الجنائية الدولية أمام فرصة لرد اعتبارها عبر محاسبة إسرائيل

بقلم ريتشارد فولك

ترجمة وتحرير نجاح خاطر 

ظلت المحكمة الجنائية الدولية تكافح منذ إنشائها في عام 2002 لشق طريق إلى الشرعية، لقد كان تأسيسها بمثابة انتصار للجنوب العالمي في توسيع نطاق القانون الجنائي الدولي. 

كان هذا الانتصار محدوداً في البداية بسبب تحققه خارج الإطار الرسمي للأمم المتحدة، وبسبب إخفاق “الثلاثة الكبار” الجيوسياسيين (الولايات المتحدة، الصين وروسيا) في الانضمام للمحكمة، كما أن رفض إسرائيل الاعتراف بالمحكمة يقيد من قدرتها على التدخل في الأزمة الحالية.

وعلى الرغم من تمثيلها الواسع، الذي يشمل 124 دولة عضواً، فقد كافحت المحكمة الجنائية الدولية من أجل الاعتراف بها وبنفوذها وشرعيتها.

وخلال سنواتها الأولى، تعرضت المحكمة للنقد لتركيز أنشطتها على الأخطاء المفترضة للزعماء الأفارقة، الأمر الذي تم إرجاعه إلى التحيز العنصري.

وفيما يتعلق بالجرائم المزعومة التي ارتكبتها الولايات المتحدة مؤخراً في أفغانستان وارتكبتها إسرائيل في فلسطين المحتلة، أشرفت المحكمة الجنائية الدولية على ملفات تحتوي على أدلة وفيرة تسوغ، على أقل تقدير، إجراء تحقيقات جادة لتحديد ما إذا كانت لوائح الاتهام والملاحقة القضائية مبررة قانوناً.

وبحكم أن الجنائية الدولية لم تفعل شيئاً حيال ذلك، نشأ انطباع بأنها كانت أضعف من أن تقاوم الضغوط الغربية، ويُعزى تقاعسها إلى حدٍ ما إلى النزعة القومية المتطرفة التي اتسمت بها رئاسة ترامب، بعدما تجرأت على فرض عقوبات على المدعي العام في محاولة لمنع التحقيقات مع الولايات المتحدة وإسرائيل.

وقد شهد تاريخ المحكمة انعطافات هامة، فعندما هاجمت روسيا أوكرانيا عام 2022، دعاها حلف شمال الأطلسي إلى التحرك بسرعة غير معتادة فاضطرت من خلال تسريع إجراءاتها إلى المضي قدماً في اتخاذ القرار بشأن ما إذا كان ينبغي توجيه الاتهام للرئيس الروسي فلاديمير بوتن بارتكاب جرائم حرب، وهو ما بدا مجدداً وكأنه يخدم مصالح الغرب، وسرعان ما أصدرت المحكمة مذكرة اعتقال بحقه.

سمعة الضعف

لم تتمتع المحكمة الجنائية الدولية بذات السرعة عند الاستجابة للمبادرة القانونية التي تقدمت بها تشيلي والمكسيك بشأن الكارثة الإنسانية في غزة، حيث طلبت الحكومتان منها التحقيق في الانتهاكات التي يرتكبها الاحتلال ضد المدنيين.

وإلى اليوم، لم تستجب الجنائية الدولية لهذه المبادرة العاجلة، على الرغم من الاعتقاد السائد على نطاق واسع بأنها على وشك القيام بذلك، في حين يتعرض المدعي العام كريم خان، المشتبه في تعاطفه مع الغرب، لضغوط متزايدة للتحرك في مواجهة الكارثة الإنسانية المتفاقمة في غزة.

لقد كان هذا الاختلاف في استجابة المحكمة الجنائية الدولية سبباً في تعزيز الانطباع بوجود معايير مزدوجة في تعاملها مع مزاعم الجرائم الدولية.

ويُنظر إلى المحكمة على نطاق واسع باعتبارها مؤسسة ضعيفة، ويرجع ذلك في المقام الأول إلى عدم حصولها على المشاركة أو التعاون من جانب الدول الرئيسية منذ البداية، وفي هذا الصدد، لم تكن مقارنتها إيجابية مع محكمة العدل الدولية، التي أصبحت جميع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة أطرافاً فيها تلقائياً.

كما أن محكمة العدل الدولية تحظى باحترام واسع النطاق لحفاظها على درجة عالية من الاحترافية في تقييم مزايا المنازعات القانونية المحالة للفصل فيها، وقد تعززت هذه السمعة الإيجابية إلى حد كبير بفضل الأوامر المؤقتة التي صدرت بصورة شبه إجماعية في كانون الثاني/ يناير وآذار/مارس والتي منحت العديد من التدابير المؤقتة التي طلبتها جنوب أفريقيا لعرقلة “الإبادة الجماعية” التي يرتكبها الاحتلال في غزة.

وفي هذا الإطار، تتمتع المحكمة الجنائية الدولية بالفرصة للعمل وفقاً لتفويضها واسترداد سمعتها الموصومة بالضعف.

قانونياً، أُمر الاحتلال بالسماح للمساعدات الإنسانية بالوصول إلى المدنيين الفلسطينيين دون تدخل، على الأقل حتى تتوصل محكمة العدل الدولية إلى حكم نهائي بشأن موضوع الزعم بالإبادة الجماعية، في عملية من المتوقع أن تستغرق عدة سنوات مما يقلل إلى حد كبير من أهمية حكمها بالنسبة لقضية الإبادة الجماعية.

وبالإضافة إلى النتيجة التي توصلت إليها محكمة العدل الدولية بأن إسرائيل من الممكن أن تكون قد ارتكبت إبادة جماعية في غزة، فقد أصدرت مقررة الأمم المتحدة الخاصة المعنية بفلسطين، فرانشيسكا ألبانيز، مؤخراً تقريراً عن “تشريح الإبادة الجماعية”.

وعلى الرغم من الأوامر القانونية التي تطالب الاحتلال بالتوقف عن سلوك الإبادة الجماعية، فإن احتمال استمرارها الدموي يتعهد به القادة الإسرائيليون يومياً، وهم الذين يستعدون لإصدار الأمر بالهجوم على رفح ووضع اللمسات الأخيرة على هجومهم ضد الحساسيات الأخلاقية للإنسانية وعلى سبل البقاء للفلسطينيين.

الإغواء السياسي

لو سُئلت قبل أسبوع واحد، لقلت إن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو سيكون آخر شخص يمكن يمثل أمام المحكمة الجنائية الدولية كي ينقذ سمعتها المؤسسية، ولو بطريقة غير مباشرة، لكنه سارع للرد بعد أن أشارت شائعات مسربة إلى أن المحكمة كانت على وشك إصدار مذكرات اعتقال بحقه ووزير دفاعه يوآف غالانت وقائد جيشه هرتسي هاليفي.

لقد اختار نتنياهو الهجوم، ومقطع الفيديو الذي يمتد لأربع دقائق ضد المحكمة الجنائية الدولية يستحق المشاهدة، حتى لو كان ذلك فقط للحصول على فكرة عن مدى قوة المحكمة التي يمكن أن تصبح هائلة إذا أدت عملها كما ينبغي لها، وإذا أخذ نتنياهو على عاتقه المسؤولية، فإن المحكمة سوف تؤدي وظيفتها أخيراً.

وفي هذا الإطار، فإن لدى المحكمة فرصة للتصرف وفقاً لولايتها واسترداد حقوقها، ومما لا شك فيه أنه من المغري سياسياً أن يخيب المدعي العام للمحكمة هذه التوقعات إذا ما قام بقصر الإجراء الذي اتخذته الجنائية الدولية ضد قادة الاحتلال وحماس على الجرائم المزعومة التي ارتكبوها قبل السابع من تشرين الأول/أكتوبر.

إن مثل هذا التهرب من شأنه أن يشكل خيبة أمل مزدوجة لأولئك الذين يسعون إلى زيادة الضغط على الاحتلال لحمله على قبول وقف إطلاق النار، يليه توجيهات بشأن المساءلة والتعويضات وإعادة الإعمار.

لقد بقينا أمام اللغز المتمثل في السبب وراء النظر إلى المحكمة الجنائية الدولية، في ظل احترامها المؤسسي المتدني، باعتبارها أكثر تهديداً لإسرائيل من التوجيهات المركزة لمحكمة العدل الدولية الأكثر رسوخاً، هل يمكن أن تكون الطبيعة الشخصية لأوامر الاعتقال المحتملة قد حفزت المزيد من التراجع العاطفي؟

لقد قال نتنياهو إن أوامر الاعتقال ستشكل تهديداً قاتلاً لحقوق الديمقراطيات في الدفاع عن نفسها ضد أعدائها الأشرار، وخص بالذكر إيران، ولكن علينا جميعاً أن نعلم الآن أنه ليس لدى الاحتلال أي نية للامتثال للقانون الدولي، مهما كان مصدر سلطته.

وبهذا المعنى، فإن أهمية محكمة العدل الدولية، وربما المحكمة الجنائية الدولية، تكمن في تعزيز موجة الدعم المتزايدة لحقوق الفلسطينيين في جميع أنحاء العالم، جنباً إلى جنب مع الإجماع الناشئ من ذلك النوع الذي ساهم في هزيمة الولايات المتحدة في فيتنام وحكم على نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا بالفشل.

إذا حصل الشعب الفلسطيني أخيراً على حقوقه الأساسية، فسيكون ذلك بفضل مقاومة الضحايا، والتي عززها النشاط العابر للحدود الوطنية للناس في كل مكان.

يشجع هذا الأمر تحديداً اندلاع الاحتجاجات المؤيدة للفلسطينيين وقمعها المثير للجدل بشكل متكرر في جميع أنحاء الولايات المتحدة وفي الدول الأوروبية الأساسية، مما يشير إلى زيادة مشاركة المجتمع المدني في النضال من أجل وقف إطلاق النار وتغيير النهج تجاه الاحتلال من قبل الديمقراطيات الليبرالية في العالم الغربي.

للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)

مقالات ذات صلة