بقلم ديفيد هيرست
ترجمة وتحرير مريم الحمد
يمكن القول أنه قد تم نسيان جوهر النقاش بالكامل وسط الضجة التي صاحبت تصويت مجلس العموم على الدعوة إلى وقف فوري لإطلاق النار في غزة مؤخراً، ذلك أن مقترح الحزب الوطني الاسكتلندي للدعوة إلى وقف إطلاق النار كان من المفترض أن يحرج قيادة حزب العمال التي تجنبت الدعوة لذلك طوال 5 أشهر من الحرب.
لقد كان اقتراح الحزب الوطني الاسكتلندي واضحًا ولا لبس فيه ويتوافق تمامًا مع الرأي العام في الجزر البريطانية، حيث دعا الحزب إلى وقف فوري لإطلاق النار دون شروط، أما دعوة حزب العمال الخجولة إلى “وقف إطلاق نار إنساني فوري” فلم تكن إلا سماحاً لإسرائيل بمواصلة القتال وضوءاً اخضر للحكومة الإسرائيلية بالإصرار على أن تطلق حماس سراح الرهائن لديها كشرط مسبق لبدء وقف إطلاق النار.
إنها لحقيقة مزعجة بالنسبة للمدافعين عن إسرائيل، سواء كانوا من حزب المحافظين أو العمال، أن تكون هناك أغلبية بريطانية متنامية قد ضاقت ذرعاً بهذه الحرب وتريد وقفاً فورياً لإطلاق النار، حيث يؤيد 66% من البريطانيين ذلك، مقابل 13% فقط ممن يعتقدون أن إسرائيل يجب أن تستمر في الحرب و24% فقط ممن يعتقدون أن الهجوم على غزة مبرر.
يمكن القول أن الجهود التي تم التخطيط لها بعناية وسرية لعرقلة التصويت على اقتراح الحزب الوطني الاسكتلندي تعتبر تحدياً للإرادة التي عبر عنها الشعب البريطاني بوضوح!
خلال الجلسة، برر رئيس مجلس العموم، ليندسي هويل، قراره غير المألوف من خلال السماح بالتصويت على 3 مقترحات منفصلة، وبالتالي إحباط اقتراح الحزب الوطني الاسكتلندي بقوله أنه كان “قلقًا على أمن جميع الأعضاء”.
بعد ذلك، ظهرت هناك محاولة لتحويل النواب الداعمين للحرب الدنيئة إلى ضحايا، وإلى أهداف لخطاب الكراهية “الإسلامي”، وذلك بدلاً من فضحهم بإنكار جريمة الإبادة الجماعية!
خطابات تضليل أورويلي
لقد أعادها زعيم حزب العمال كير ستارمر، بأن لإسرائيل الحق في الدفاع عن نفسها، حتى بعد أن واضحاً أن الحرب كانت ضد غزة بأكملها، بل قام ستارمر بعرقلة الدعوة لوقف إطلاق النار مرات عديدة كما دافع عن العقاب الجماعي بتصريحه بوضوح بأن لإسرائيل الحق في منع الماء والوقود، فهذا التعليق وحده يمكن أن يتسبب بمحاكمته بتهمة التحريض على الإبادة الجماعية.
يعد جوهر الجدال هنا هو أن هذه العبارة لا تعتبر تعبيراً عن الإبادة الجماعية عندما يستخدمها القادة اليهود الإسرائيليون، ولكنها تعبير واضح عن الإبادة الجماعية عندما يستخدمها الفلسطينيون
بات الأمر يتطلب خطابات تضليل أورويلي جديدة بهدف تحويل المتظاهرين المؤيدين للفلسطينيين إلى إسلاميين متطرفين، فقد تم التركيز بشكل خاص على بن جمال، مدير حملة التضامن مع فلسطين، ولكن المشكلة أن جمال ليس مسلماً بل مسيحي، وهو ابن قس أنجليكاني، وهو لا يؤيد تهديد النواب، لكنه يدافع عن الاحتجاج خارج مكاتب دوائرهم الانتخابية ومحاسبتهم.
عندما سُئل جمال، في جلسة للجنة مختارة للشؤون الداخلية في ديسمبر 2023، عما إذا كان يؤيد ترديد “من النهر إلى البحر” أجاب: ” لا نقبلها فحسب وإنما نرددها، أنا أتحدث كفلسطيني، وهذا هو الهتاف الذي تستخدمه الغالبية العظمى من الفلسطينيين، فهو يصف كيف يتم حرمانهم فلسطين التاريخية”.
أعتقد أنه يجب على الأشخاص الذين يعتقدون أن هذا الهتاف هو دعوة للإبادة الجماعية لليهود الذين يعيشون في إسرائيل والأراضي المحتلة أن يتوقفوا للتفكير بعد هذا الكلام.
من المتطرف الحقيقي؟
لقد تم استخدام عبارة “من النهر إلى البحر” من قبل جميع سياسيي الليكود منذ عام 1977، حتى أن بيان الليكود في ذلك العام نص على ما يلي: “بين البحر ونهر الأردن، لن تكون هناك سوى السيادة الإسرائيلية”.
ويعد جوهر الجدال هنا هو أن هذه العبارة لا تعتبر تعبيراً عن الإبادة الجماعية عندما يستخدمها القادة اليهود الإسرائيليون، ولكنها تعبير واضح عن الإبادة الجماعية عندما يستخدمها الفلسطينيون، سواء كانوا مسيحيين أو مسلمين، وذلك ينسحب على “معاداة السامية” حيث تصبح كل الانتقادات الموجهة لإسرائيل معادية للسامية!
الحقيقة أن هذا النقاش لا يخضع للعقل أو العدالة، بل للعاطفة والتشويه مع خلو من أي أدلة، فمن الغريب أنه لم يتم التحقيق في أي تهديدات لأعضاء البرلمان من قبل الشرطة أو مدير النيابة العامة.
على سبيل المثال، عندما تم إحياء ذكرى النائبة البرلمانية التي قُتلت في دائرتها الانتخابية في يونيو عام 2016، جو كوكس، لم يكن مهماً إن كانت قد قُتلت على يد متطرف يميني، المهم أنه تم تعيين حراسة شخصية لـ 3 نائبات من نفقة المال العام، وهنا تأتي المشكلة الثانية، فمن هو المتطرف الحقيقي؟
بالنسبة لوزير الجاليات في الحكومة البريطانية، مايكل جوف، فإن تعريف التطرف سوف يستهدف المجلس الإسلامي البريطاني PSC، وبالمقابل يستبعد تماماً أعضاء حزب المحافظين، مثل لي أندرسون وليز تروس وسويلا برافرمان وروبرت جينريك!
لو قمت بمزج التصالح مع خطاب الكراهية تجاه المسلمين في حزب المحافظين مع استعانة الحزب بمستشارين يرون أن هناك فوائد انتخابية في التلاعب بنظرية الاستبدال العظيم، مع قضية فلسطين فسوف تحصل على خلطة سامة قادرة على إشعال نار التوتر المجتمعي وتقويض حرية التعبير في بريطانيا
من حظ الديمقراطية في بريطانيا أن المحاكم لا تزال تعمل بشكل مستقل عن الحكومة، فقد منع محامون صياغة تعريف للتطرف على النحو الوارد في مشروع قانون مكافحة الإرهاب والأمن لعام 2015 عدة مرات.
ومع عجزها عن صياغة تعريف للتطرف ملزم قانوناً، قامت الحكومة بالاستعانة بمصادر خارجية لحل المشكلة من خلال إنشاء لجنة لمكافحة التطرف برئاسة أشخاص لديهم سجل حافل من الحزبية في هذه القضية، ففي البداية جاءت سارة خان، التي حاولت إعادة تسمية التطرف غير العنيف بأنه “تطرف بغيض”، وفي عهدها، اتجهت لجنة مكافحة التطرف للتركيز ليس فقط على التطرف الإسلامي، ولكن أيضًا على اليمين المتطرف والأيديولوجيات الأخرى.
بعد سارة جاء روبرت سيمكوكس، والذ وصفت منظمة ميند المناصرة للمسلمين تعيينه بأنه “مثير للقلق لدى المجتمعات الإسلامية”، فقد عبر سيمكوكس المحيط الأطلسي للعمل في مؤسسات الفكر والرأي اليمينية الداعمة لمهاجمة المجتمعات الإسلامية.
عمل سيمكوكس في مركز التماسك الاجتماعي (CSC) من 2008-2011، حيث وصفه أحد مؤسسي المركز، ماثيو جاميسون، بأنه “حيوان وحشي” ويدير “منظمة عنصرية مناهضة للمسلمين”.
في عام 2016، تولى سيمكوكس دورًا جديدًا في مؤسسة “تراث مارغريت تاتشر”، والذي كان مهماً جدًا لإدارة ترامب لدرجة أن صحيفة نيويورك تايمز وصفتها في عام 2018 بأنها “تزود حكومة ترامب” بموظفيها.
من هم الديمقراطيون الحقيقيون؟ هل هم النواب داخل البرلمان أم المتظاهرون خارجه؟ من يمثل الشعب البريطاني بشكل أفضل في هذه القضية؟ ومن الذي ينسف الديمقراطية البريطانية؟ هل هم الفلسطينيون الذين تُذبح عائلاتهم في غزة، أو التحالف غير المقدس بين المحافظين الجدد والعنصريين المعادين للإسلام؟!
في مقال نشر عام 2019 لمؤسسة التراث، كتب سيمكوكس: “إن الغموض والارتباك حول معنى الإسلاموفوبيا يسمح للإسلاميين باستخدام هذا المصطلح لقمع الانتقادات الموجهة إلى دينهم وفرض قانون غير رسمي للسير نحو هدف خفي”.
بعد سجله الحافل، من الصعب اعتبار سيمكوكس محايداً في الحكم في قضية تعتبر أساسية في ترسيم العلاقات المجتمعية في المملكة المتحدة. لأنه يميل إلى اليمين ويشجع على التطرف.
خلطة سامة
لو قمت بمزج التصالح مع خطاب الكراهية تجاه المسلمين في حزب المحافظين مع استعانة الحزب بمستشارين يرون أن هناك فوائد انتخابية في التلاعب بنظرية الاستبدال العظيم، مع قضية فلسطين فسوف تحصل على خلطة سامة قادرة على إشعال نار التوتر المجتمعي وتقويض حرية التعبير في بريطانيا.
لقد برز الأمر إلى الواجهة عندما صرح لي أندرسون على قناة جي بي نيوز، بأن الإسلاميين “سيطروا” على عمدة لندن صادق خان قائلاً: “لا أعتقد أن الإسلاميين قد سيطروا على بلادنا، ولكن ما أعتقده هو أنهم سيطروا على خان وسيطروا على لندن… لقد أعطى عاصمتنا لرفاقه”.
جاء تصريح أندرسون في أعقاب مقال كتبته وزيرة الداخلية السابقة، سويلا برافرمان، في صحيفة ديلي تلغراف كتبت فيه “الحقيقة هي أن الإسلاميين والمتطرفين ومعاداة السامية هم المسؤولون الآن”، وفي المقابل، أشارت الرئيسة السابقة لحزب المحافظين، سيدة وارسي، في حديثها للقناة الرابعة الإخبارية بأنه “إذا تم الإدلاء بهذه التصريحات وكانت معادية للسامية أو للمثليين، لكان من الممكن سحبها على الفور، وكما قال صادق خان، لا يمكن أن يكون لدينا تسلسل هرمي للعنصرية داخل السياسة”.
الحقيقة أن هذا التسلسل الهرمي موجود الآن فعلاً في داخل الحزبين، المحافظين والعمل، وسوف يتم استخدامه لكتابة قوانين جديدة، حتى يتم فقدان حرية التعبير، فهكذا تحولت المظاهرات الأسبوعية لفلسطين إلى “غوغاء”، ولا يُسمح لممثلي حزب العمل على أي مستوى بالمشاركة فيها، فهم يتعرضون للمضايقة والترهيب من قبل قيادة الحزب.
سلام الصمت
في جلسة الأسبوع الماضي، أصرت المملكة المتحدة أمام محكمة العدل الدولية على “ضرورة” وضع الإجراءات القانونية جانبًا للسماح بمواصلة المفاوضات السياسية بشأن الدولة الفلسطينية، الأمر الذي سرعان ما نسفه رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، بزعمه أن احتياجات أمن إسرائيل لا يتوافق مع قيام دولة فلسطينية.
في منشور له على موقع اكس، كتب نتنياهو: ” لن أتنازل عن السيطرة الأمنية الإسرائيلية الكاملة على جميع الأراضي الواقعة غرب الأردن، وهذا يتعارض مع الدولة الفلسطينية”.
مرة أخرى، تدعم المملكة المتحدة المفاوضات التي لا يمكن أن تؤدي إلى أي مكان في ظل هذه القيادة الإسرائيلية أو أي قيادة أخرى، ولكن أنصار الوضع الراهن لا يفكرون إلا في دولة واحدة وهي إسرائيل!
السؤال هنا إذن: من هم الديمقراطيون الحقيقيون؟ هل هم النواب داخل البرلمان أم المتظاهرون خارجه؟ من يمثل الشعب البريطاني بشكل أفضل في هذه القضية؟ ومن الذي ينسف الديمقراطية البريطانية؟ هل هم الفلسطينيون الذين تُذبح عائلاتهم في غزة، أو التحالف غير المقدس بين المحافظين الجدد والعنصريين المعادين للإسلام، الذين يسعون إلى تحريف وتجريم كل نقاش حول إسرائيل؟! وأي من المعسكرين يدعم القانون الدولي؟
لن يتم استعادة السلام في الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي من خلال إطلاق العنان لإسرائيل، ولكن من الممكن فرض نوع من السلام في شوارع لندن، سيكون سلام الصمت، فهل هذا ما أصبحت عليه بريطانيا حقاً؟!
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)