بقلم ماركو كارنيلوس
ترجمة وتحرير مريم الحمد
في نهاية المطاف، تنتهي الصراعات إن عاجلاً أو آجلاً، ولكن أسبابها الجذرية تظل في الغالب دون حل، ولا يُستثنى من ذلك الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
في الأسابيع أو الأشهر التالية، فإن الولايات المتحدة التي نصبت نفسها الوحيدة القادرة على تحقيق السلام بين إسرائيل وفلسطين، سوف تحاول مرة أخرى تحقيق ذلك السلام، وهنا ستكون الأولوية غزة!
من الجدير بالذكر أيضاً أن المرة الأخيرة التي نجحت فيها إدارة أمريكية في إقناع إسرائيل بالقيام بشيء يتعلق بالسلام كانت عام 1991، عندما أرغمت إدارة بوش الأولى إسرائيل على حضور مؤتمر مدريد للسلام، ومنذ ذلك الحين، باءت كل المحاولات الأمريكية بالفشل!
سوف يتلخص التحدي الحقيقي في معالجة الأسباب التي أدت إلى المذبحة الأخيرة في قطاع غزة وفي الكيبوتسات الإسرائيلية المجاورة، أو بعبارة أخرى، فإن محنة الفلسطينيين سوف تتطلب النظر من منظور سياسي حقيقي.
من ناحية أخرى، فإن القوة الأميركية آخذة في التدهور والسلام الأمريكي في الشرق الأوسط ينهار، بغض النظر عن عدد حاملات الطائرات والمقاتلات البحرية التي تنشرها واشنطن في البحار المحيطة بالمنطقة.
من الجدير بالذكر أيضاً أن المرة الأخيرة التي نجحت فيها إدارة أمريكية في إقناع إسرائيل بالقيام بشيء يتعلق بالسلام كانت عام 1991، عندما أرغمت إدارة بوش الأولى إسرائيل على حضور مؤتمر مدريد للسلام، ومنذ ذلك الحين، باءت كل المحاولات الأمريكية بالفشل!
بيل كلينتون، على سبيل المثال، استطاع في تأمين معاهدة السلام بين إسرائيل والأردن عام 1994، لكنه فشل في كامب ديفيد عام 2000، وبدوره فشل الرئيس جورج دبليو بوش في أنابوليس عام 2008، وفشل الرئيس باراك أوباما في الفترة بين 2013-2014، أما الرئيس دونالد ترامب فقد قلل من احتمالات السلام أصلاً باتفاقيات أبراهام عام 2020.
لم يتعلموا أي درس
الآن تواجه إدارة بايدن دورها ليحكم عليها التاريخ، لكن لا يبدو أنها ستأتي بتوقعات أكثر تفاؤلاً، وذلك بحسب التسريبات الصحفية، فالمستشار الحالي في البيت الأبيض بخصوص المنطقة، بريت ماكغورك، هو ذاته المدافع الأول عن الضغط من أجل التوصل إلى صفقة إسرائيلية سعودية دون الاكتراث بأي محاولة لحل القضية الفلسطينية.
يرى ماكغورك بأنه “يمكن تحقيق الاستقرار في المنطقة الفلسطينية المدمرة إذا قام المسؤولون الأمريكيون والإسرائيليون والفلسطينيون والسعوديون بجهد دبلوماسي عاجل يعطي الأولوية لإقامة علاقات إسرائيلية سعودية”، حيث من المرسوم لها أن تتحقق خلال فترة زمنية مدتها 90 يومًا بمجرد انتهاء القتال في غزة.
عقيدة “الأمن أولاً” تعتمد على أن لإسرائيل الحق في تقدير احتياجاتها الأمنية الخاصة في الوقت المناسب
إذا كانت هذه هي الاستراتيجية، فمن الواضح أن ماكغورك وإدارة بايدن لم يتعلموا أي درس من 7 أكتوبر، متناسين أن أحد أسباب وقوع هجوم حماس يعود إلى النهج الذي تبنته إدارة ترامب واتفاقات أبراهام، عندما تم تجاهل الفلسطينيين وتهميشهم من أجل إعطاء الأولوية للتطبيع الإسرائيلي مع الدول العربية الأخرى.
إضافة إلى ذلك، فقد صعدت إسرائيل من سياساتها الصارمة في الضفة الغربية في الأشهر الأخيرة قبل 7 أكتوبر، حيث قامت عملياً بتحريض المستوطنين وحمايتهم في اعتداءاتهم اليومية على الفلسطينيين.
تكاد خطة واشنطن لحل الأزمة الحالية تكون نسخة طبق الأصل بعد من اتفاقيات كامب ديفيد للسلام عام 1978، حين صرح الإسرائيليون وقتها بالقول: “دعونا نصنع السلام بين إسرائيل ومصر، وسوف نتعامل مع القضية الفلسطينية لاحقاً”، مع فارق انها السعودية بدل مصر هذه المرة.
عقيدة “الأمن أولاً”
لطالما كان هذا النهج خاطئاً لأنه مدفوع في المقام الأول بالحفاظ على مصالح إسرائيل المحددة في السيطرة على الأراضي الفلسطينية المحتلة، فعقيدة “الأمن أولاً” تعتمد على أن لإسرائيل الحق في تقدير احتياجاتها الأمنية الخاصة في الوقت المناسب، وذلك ما يحدد وقت الانتقال إلى حل الدولتين وقبوله، ولكنها قصة خيالية فالعقود الثلاثة الأخيرة من السلوك الإسرائيلي تؤكد ذلك.
ترى الولايات المتحدة وأوروبا أن إسرائيل، بحكم ضرورتها الخاصة، يجب أن تحافظ على أغلبية يهودية داخل إسرائيل، لأن الفلسطينيين وبمرور الوقت لابد أن يزداد عددهم وبالتالي تضطر إسرائيل إلى قبول دولة فلسطينية من أجل الحفاظ على أغلبية يهودية داخل إسرائيل.
وفي المقابل على مر السنين، أقنع قادة إسرائيل أنفسهم بأن الوقت كان في صالحهم وأن القضية الفلسطينية يمكن إدارتها من خلال نهج تدريجي، ففي أوائل التسعينيات، طلبت إسرائيل الاعتراف بها رسميًا من قبل الفلسطينيين وقد حدث ذلك في أوسلو عام 1993، وفي أواخر العقد الأول من القرن 21، طلبت أن يكون هذا الاعتراف بها كدولة يهودية، والآن لابد من التخلص من تهديد حماس قبل التوصل إلى حل الدولتين.
لعبة لم يتفوق فيها أي زعيم إسرائيلي أكثر من بنيامين نتنياهو، الذي بلغ مجموع وجوده في السلطة فعلياً 15 عاماً.
والمفارقة أن الأدلة التاريخية تؤكد أن الحرمان المستمر والوحشي لحقوق الفلسطينيين من خلال الاحتلال كان المصدر الرئيسي لانعدام الأمن في إسرائيل!
منذ تأديته اليمين الدستورية في يناير 2021، حرص الرئيس جو بايدن على التبرؤ من عدد من قرارات السياسة الخارجية المثيرة للجدل التي اعتمدها سلفه ترامب، لكنه حافظ بحزم على اتفاقات أبراهام، بهدف الوصول للتطبيع بين إسرائيل والسعودية.
خلال 3 سنوات، سعى ماكغورك إلى تحقيق هذا الهدف، مع وضع أي جهد لحماية الفلسطينيين جانباً، ولذلك فإن وصول الوضع إلى نقطة الغليان كان له مقدمات كانت تعرفها المستويات العليا في المؤسسة العسكرية والأمنية الإسرائيلية، لكن السياسيين في تل أبيب وواشنطن ظلوا صماً وعميان.
نهج متصاعد
لم تقدم إدارة بايدن أي مبرر مقنع لتفسير سبب الاستعجال بالتطبيع بين إسرائيل والدول العربية الأخرى دون شرط الاعتراف بالحقوق الفلسطينية.
الولايات المتحدة تطبق ما أسماه ألبرت آينشتاين جنوناً وهو القيام بنفس الشيء مراراً وتكراراً وتوقع نتائج مختلفة!
نقلاً عن مسؤولين في البيت الأبيض فإن “خطة ماكغورك تعتمد على المساعدة لإعادة الإعمار من قبل السعودية وربما دول الخليج الغنية الأخرى مثل قطر والإمارات للضغط على كل من الفلسطينيين والإسرائيليين، وضمن هذه الرؤية، سوف يوافق القادة الفلسطينيون على ذلك”، أي تشكيل حكومة جديدة لكل من غزة والضفة الغربية وتقليص انتقاداتهم لإسرائيل، في حين ستقبل إسرائيل بنفوذ محدود في غزة.
الحقيقة أنه لا يوجد أفق سياسي في مثل هذه الخطة، فهو الحل المعتاد والمؤقت والفاتر للنهج “التدريجي” الذي دعت إليه الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لأكثر من 3 عقود، والذي لم يسفر إلا عن الغضب والعنف المتزايد.
لقد حان الوقت لكي يفهم اللاعبون الرئيسيون أن السلام الإسرائيلي الفلسطيني لا يمكن تحقيقه من خلال التوجه التدريجي، لأن هذا الأسلوب سوف يوفر دائماً الفرص للمخربين لإخراج العملية عن مسارها، فالسلام يتطلب انفجاراً كبيراً، ينتج عنه دولة فلسطينية وفق المعايير الدولية المقررة، عندها فقط، سيكون من الممكن التعامل مع الأزمات الأخرى.
هذا هو التسلسل الوحيد الذي قد ينجح، فالأمر لا يتعلق بأمن إسرائيل أولاً، بل بقيام الدولة الفلسطينية أولاً، أما المنطق الأمريكي والإسرائيلي فإنه يعطي الأولوية حتى الآن لتوحيد صف شركاء أمريكا في المنطقة.
لن تستخدم إسرائيل هذا فقط لمزيد من تأخير حل المشكلة الفلسطينية، ولكنها سوف تتجاهل أيضًا نقطة مهمة، وهي أن عداء إيران تجاه الولايات المتحدة وإسرائيل يرجع أيضاً إلى ذات السياسة.
منطق فاشل
ويتلخص المفهوم الأساسي لاتفاقيات إبراهيم فيما يتعلق بالفلسطينيين في إمكانية ضمان إذعانهم من خلال توفير حياة اقتصادية أفضل لهم لكن داخل الأقفاص، في الضفة الغربية وقطاع غزة.
هل يأتي يوم تتعلم فيه تل أبيب وواشنطن أخيراً دروس التاريخ وتغير السياسة؟
لم ينجح الأمر ولا يمكن أن ينجح، فبدلاً من أن يبذل ماكغورك جهداً كبيراً في إعادة بناء غزة وهو ما من شأنه تشجيع السعودية أكثر على توقيع الصفقة مع إسرائيل، ورغم ذلك، فإن الولايات المتحدة تطبق ما أسماه ألبرت آينشتاين جنوناً وهو القيام بنفس الشيء مراراً وتكراراً وتوقع نتائج مختلفة!
من جانب آخر، فقد أظهر استطلاع رأي أجراه معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى المؤيد لإسرائيل أن 96% من السعوديين يعتقدون أن الدول العربية يجب أن تقطع أي علاقات مع إسرائيل بسبب سلوكها في غزة وأن المملكة يجب أن تظل مرتبطة بالقرار العربي لعام 2002، وهي مبادرة السلام التي وضعت ولادة الدولة الفلسطينية كشرط مسبق للتطبيع، وليس العكس.
أما بالنسبة للهدف الأميركي في “إنشاء” سلطة فلسطينية جديدة تمتد إلى غزة، فإن الولايات المتحدة تخدع نفسها مرة أخرى، حيث أنه من غير المرجح أن يقبل الفلسطينيون، في غزة والضفة، بحل من أعلى إلى أسفل، خاصة إذا جاء من أولئك الذين يرتكبون إبادة جماعية في القطاع وحلفاؤهم الذين يضمنون لهم حق النقض في مجلس الأمن.
لقد أصدرت محكمة العدل الدولية أوامرها المؤقتة التي تعترف فيها بموضوعية قضية الإبادة الجماعية التي قدمتها جنوب أفريقيا، ونتيجة لذلك، فقد طلبت من إسرائيل أن تبني مجموعة من التدابير التي تعادل في مجملها طلب وقف إطلاق النار في غزة، وهنا ظهر تجاهل إسرائيل وتواطؤ الولايات المتحدة معها مرة أخرى، فهل يأتي يوم تتعلم فيه تل أبيب وواشنطن أخيراً دروس التاريخ وتغير السياسة؟
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)