصر، مستعرضاً خرائطه الخادعة، والتي طمست منها الأراضي الفلسطينية، وما ذلك إلا وهم كبير!
في المرة القادمة التي يعلن فيها زعيم إسرائيلي “السلام”، فأنا أنصح كل من يقيم في محيط طائرات إسرائيل الحربية والمسيرة بالغوص بحثاً عن ملجأ!
تم قبل ذلك، عدة مرات، الإعلان عن بداية جديدة، ولم تنجح أي منها، فعندما التقى الرئيس المصري السابق أنور السادات برئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغن عام 1977، تعهد الأخير بأنه “لا مزيد من الحرب، لا مزيد من سفك الدماء ولا مزيد من الهجمات”، ولم يكد يمضِ عام واحد، حتى غزت إسرائيل جنوب لبنان حتى نهر الليطاني، ثم كررت ذلك عام 1982 وقصفت بيروت بحجة طرد منظمة التحرير الفلسطينية.
تكررت تلك الوعود الكاذبة في أوسلو عام 1993، بعد التوقيع على نفس الطاولة الخشبية التي استخدمت في معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل عام 1979، وقتها كتبت صحيفة نيويورك تايمز أن اتفاق أوسلو “سوف يسمح للفلسطينيين بالنهاية بإدارة شؤونهم الخاصة مع انسحاب القوات الإسرائيلية خلال أشهر من غزة وأريحا كخطوة أولى”.
سلام قادم؟!
كانت معاهدات السلام مع مصر والأردن مليئة باجتماعات سرية بين القادة العرب والإسرائيليين، تماماً مثل لقاءات محمد بن سلمان ونتنياهو السرية، فقد التقى رئيس الوزراء الأسبق، شمعون بيريز، ووزير دفاعه، إسحاق رابين، بالعاهل الأردني الراحل الملك حسين في ضواحي العقبة منتصف الليل عام 1986، كما هو معروف أن الملك حسين زار إسرائيل 3 مرات سراً، حاملاً معه هدايا أقلام ذهبية يعلوها رمز التاج الهاشمي، وكان الملك يستمتع بقضاء الوقت والتدخين مع رابين.
كل تلك تفاصيل مؤثرة، لكنها لم تغير شيئاً من مجرى التاريخ، بل بالعكس شجعت إسرائيل على الاستمرار في احتلالها وقمعها ومهاجمة جيرانها عند أول علامة على وجود متاعب في الطريق إليها من وجهة نظرها بالطبع!
السؤال هنا، هل تغير الرأي العام الأردني والمصري بعد هذه المعاهدات؟ إن كان هناك ما قد تغير، فهو أن إسرائيل أصبحت مكروهة منبوذة أكثر من أي وقت مضى، حتى اليوم فإن أهم ما يشغل المواطن العربي هو معاملة إسرائيل للفلسطينيين.
وبعد 3 عقود من معاهدة السلام الأردنية، أعلن وزير الدفاع الإسرائيلي، يوآف غالانت، أن إسرائيل ستبني حاجزاً جديداً على طول الحدود التي تبلغ 300 كم مع الأردن، وسوف ترفض منح الشباب الأردني تأشيرات لعبوره، في إشارة على عدم وجود سلام بين البلدين!
كانت تلك الرؤية واضحة منذ البداية لدى الزعيم اليهودي الأوكراني الصهيوني، فلاديمير جابوتنسكي، حين عبر عن ذلك فكتب “إن تصور أن العرب سيوافقون طوعاً على مشروع الصهيونية، مقابل المزايا الأخلاقية والمادية التي يجلبها المستعمر اليهودي معه، هو تصور طفولي، لدينا احتقار للعرق العربي، هو غوغاء فاسد يمكن شراؤه وبيعه، وهم على استعداد للتخلي عن وطنهم من أجل نظام سكك حديدية جيد”.
ربما يكون جابوتنسكي قد شهد أخذ عرب لرشاوى، لكن ذلك لا يعني أن الشعب العربي في فلسطين ككل يمكنه البيع، خاصة مع الوطنية الحماسية الغيورة التي تظهر بوضوح!
لعقود من الزمن، تمتع القادة العرب بعلاقات دافئة مع نظرائهم الإسرائيليين، بعضها كان حتى قبل إنشاء إسرائيل، ولذلك يعد الادعاء بأن إسرائيل محاطة بأنظمة عربية تمثل تهديداً وجودياً كان وهماً فضحته كتابات المؤرخين الجدد منذ عام 1948 وهلم جراً، كما وضعت إسرائيل منذ البداية جواسيسها في مراكز السلطة لدى الأنظمة العربية، من إيلي كوهين في سوريا إلى أشرف مروان في مصر، حتى أن مروان كان صهر جمال عبد الناصر ومساعداً مقرباً من أنور السادات.
مشكلة إسرائيل كانت دائماً مع الفلسطينيين الذين يعيشون في فلسطين التاريخية والشتات، والذين ينظرون إليها كنظام فصل عنصري استعماري، فالتوقيع على أي معاهدة كانت لن يؤدي إلى تغيير ذلك، فالواقع يثبت أنه لن يكون هناك سلام بين إسرائيل وأي دولة عربية حتى ينتهي الصراع الفلسطيني بموافقة إسرائيل على تقاسم السلطة والسيادة.
في المرة القادمة التي يعلن فيها زعيم إسرائيلي “السلام”، فأنا أنصح كل من يقيم في محيط طائرات إسرائيل الحربية والمسيرة بالغوص بحثاً عن ملجأ!
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)