الرباعية الجديدة على خط النار: هل تنجح واشنطن وحلفاؤها في إنقاذ السودان من دوامة الحرب؟

بقلم أسامة أبو زيد

ترجمة وتحرير مريم الحمد

مع استمرار الحرب المدمرة في السودان، بدأت تتشكل مجموعة دبلوماسية جديدة تعد بخارطة طريق جديدة لإنهاء الصراع، ولكن يظل هناك سؤال وراء كل تلك البيانات والاجتماعات رفيعة المستوى، هل يمكن لهذا أن يحقق السلام حقاً لأمة ممزقة؟!

بعد ما وصفه العديد من المراقبين بالدبلوماسية “المتعثرة والباهتة”، كشفت ما سميت باللجنة الرباعية، والتي تضم الولايات المتحدة والسعودية ومصر والإمارات، مؤخراً عن خارطة طريق منسقة تهدف إلى إنهاء الحرب الكارثية في السودان. 

أظهرت صور الأقمار الصناعية التي حللها مختبر الأبحاث الإنسانية بجامعة ييل بأن قوات الدعم السريع قامت ببناء ساتر ترابي ضخم يحيط بالمدينة، مما أدى إلى إنشاء ما وصفه الباحثون بـ “صندوق الموت”

ويبقى السؤال الحاسم الذي يواجه الدبلوماسيين والسياسيين المدنيين السودانيين هو ما إذا كانت هذه المبادرة تمثل نقطة تحول حقيقية أم أنها مجرد مبادرة جديدة في سلسلة من المبادرات الدبلوماسية الفاشلة؟

ربما الفرق الأكبر هذه المرة هو المشاركة الواضحة والكبيرة للولايات المتحدة، ويعود هذا التحول إلى عاملين رئيسيين، أولهما هو اهتمام مسعد بولس، المستشار الخاص لإدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، بالسودان، معتبراً أنها “أولوية” ويبدو أنه حريص على تحقيق نجاحات دبلوماسية.

الأمر الثاني هو ممارسة أبو ظبي والقاهرة والرياض لضغوط نشطة على واشنطن لإبداء رأيها، مما يؤكد على انزعاجهم المتزايد من المستنقع الذي خلقته الحرب.

ويحدد البيان المشترك الصادر عن الرباعية خارطة طريق تتضمن هدنة إنسانية أولية مدتها 3 أشهر للسماح بإيصال المساعدات بسرعة، يعقبها وقف دائم لإطلاق النار، وتنتهي بفترة انتقالية مدتها 9 أشهر تؤدي إلى “حكومة مستقلة بقيادة مدنية تتمتع بشرعية ومساءلة واسعة النطاق”.

ويعكس توقيت هذه المبادرة حسابات استراتيجية، فقد تحسنت احتمالات التوصل إلى هدنة بعد أن استعاد الجيش السوداني السيطرة على الخرطوم في مارس الماضي، مما أزال عقبة رئيسية أمام وقف إطلاق النار، كما أن الحرب أصبحت بمثابة مأزق ضار للقوى الإقليمية، فمصر والسعودية، نظراً لقربهما الجغرافي، تنظران إليها على أنها تهديد لأمنهما القومي بشكل مباشر.

أما الإمارات، ورغم بعدها نسبياً من الناحية الجغرافية، إلا أنها تتكبد تكلفة بسبب ارتباطها بمثل هذا الصراع منذ بدايته.

مفارقة أساسية

من ناحية أخرى، فقد ساهمت التوترات العربية الداخلية في أخذ مشكلة السودان إلى منتديات أخرى، مثل جامعة الدول العربية، حتى أنها أخرجت مؤتمر لندن حول السودان هذا العام عن مساره، وكانت سبباً في تقويض الدبلوماسية الإقليمية في ملفات ملحة أخرى.

ومن هذا الباب، فإن تركيبة الرباعية  الجديدة تنطوي على مفارقة أساسية، فقد دعمت مصر بقوة القوات المسلحة السودانية، مما يعكس تفضيل القاهرة لما تعتبره حكومة شرعية، فيما قامت الإمارات بدعم قوات الدعم السريع، في وقت حاولت فيه السعودية الحفاظ على الحياد، مع انحيازها في نهاية المطاف إلى القوات المسلحة السودانية، التي تعتبرها الرياض المؤسسة الحكومية الوحيدة المتبقية في السودان. 

وتخلق هذه الديناميكية، مع وجود دول الرباعية على طرفي نقيض من الحرب، شكوكاً مشروعة حول القدرة أصلاً على الوصول لعملية سلام محايدة أو على الأقل تأمين حل سريع يركز على الثروة وتقاسم السلطة، بدلاً من التوصل إلى اتفاق شامل؟

ورغم الضجة الدبلوماسية، إلا أن اللجنة الرباعية تواجه رياحاً معاكسة، ففي غضون أسابيع من صدور البيان المشترك، تفاقم الوضع في ساحة المعركة، مع احتدام القتال على جبهات متعددة، حيث رفض الفريق أول عبد الفتاح البرهان، قائد الجيش السوداني، خارطة الطريق التي وضعتها الرباعية في البداية، ثم عاد ليقبلها بشروط، في حين تواصل قوات الدعم السريع حملتها الدموية في الفاشر، عاصمة شمال دارفور. 

ولا يزال الوضع الإنساني سيئاً، لا سيما في الفاشر، حيث لا يزال أكثر من 260,000 مدنياً، من بينهم 130,000 طفلاً، محاصرين بسبب حصار قوات الدعم السريع، حيث أظهرت صور الأقمار الصناعية التي حللها مختبر الأبحاث الإنسانية بجامعة ييل بأن قوات الدعم السريع قامت ببناء ساتر ترابي ضخم يحيط بالمدينة، مما أدى إلى إنشاء ما وصفه الباحثون بـ “صندوق الموت”.

في الوقت نفسه، انتقلت ديناميكيات الحرب إلى ما هو أبعد من مجرد صراع ثنائي بسيط، حيث تحولت إلى صراع متعدد الأقطاب مع تشكل عشرات الجماعات المسلحة والميليشيات والجهات الفاعلة الإقليمية التي تسيطر على المشهد السوداني الممزق.

تهميش الأطراف المعنية

ويزيد من تعقيد الأمر قيام الأطراف المتحاربة ببناء هياكل حكم موازية، حيث أعلنت قوات الدعم السريع وتحالف تاسي عن تشكيل حكومة موازية هذا الصيف في دارفور، وهي خطوة أدانها مجلس السلام والأمن التابع للاتحاد الأفريقي صراحة ورفض الاعتراف بها، فيما عينت القوات المسلحة السودانية رئيساً جديداً للوزراء في بورتسودان.

وتؤدي هذه المنافسة في فن الحكم إلى تحويل المكاسب في ساحة المعركة إلى مطالبات بالشرعية الإدارية والضرائب والسيطرة على الإيرادات، مما يجعل أي إعادة توحيد في المستقبل مكلفة سياسياً واقتصادياً.

من بين الانتقادات الكبيرة الموجهة إلى المبادرة الرباعية أيضاً ما يتعلق بتهميش أصحاب المصلحة الرئيسيين، فالاجتماع المقرر عقده في يوليو، والذي تم تأجيله لاحقاً بسبب التوترات بين مصر والإمارات، كان قد استبعد الاتحاد الأفريقي والهيئة الحكومية الدولية المعنية بالتنمية (إيغاد)، وهي الكتلة الإقليمية المكلفة تاريخياً بالتوسط في النزاعات في شرق إفريقيا.

ويثير هذا تساؤلات حول جدوى أي اتفاق يتم التوصل إليه دون وساطة إفريقية قوية وملكية محلية تشمل أصحاب المصلحة السودانيين، كما أن هذا النهج يؤدي إلى تهميش الجهات الفاعلة المدنية بشكل ممنهج، بما في ذلك الأحزاب السياسية ومجموعات المجتمع المدني والحركات الاجتماعية.

في ظل ذلك، فإن أي عملية سلام لا تشمل هذه القوات محكوم عليها بالفشل، لأن الجيش لم ينتج قط حكومة مستقرة في تاريخ السودان،

وفي حين وُصفت خطة الرباعية بأنها “سلام تقويمي”، سوف يحول الخيارات السياسية المعقدة إلى معالم تقويمية، إلا أنها تخاطر بالهشاشة البنيوية إذا لم تكن المواعيد النهائية متوافقة مع آليات قابلة للتنفيذ وإدراج هادف.

وقد شكلت زيارة البرهان إلى القاهرة هذا الشهر تحولاً دبلوماسياً ملحوظاً، حيث فسر العديد من المراقبين الرحلة على أنها أول التزام علني من جانب القوات المسلحة السودانية بالرباعية، ومع ذلك، فإن تصريحات البرهان قبل زيارة القاهرة، وبعدها مباشرة، ترسم صورة أكثر تعقيداً.

في مدينة عطبرة، بعد أيام فقط من زيارته للقاهرة، تبنى البرهان موقفاً متشدداً: ” نحن مستعدون للعمل مع أي طرف، سواء الرباعية أو غيرها، يريد التفاوض معنا حول ما هو مناسب للسودان والسودانيين وإنهاء هذه الحرب بطريقة تعيد للسودان كرامته ووحدته ويمنع أي احتمال لتمرد آخر”.

لا يزال الطريق إلى السلام هشاً، ولكنه ليس مستحيلاً، ففي النهاية، لا تستطيع الرباعية سوى فتح الباب، وعلى السودانيين أن يختاروا السير عبر هذه المرحلة معاً

من خلال التأكيد على هذه الشروط، فقد طمأن البرهان في الوقت نفسه الشبكات الإسلامية والموالية للجيش بأنه لن يتم تقديم أي تنازلات لقوات الدعم السريع أو القوى الأجنبية، حتى عندما أظهر مرونة دبلوماسية في الخارج.

أفق ضيق للسلام

يواجه الرباعي الآن العديد من العقبات التي فشلت المبادرات السابقة في التغلب عليها، فلا يزال كلا الطرفين المتحاربين يصران على أنهما قادران على تحقيق النصر العسكري، فقد استعاد الجيش زخمه مؤخراً، حيث استعاد الخرطوم وأجزاءً من كردفان، في حين تحتفظ قوات الدعم السريع بالسيطرة على معظم أنحاء دارفور مع الإعلان عن حكومة موازية.

ويظل التحدي الأكثر إلحاحاً الذي يواجه الرباعية هو عدم وجود التزام مباشر من قبل القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع، حيث لا يزال الجانبان يسعيان لتحقيق النصر العسكري.

خلال اليوم الثاني من محادثات واشنطن الرباعية، اندلع قتال عنيف في الفاشر، حيث شنت قوات الدعم السريع هجمات كبيرة باستخدام الطائرات بدون طيار والمدفعية وادعت أنها استولت على مقر فرقة المشاة السادسة التابعة للجيش السوداني، رغم عدم تأكيد القوات المسلحة السودانية خسارة المدينة بالكامل.

وقد تزامن التصعيد مع المفاوضات غير المباشرة للجنة الرباعية، مما يؤكد وجود التوتر بين المشاركة الدبلوماسية والتصعيد العسكري، فبحسب ما ورد، فقد وافق أعضاء الرباعية على تشكيل لجنة عملياتية مشتركة لتنسيق جهود السلام ووصول المساعدات الإنسانية ومراقبة التدخل الخارجي رغم غياب التفاصيل التنفيذية.

لتحقيق أي فرصة للنجاح، يتعين على الرباعية أن تتطور من تحالف ضيق لوساطة من أجل السلطة إلى لجنة شاملة حقاً، وهذا يعني دمج الاتحاد الأفريقي والهيئة الحكومية الدولية المعنية بالتنمية رسمياً وإشراك المجتمع المدني والجماعات النسائية المهمشة في مفاوضات النخبة والضغط على كافة الداعمين الخارجيين لحملهم على التوقف عن تغذية اقتصاد الحرب.

تشير إحدى التحليلات إلى أنه يجب على الرباعية تحويل التعهدات العامة إلى آليات قابلة للتنفيذ، من مراقبين محايدين مع ضمانات تشغيلية وحظر مستقل للإمدادات الخارجية والتزامات بالمساءلة ذات مصداقية. 

بدون هذه الضمانات، فإن جولة أخرى من الدبلوماسية لن تؤدي إلا إلى ترك السودان مدفوناً تحت اتفاقيات تخفي الصراع بدلاً من حله.

من جانب آخر، فمن غير المرجح أن ترحب الفصائل الإسلامية بهذا الاحتمال، ويبدو أن دعمهم المعلن للجيش ليس تأييداً للمؤسسة العسكرية الشرعية في السودان، بقدر ما يبدو أنه احتضان محسوب للحرب ذاتها، وهو الصراع الذي يعتبرونه الطريق المتبقي لاستعادة السلطة.

تمثل الرباعية اليوم أهم مبادرة دبلوماسية حول السودان منذ أكثر من عام، حيث تجمع بين القوى الخارجية التي تتمتع بأكبر قدر من النفوذ على الأطراف المتحاربة، ومن المرجح أن يحدد نجاحها أو فشلها ما إذا كان السودان سينزلق إلى مزيد من التشرذم والمجاعة أو أنه قد يبدأ الرحلة الطويلة نحو التعافي.

لا شك بأن الأيام المقبلة سوف تكشف ما إذا كانت الرباعية قادرة على ترجمة خارطة الطريق التي وضعتها في سبتمبر الماضي إلى تقدم ملموس على الأرض، أم إذا كانت ستصبح أحدث مدخل في التسلسل الزمني الطويل لمبادرات السلام الفاشلة في السودان.

لا يزال الطريق إلى السلام هشاً، ولكنه ليس مستحيلاً، ففي النهاية، لا تستطيع الرباعية سوى فتح الباب، وعلى السودانيين أن يختاروا السير عبر هذه المرحلة معاً.

للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)

مقالات ذات صلة