بقلم عبد أبو شحادة
ترجمة وتحرير نجاح خاطر
من غير الممكن تفسير قرار الاحتلال بمهاجمة إيران من منظور عقلاني، فهو يتناقض بشكل مباشر مع العقيدة العسكرية الراسخة في الدولة العبرية، والتي بُنيت على تبني عمليات قصيرة وحاسمة تهدف إلى تحقيق أهداف استراتيجية ملموسة، وهي عقيدة متجذرة في نقاط الضعف الجغرافية والاقتصادية والديمغرافية الكامنة لديها.
غير أن ما نشهده الآن هو تحول جذري جوهره التخلي عن الواقعية الاستراتيجية لصالح حرب لاهوتية بلا نهاية، وهذا تحول صارخ، فالدولة العبرية تنتقل من مشروع استعماري مدعوم من الغرب يسعى إلى الشرعية الدولية، إلى مشروع استعماري مسياني يزدهر في حرب دائمة، وما الاستخدام المتزايد للخطاب الديني ونسب منطق حروب الاحتلال إلى الله إلا تأكيد على هذا التغيير المنهجي.
يوم الأحد، انضمت واشنطن إلى حرب الاحتلال على إيران بشنها هجمات على مواقع نووية إيرانية في فوردو و نطنز وأصفهان، وقد وصف دونالد ترامب الضربات بأنها “ناجحة للغاية”،
وأكد مسؤولون إيرانيون قصف أجزاء من مواقع نووية، بما في ذلك منشأة فوردو النووية السرية، المدفونة على عمق نصف كيلومتر تحت جبل قرب مدينة قم.
أما رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو فقد أشاد بما وصفه بـ”القرار الجريء” الذي اتخذه ترامب بقصف المواقع النووية الإيرانية، قائلاً إنه “سيُغير التاريخ”.
وبعد الضربات الأمريكية، يواجه نتنياهو الآن تحديًا داخليًا عميقًا، فمعارضته العلمانية، التي دعمت سابقًا مشاريعه العسكرية، تتساءل عن سبب اضطرارهم للتضحية بمستوى معيشتهم من أجل صراع لا ينتهي.
وفي الوقت نفسه، يُقوّض نتنياهو المساحة الديمقراطية للجمهور اليهودي للحفاظ على زخم أجندته العسكرية، وقد تصبح الجبهة الداخلية، وليس إيران، ساحة معركته الأصعب.
ومن أغرب القرارات، وإن كانت ذات دلالة، فرض القيود على حرية تنقل الإسرائيليين، بما في ذلك إغلاق مطار بن غوريون أمام السفر الخارجي، إلى جانب تحذير من مجلس الأمن القومي يُثني عن العودة عبر الأردن أو مصر.
ورغم أن الرحلات الجوية لا تزال تُغادر الدولة العبرية، إلا أنها مُخصصة في معظمها للسياح والمقيمين الأجانب، أما سكان دولة الاحتلال فهم عالقون فعليًا.
ولهذه الخطوة منطق سياسي داخلي لا لبس فيه، فهي تؤثر بشكل غير متناسب على ناخبي المعارضة من الطبقة المتوسطة القادرين على تحمل تكاليف السفر إلى الخارج لفترات طويلة، بينما تظل قاعدة الليكود من الطبقة العاملة، ومعظمها من المناطق النائية، غير متأثرة.
نقل الأموال
ومنذ اندلاع الحرب على غزة بل وحتى قبل ذلك، مثل فترة الإصلاح القضائي، اختار العديد من أفراد دولة الاحتلال نقل أموالهم إلى الخارج، حيث أفادت شركة خدمات مالية في مارس/آذار بزيادة بنسبة 50% في عدد الراغبين في صرف وتحويل الأموال إلى الخارج.
ومنذ أكتوبر/تشرين الأول 2023، أفادت التقارير بارتفاع التحويلات المالية من الدولة العبرية إلى دول أخرى بمقدار سبعة أضعاف، حيث تم تحويل حوالي 5.6 مليار دولار إلى خارج البلاد في ذلك العام وحده.
وبالنسبة لنتنياهو، لا بد أن تكون هذه التحولات المالية مثيرة للقلق، فلعدة سنوات، دافع نتنياهو عن فكرة أن دولته لا تستطيع الحفاظ على جيشها المجهز تجهيزًا عاليًا إلا من خلال اقتصاد قوي.
غير أن شركائه في الائتلاف الحكومي من المتشددين الدينيين لا يساهمون إلا قليلا في هذا الصدد، في حين يدفعون إلى المزيد من الحروب والتوسع الإقليمي.
ومن المفارقات أن شرائح المجتمع التي تدعم الاقتصاد العبري هي الأكثر معارضة لحكومة نتنياهو، لكنها لم تعارض حروبه، بل تواصل دعم عملياته العسكرية وتحاول في ذات الوقت الحفاظ على مستوى معيشة غربي.
والواقع أن عجز هذه الشرائح أو بالأحرى رفضها نقد الروح الصهيونية التي علّمت مجتمع الاحتلال أن عليه أن يعيش بالسيف في عالم معاد بطبيعته للسامية هو ما سمح لنتنياهو وحلفاءه باستغلال القوة الاقتصادية لهذه الشرائح، وبذلك، ساهمت في تسريع انحدار الدولة العبرية إلى دولة مسيحية، مما شجع السياسات العنصرية وأيديولوجية التفوق اليهودي.
تتجلى هذه الديناميكية الآن في خضم الصراع مع إيران، مع وجود حالات موثقة متعددة حرم فيها اليهود المواطنين الفلسطينيين وحتى العمال الأجانب من الوصول إلى الملاجئ أثناء الهجمات الصاروخية.
هذه هي رؤية نتنياهو للدولة العبرية، دولة عرقية دينية، ذات سوق حرة، في صراع دائم مع جيرانها، تنشر الدمار أينما تمتد، بينما تعمل بنشاط على زعزعة استقرار المنطقة المحيطة بها، ومن المفارقات أن هذا يُحاكي انتقادات تل أبيب لإيران
ذلك أن أولئك الإسرائيليين الذين يدركون عواقب هذه الحرب يشعرون بها بالفعل، حيث تتراوح الآثار المالية من الأضرار التي لحقت بالممتلكات الخاصة، إلى التداعيات الأوسع نطاقًا لإغلاق الاقتصاد المدني الإسرائيلي والانتقال إلى اقتصاد طوارئ، حيث لا تستمر سوى الشركات والمؤسسات الأساسية في العمل.
يخلق هذا من ناحية حالة من عدم اليقين الاقتصادي وقلقاً متزايداً ومن ناحية أخرى يحدث ذلك تحت ضغط نفسي وخوف حقيقي من الهجمات الصاروخية الإيرانية.
استقرار مؤقت
وعلى الرغم من أن اقتصاد الاحتلال لا يزال يُظهر مرونة، إلا أن المحللين يُحذرون من أن هذا الاستقرار مؤقت، وإذا لم تعد الدولة العبرية إلى مبدأ الحروب القصيرة والحاسمة، فسوف تُستنزف مواردها المالية، وسيعاني الاقتصاد من أضرار طويلة الأمد.
ورغم أن عدد الصواريخ الإيرانية التي أصابت أهدافها بنجاح ضئيل نسبيًا، إلا أن كل ضربة تُحدث عواقب وخيمة، إذ تجعل أحياء سكنية بأكملها غير صالحة للسكن، وفي مجتمع الاحتلال حيث يُعد سوق العقارات من بين الأغلى عالميًا، فإن حتى الضرر المحدود يحمل آثارًا اقتصادية جسيمة.
على المستوى الشخصي، أستطيع أن أشهد على خوف حقيقي وغير مألوف من الصواريخ الإيرانية، خوف لم يختبره المواطنون الفلسطينيون في إسرائيل ولا الإسرائيليون اليهود من قبل، إنه يُثير ذعرًا واسع النطاق وقلقًا عميقًا.
في هذه المواجهة، أصبحت العديد من العائلات بلا مأوى، ومع ذلك فهي لا تزال مثقلة بديون الرهن العقاري، لذلك لم يكن من المفاجئ ظهور تقارير عن إسرائيليين يحاولون الفرار إلى قبرص عبر يخوت خاصة.
لقد انهار حلم احتساء قهوة الإسبريسو في تل أبيب بينما تحترق غزة، فالعيش في دولة مسيحية تشن حربًا دائمة له تكاليف نفسية ومالية، حتى لمن تمتعوا بمزاياها يومًا ما.
وهناك اعتقاد سائد الآن بأن نتنياهو لن يتوقف عند إيران، فلم يعد التصعيد مع باكستان أو تركيا مستبعدًا، وقد بدأت مراكز الأبحاث الإسرائيلية بالفعل في تمهيد الطريق لتبرير المواجهات المستقبلية مع أنقرة، وتصويرها على أنها حتمية.
وبالنسبة للمراقب العقلاني، فإن هذا ضرب من الجنون، لكن هذا هو واقع دولة الاحتلال اليوم، دولة جرّت الاقتصاد العالمي إلى ألعابها الحربية، وأشعلت التوترات الإقليمية وبررت التدمير باسم الله.
في الدولة العبرية، يتمتع العلمانيون الذين دعموا حروب نتنياهو الآن بامتياز التخطيط لهروبهم، بينما يواصل الفلسطينيون دفع الثمن، ليس فقط بسبب السياسة الإسرائيلية، بل أيضًا بسبب تواطؤ الغرب المستمر في إضفاء الشرعية عليها.
للاطلاع على المقال الأصلي من (هنا)