بقلم مارينا كالكولي
ترجمة وتحرير مريم الحمد
لقد قررت الأصوات السائدة في الغرب تغيير ظاهر التوجه والخطاب، وذلك بعد عام ونصف من الصمت المطبق والجهود المتواصلة لتشويه سمعة كل صوت ينتقد حرب الإبادة والإبادة الجماعية التي تشنها إسرائيل في فلسطين، حيث بدأت القوى الليبرالية المحافظة أخيراً في إعلان إدانات خافتة وخجولة لما لم يعد بوسعها إنكاره!
أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بأن “الوضع الإنساني في غزة لا يطاق”، فيما نشرت صحيفة الغارديان والصحيفة الهولندية NRC أخيراً ما قاله الفلسطينيون وخبراء الإبادة الجماعية للعالم منذ بداية المذبحة الأخيرة التي ارتكبتها إسرائيل بأن الإبادة الجماعية هي إبادة جماعية.
إن النأي الخجول من جانب بعض دول الاتحاد الأوروبي عن “حكومة نتنياهو” هو محاولة لإضفاء طابع شخصي مفرط على المسؤولية عن الإبادة الجماعية، مع ضمان حماية البنية التحتية الاستعمارية الاستيطانية التي تحافظ على العلاقات التجارية مع إسرائيل، كما لو كانت هذه هي الطريقة الوحيدة للوفاء بالتزاماتها بموجب القانون الدولي، لمنع ووقف والامتناع عن ارتكاب الإبادة الجماعية!
إن الاعتراف الخجول بالإبادة الجماعية أفضل بالتأكيد من الصمت والتواطؤ، ولذلك يجب الترحيب بمثل هذه التصريحات حتى يتم وقف الإبادة الجماعية في كامل فلسطين أو في أي مكان آخر، ولكن علينا في الوقت نفسه التحقق من النوايا والتأثيرات المترتبة على مثل هذه الاعترافات والإدانات، للتأكد من أنها تمثل حقاً إعادة اكتشاف للإنسانية، أم أنها مجرد محاولة أخيرة لتحييد السخط المتزايد إزاء انهيار الإنسانية في غزة.
وتتزامن هذه الإدانات وتتشابه مع تصريحات وتوجهات الحكومات ووسائل الإعلام الرسمية في الغرب أيضاً، وذلك إنما يدلل على ما يعرف بتأثير الدومينو وسط حقائق لا تطاق في غزة، حيث يشجع التحدث علناً الآخرين على فعل الشيء نفسه، فتوقع اعتراف الآخرين بشيء فظيع مثل الإبادة الجماعية في لحظة لم يعد من الممكن إنكارها قد يجبر الناس على تبديل مواقفهم لتجنب أن يكونوا آخر من يفعل ذلك.
ومن الناحية الأخرى، فإن هذا التحول المفاجئ، بعد ما يقرب من 20 شهراً من الصمت المدروس أو العجز المصطنع في مواجهة الإبادة الجماعية التي تم بثها على الهواء مباشرة يثير تساؤلات عدة.
التواطؤ الأوروبي
لقد زعم البعض أن هذا التحول في اللهجة هو محاولة متواضعة ومتأخرة لتطهير إرث التواطؤ الأوروبي في الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل.
لقد تم بالفعل تدمير غزة، بعد أن ألقت إسرائيل أكثر من 100 ألف طن من المتفجرات على سكان القطاع المحاصر، وهو ما وصفه المؤلف عمر العقاد بالقول: “في يوم من الأيام، سيكون الجميع ضد هذا”، مذكراً إيانا بأن الناس يميلون إلى إظهار ما يعتقدون أنه شجاعة منهم ولو كان متأخراً حتى يكونوا على الجانب الصحيح من التاريخ، ولكن فقط عندما لا تكون هناك مخاطر شخصية في قول أو فعل الشيء الصحيح.
يبدو أن هذا اليوم قد جاء في أوروبا، مع استمرار الإبادة الجماعية في غزة وتوسعها نحو الضفة الغربية المحتلة، حيث لا يفعل هؤلاء المنتقدون لإسرائيل وخاصة مؤسسات الاتحاد الأوروبي وحكوماته، أي شيء لوقفها، بل على العكس تماماً، فما زالوا يدعمون الإبادة الجماعية سياسياً واقتصادياً وعسكرياً!
باختصار، نحن نشهد تغيراً مفاجئاً في اللغة من دون تغيير مفاجئ بنفس القدر في السياسة، ومن الجدير بالذكر أن هذا التحول الخطابي يحدث في وقت لم تعد فيه الجماهير الأوروبية تتقبل شعارات الإبادة الجماعية المتمثلة في “الدفاع عن النفس” و”تجريد حماس من السلاح”، والتي بررت بها إسرائيل وحلفاؤها الغربيون إبادة أكثر من 53 ألف إنسان حتى الآن.
لا يمكن استبعاد أن القوى المؤسسة داخل الاتحاد الأوروبي تسعى إلى استعادة احتكار انتقاد إسرائيل من أجل تحييد نقد حركة التضامن العالمية مع فلسطين من فضح الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي وبنية الفصل العنصري والدور المركزي الذي تلعبه تل أبيب في الحفاظ على نظام اقتصادي عالمي يعتمد على توسيع القدرات العسكرية وتقنيات المراقبة، وليس حول الناس.
هذا هو النقد الإيديولوجي الذي تخشاه مؤسسة الاتحاد الأوروبي وتسعى إلى إخماده، وذلك من خلال تخفيف سيطرتها على ما يبدو على الكيفية التي يمكننا بها انتقاد انتهاك إسرائيل للمعايير الأساسية.
إن النأي الخجول من جانب بعض دول الاتحاد الأوروبي عن “حكومة نتنياهو” هو محاولة لإضفاء طابع شخصي مفرط على المسؤولية عن الإبادة الجماعية، مع ضمان حماية البنية التحتية الاستعمارية الاستيطانية التي تحافظ على العلاقات التجارية مع إسرائيل، كما لو كانت هذه هي الطريقة الوحيدة للوفاء بالتزاماتها بموجب القانون الدولي، لمنع ووقف والامتناع عن ارتكاب الإبادة الجماعية!
تمكين آلة الحرب
تعمل قوى المؤسسة الأوروبية على التركيز على إجراء يكاد يكون من المؤكد أنه لن يتم تنفيذه، لأن تعليق الاتفاقية يتطلب موافقة بالإجماع من جميع دول الاتحاد الأوروبي السبعة والعشرين، بما في ذلك حلفاء إسرائيل المخلصين، مثل ألمانيا والمجر.
لقد عرضت دول الاتحاد الأوروبي دعماً غير مشروط لحرب الإبادة التي تشنها إسرائيل من جانب واحد، ويمكنها سحب هذا الدعم بنفس الطريقة، ولكنهم في دعمهم لإسرائيل لم يتبعوا المسار المتعدد الأطراف لنفس السبب الذي يجعلهم يتابعون الآن المسار المتعدد الأطراف لمعاقبتها، لأنه لا ينجح عندما تكون الاستجابة السريعة مطلوبة.
يجب علينا أن ندين الجهود الرامية إلى تحييد آثار السخط على الإبادة الجماعية المستمرة ضد الفلسطينيين في غزة والعودة إلى العمل كالمعتاد وكأن شيئاً لم يحدث
من هذا المنطلق، جاء اختيار المستوى المتعدد الأطراف للاتحاد الأوروبي بهدف صرف الانتباه عن الضغوط الشعبية المتزايدة التي تحث الاتحاد على القيام بشيء حيال تسارع وتيرة الإبادة الجماعية في غزة، مع عدم تغيير الأمور على أرض الواقع.
ولا نرى في أي مكان أن قوى المؤسسة الأوروبية تناقش ولو عن بعد إمكانية اتخاذ تدابير أحادية مماثلة لتلك التي تم تبنيها رداً على الحرب العدوانية الروسية ضد أوكرانيا منذ فبراير 2022، والتي تشمل حظر الأسلحة وتجميد التجارة من جانب واحد وتشجيع الجامعات على قطع العلاقات مع المؤسسات التي تعمل أبحاثها على تمكين آلية الحرب.
هناك طريقة بسيطة لمعرفة ما إذا كانت هذه التحولات المفاجئة هي محاولات الملاذ الأخير للسيطرة على الفكر العام حول الإبادة الجماعية في فلسطين، أو خطوة أولى نحو إنهاء تواطؤ الاتحاد الأوروبي في الفظائع الجارية.
إذا دعت هذه الأصوات إلى اتخاذ تدابير عاجلة وملموسة لوقف الإبادة الجماعية وتواطؤ دول الاتحاد الأوروبي، فسوف يكون ذلك محل ترحيب بالتأكيد وعلينا استخدامه لتحفيز المزيد من الناس على العمل من أجل إنهاء الإبادة الجماعية ومعالجة أسبابها البنيوية.
أما إذا كانت هذه الإدانات المفاجئة مقتصرة على الاعتراف بما لم يعد من الممكن إنكاره، دون دعم أي تدابير لمكافحة الإفلات من العقاب على جرائم الإبادة الجماعية، فعلينا أن نراها على حقيقتها وهي أنها محاولة غادرة من جانب شركاء مرتكبي الإبادة الجماعية الإسرائيليين لاستباق الازدراء الاجتماعي الذي قد يلاحقهم في نهاية المطاف فهم يحاولون أن يحسبوا حساباً لبعد غد.
يجب علينا أن ندين الجهود الرامية إلى تحييد آثار السخط على الإبادة الجماعية المستمرة ضد الفلسطينيين في غزة والعودة إلى العمل كالمعتاد وكأن شيئاً لم يحدث، فهذا سوف يسمح لنفس القوى المؤسسة التي مكنت الإبادة الجماعية بمواصلة ممارسة امتيازها في التحدث بأمان عن الكيفية التي ينبغي أن نعيش بها حياتنا ونميز بين الصواب والخطأ!
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)