بقلم سمية الغنوشي
ترجمة وتحرير نجاح خاطر
في عتمة الليل، أطبقت زوارق حربية تابعة لدولة الاحتلال على السفينة “مادلين”، أخذت المسيّرات تحوم فوقها وراحت ترشّ مادة بيضاء غريبة على سطحها، قبل أن تقتحمها قوات الاحتلال في عرض المياه الدولية وتقاد من كانوا على متنها.
جرى اعتقال ركاب السفينة واحداً تلو الآخر، كانوا اثني عشر مدنياً أعزلاً من بلدان مختلفة من البرازيل إلى السويد، لم تكن هناك أسلحة على ظهر السفينة، بل طعام ودواء وضمير حيّ.
كانت مهمة “مادلين” بسيطة لكنها مفعمة بالدلالة، وهي إيصال المساعدات إلى سكان غزة المحاصرين والتضامن معهم، ففي ظل الحصار الخانق الذي تفرضه دولة الاحتلال، تُكمم الأخلاق، ويُخرس الضمير، ويغدو حتى البحر المفتوح ساحة قمع لا يسلم منها أحد.
لم تكن مادلين مجرد سفينة، بل كانت صرخة من الأعماق، ورسالة خطها الموج للإنسانية بأسرها.
اسم السفينة هو تكريمٌ لمادلين كُلاّب، أول صيادة في غزة بل الصيادة الوحيدة هناك، ففي الثالثة عشرة من عمرها، رافقت مالدين والدها في البحر، متحدية الحصار والخطر، وتحوّلت لاحقاً إلى صاحبة مشروع صغير، توظف آخرين للعمل معها وتقدم جولات في البحر تحت مظلة أرجوانية، وتبني حلماً في مكان تخنقه يد الاستعمار، وقد قالت ذات يوم: “أنا شجاعة ولدي نية حسنة”، وها هي شجاعتها تبحر اليوم باسمها.
“العبء يقع على عاتقنا”
وراء السفينة مادلين تاريخ مشحون بالعنف والقمع، ففي عام 2010، اقتحم جيش الاحتلال سفينة مافي مرمرة وقتل تسعة مدنيين، وتمت مداهمة أساطيل أخرى واحتجاز ركابها وإذلالهم، غير أن كل ذلك لم يثنِ القوافل عن الإبحار من جديد.
أما ركاب مادلين، فقد كان حضورهم إعلاناً واضحاً بأن فلسطين لم تعد قضية إقليمية، بل أصبحت تمثل ضمير العالم.
فمن بين الركاب، الناشطة في مجال الدفاع عن البيئة غريتا تونبرج، التي كانت يوماً أيقونة التقدميين الغربيين، لكنها اليوم تُهاجَم لأنها رفضت الصمت حيث أعلنت من على متن مادلين: “عندما تفشل حكوماتنا المتواطئة في اتخاذ خطوة، يقع على عاتقنا أن نفعل ذلك”.
بعد هذه المواقف، هاجمت وسائل الإعلام الكبرى تونبرج وعملت على شيطنتها بوصفها جزءاً من “النخبة المستيقظة”، فقط لأنها وقفت إلى جانب غزة.
بل إن السيناتور الأمريكي ليندسي غراهام لم يتردد في السخرية منها قائلاً: “آمل أن تتمكن غريتا وأصدقاؤها من السباحة!”، متخيلاً بمرح غرق شابة وأصدقائها العزّل في المياه، لكن رد غريتا كان باردًا حادًا: “نحن نجيد السباحة جيداً”.
لا شيء يفضح الانحدار الأخلاقي لدولة الاحتلال أكثر من رد فعلها على قارب مدني صغير، فهي لم تكتف بالتهديد، بل إن نبرتها كانت مسعورة، منفصلة عن أدنى معايير الإنسانية.
فقد وصف وزير دفاع الاحتلال، إسرائيل كاتس، غريتا بأنها “داعية معادية للسامية تابعة لحماس”، وأمر جيش الاحتلال باستخدام “أي وسيلة ضرورية” لإيقاف السفينة في تهديد صريح باستخدام القوة العسكرية ضد مدنيين، وضد قارب يحمل اسم صيادة فلسطينية.
وفي مقطع فيديو مروّع، ظهر أطفال من دولة الاحتلال يهددون غريتا: “نحن قادمون لننال منك!”، وكأنّهم تدربوا على الكراهية منذ الطفولة، إنهم لا يبدون حزناً على الموت الذي يعصف بأطفال غزة، ولا يدعون من أجل السلام، بل يحتفلون بمطاردة فتاة لا تحمل سلاحاً، بل ضميراً.
وحتى المشعوذ الذي اشتهر بثني الملاعق أوري غيلر لم يتأخر في الانضمام إلى هذه الجوقة، مدعياً أنه أرسل “قوة خارقة” لحماية قوات الاحتلال، ووجّه تهديداً لغريتا بعدم الاستهانة بقوة عقله، في أي وقت آخر كان كلامه يمكن أن يكون مضحكاً، لكنه اليوم يعكس خللاً نفسياً وجنوناً جماعياً.
هذه ليست نبرة ديمقراطية واثقة بنفسها، بل خطاب مستعمِر استيطاني على حافة وهمه، مسلح، غاضب، ويدور في دوائر الانهيار الأخلاقي.
صمت عربي يصمّ الآذان
وسط هذا الصخب، برز صوت أخلاقي واضح، وهو صوت الطبيب غابور ماتي، اليهودي الناجي من المحرقة والخبير الدولي في علم الصدمات، الذي بعث برسالة إلى أسطول الحرية من بولندا، حيث زار نصب انتفاضة غيتو وارسو.
في خطابه لركاب السفينة مادلين قال ماتي: “اليوم أنتم تمثلون هؤلاء المقاتلين، اليوم أنتم تمثلون تلك المجموعة الصغيرة المستعدة للوقوف في وجه أحد أكثر الجيوش دموية في العالم، المدعوم من كل القوى العظمى”.
وأضاف: “أنتم تحملون معكم البشرية جمعاء، جميع من لديهم قلوب مفتوحة، ويؤمنون بالعدالة، ويقفون وراءكم بإعجاب”.
لم تبحر السفينة من طنجة ولا من اللاذقية ولا من الإسكندرية، بل من سواحل إيطاليا، واللافت أن صمتاً مدوياً جاء من السواحل العربية للبحر المتوسط، فمصر، الجارة الأقرب، وقفت تراقب من بعيد، ومعبر رفح ظل مغلقاً وكان الجنود المصريون يصطفون عليه فيما يتضور الشعب الفلسطيني جوعاً على مرمى حجر منهم.
لقد باتت غزة أقرب إلى ناشط سويدي منها إلى أنظمتها الشقيقة، التي غرقت في بحر التطبيع والقمع والخوف، ولم تعد فلسطين شاغلاً للأنظمة، خاصة تلك التي يحكمها الطغاة، بل غدت قضية الأحرار، أولئك الذين لا يُسكتهم الرعب ولا تُطوّعهم الديكتاتوريات ولا يكسرهم اليأس.
مادلين ليست معجزة، ولكنها نموذج لما يمكن أن يكون، إن تجرّأت الإنسانية على الفعل، فماذا لو لم تكن وحدها؟ ماذا لو انطلقت آلاف القوارب من كل موانئ المتوسط؟ ماذا لو ثار الصيادون والطلبة والأمهات والآباء وقالوا: ليس باسمنا، لن يحدث هذا على مرأى منا؟ وماذا لو أصبح البحر ممراً للضمير؟
عندما يرفض الشعب الصمت
تذكّروا دنكيرك، حين عبرت قوارب مدنية القناة لإنقاذ جنود الحلفاء المحاصرين عام 1940 بلا أوامر، بلا إذن، فقط بشجاعة، والتاريخ لم ينسَ.
فماذا لو كان لغزة دنكيرك الخاصة بها؟ ماذا لو تحرك الناس، ورفضوا أن يقفوا متفرجين بينما يُباد شعب بأكمله؟
وتذكروا أيضاً: قبل أيام فقط، مرت 58 عاماً على الهجوم الذي شنته دولة الاحتلال على السفينة الأمريكية يو إس إس ليبرتي، وهي سفينة تجسس تابعة للبحرية الأمريكية.
في ذلك الهجوم قُتل 34 من أفراد الطاقم وجُرح 171، ورغم أن الاحتلال ادعى أن الحادث كان خطأ، لا يزال كثيرون يعتقدون أنه كان متعمداً.
واليوم، في البحر ذاته، الذي صبغ بدماء الأمريكيين، تبحر السفينة مادلين، حاملةً مدنيين عزل وطعاماً وأملاً، ومرة أخرى، تهدد دولة الاحتلال باستخدام القوة، مدعومة من الولايات المتحدة.
إن الحرب التي تشنها دولة الاحتلال ليست سوى نتيجة مباشرة لتقاعس العالم، فهي تخرق القانون الدولي وتحرق اللاجئين في خيامهم وتجوع الأطفال وتقصف المستشفيات وتدمر المدارس وتُعدم المسعفين وتقنص الأطفال في طوابير الخبز.
وبعد كل ذلك، ها هي دولة الاحتلال تضحك، مطمئنة أن لا شيء سيحدث، فهي تمتلك القنابل الأمريكية، والفيتو الأمريكي، وأوروبا متواطئة، والعالم العربي غارق في صمته، والنخبة الفلسطينية مشغولة بفسادها.
لكننا نحن، الشعوب، لسنا بلا حول ولا قوة، لسنا محكومين بأن نكون مجرد متفرجين، لسنا مجبرين على العيش في عالم يلتهم فيه الأقوياء الضعفاء بينما نمرّ نحن صامتين.
مادلين مرآة الإنسان
ما هو على المحك ليس مجرد شعب يواجه خطر الإبادة، بل الاتجاه الأخلاقي للحضارة كلها، فهل نريد عالماً بلا قانون، حيث تُسمى الإبادة دفاعاً عن النفس، ويُستخدم الجوع كسلاح، وتُعامل الحقيقة كخطر يجب قمعه؟
مادلين مرآة تعكس لنا العالم كما هو، لكنها أيضاً تلمّح إلى ما يمكن أن يكون، وهو أن التحرر ليس منّة من الأقوياء، بل مشروع ينهض به الضعفاء، كلما آمنوا وأصروا.
وقد كتبت السياسية الفرنسية ريما حسن من على متن السفينة مادلين “كنا نعتقد أننا نحرر فلسطين، لكن تبين أن فلسطين هي التي تحررنا”
وأضافت: “عندما يعتقلوننا، سأنظر إليهم كما نظر العربي بن مهيدي إلى مستعمري أرضه بهدوء وثقة في التحرير، نعم أنا أتّهم التواطؤ الاستعماري الغربي وأتهم الجبن العربي، أتهم فساد النخبة الفلسطينية، وأقف إلى جانب المقاومين والمتمردين والحالمين وغير المنضبطين، أولئك الذين يرفضون فوضى هذا العالم”.
ثم اقتبست ريما حسن من بن مهيدي قوله: “ألقوا الثورة في الشارع، والشعب سيحملها”، واليوم، ها هي الثورة قد أُلقيت في البحر، فهل سنلحق بها؟
للإطلاع على النص الأصلي من (هنا)