الرصاصة بدلاً من الخبز: قصة مجازر توزيع المساعدات في غزة

بقلم محمد شلبي وفيصل ادريس

ترجمة وتحرير نجاح خاطر

مع بزوغ فجر يوم من أيام الصيف الخانق، كان أمين سمير خليفة يستلقي على الأرض محاولًا الاحتماء من وابل من الرصاص الثقيل الذي اخترق سكون الصباح في جنوب غزة، أخذ صوته المرهق يرتجف وهو يردد: “نحن نموت من أجل لقمة خبز، حسبنا الله ونعم الوكيل”.

يبلغ أمين خليفة من العمر 30 عامًا، وقد أصبح المعيل الوحيد لأسرته بعد أن شنّت دولة الاحتلال حربها الإباديّة على غزة. 

ففي الأول من يونيو/تموز، غادر خليفة خيمته المؤقتة في رفح قاصدًا مركز توزيع المساعدات التابع لما يُعرف بـ”مؤسسة غزة الإنسانية” (GHF) على أمل الحصول على بعض الطعام، لكنه عاد يومها بخفيّ حنين. 

وبعد يومين، أعاد خليفة المحاولة مرة أخرى، لكن بدلًا من كيس الطحين أو عبوة الزيت، عاد جثمانًا ممزقًا بالرصاص، وسط صرخات الجوعى الذين تفرّقوا هلعًا في كل اتجاه.

“يقتلونهم كأنهم يصطادون فرائس”

في الفيلم الوثائقي الجديد الذي أنتجته ميدل إيست آي بعنوان غارق بالدماء (Soaked in Blood)، أُعيد بناء اللحظات التي سبقت استشهاد خليفة باستخدام تحليل صوتي جنائي وصور أقمار صناعية وشهادات شهود عيان.
وقد خلص التحقيق إلى أن أمين استشهد على الأرجح برصاص مدفع رشاش FN MAG عيار 7.62 ملم مثبت على دبابة تابعة لجيش الاحتلال، كانت تتمركز في موقع عسكري أُقيم حديثًا قرب أنقاض مسجد معاوية في رفح.

وتشير أنماط إطلاق النار وإحداثيات المواقع إلى استهداف متعمّد للمدنيين الذين توجهوا إلى مواقع المساعدات.
وتقول فدوى، والدة أمين خليفة وهي تبكي: “لو استطعت أن أضعه في قفص بجانبي ولا أتركه يغادر لحظة لفعلت، إنهم يختارون الأطول والأقوى والأجمل، ويطلقون النار عليهم كأنهم يصطادون فرائس، لماذا يُعدَم إنسان من أجل رغيف خبز؟”.

ومنذ عقود، سيطرت دولة الاحتلال على ما يدخل إلى قطاع غزة من غذاء ودواء ووقود، في محاولة لتركيع السكان ودفعهم لمناهضة حركة حماس، التي فازت في آخر انتخابات تشريعية في القطاع.

وفي عام 2006، قال دوف فايسغلاس، مستشار رئيس وزراء الاحتلال آنذاك إيهود أولمرت، واصفًا سياسة دولته تجاه غزة: “الفكرة هي أن نترك الفلسطينيين يعيشون في حمية غذائية، لكن دون أن نسمح بموتهم جوعًا”.

وكانت سلطات الاحتلال قد أجرت دراسة عسكرية داخلية تحدد الحد الأدنى من السعرات الحرارية اللازمة للفلسطينيين لتجنّب سوء التغذية في واحدة من أوضح صور التجويع الممنهج.

لكن بعد هجمات 7 أكتوبر 2023، تغيّر كل شيء، أُغلقت المعابر بالكامل، وتعرضت قوافل المساعدات لهجمات من قبل مستوطنين غاضبين، فيما حذرت الأمم المتحدة من أن غزة “تُدفَع نحو المجاعة عمدًا”.

وأخذ الفلسطينيون يأكلون علف الحيوانات للبقاء على قيد الحياة، بينما استهدفت الطائرات والمسيّرات طوابير الآباء والأمهات الذين كانوا ينتظرون لساعات من أجل علبة حليب أطفال.

“مؤسسة إنسانية” متورطة في جرائم حرب

ومع تفاقم المجاعة، أصبحت مؤسسة غزة الإنسانية (GHF) الجهة الوحيدة التي يُسمح لها بتوزيع الطعام، وهي مؤسسة مدعومة من الولايات المتحدة ودولة الاحتلال، لكنها سرعان ما أصبحت محط اتهامات خطيرة بانتهاك حقوق الإنسان واستهداف المدنيين.

تسلّمت المؤسسة إدارة توزيع المساعدات في مايو/أيار، بعد أن خففت دولة الاحتلال مؤقتًا حصارها الكامل للقطاع.
لكن الأمم المتحدة تؤكد أن أكثر من 1300 فلسطيني استشهدوا منذ ذلك الحين أثناء محاولتهم الوصول إلى الطعام، بينما تشير وزارة الصحة في غزة إلى أن عدد الضحايا بلغ 2615 شهيداً وقرابة 19,182 جريحًا منذ بدء المؤسسة عملها.

وتقول تقارير إن كثيرًا من الشهداء تعرضوا لإطلاق النار عمدًا على يد جنود الاحتلال أو متعاقدين أمنيين أمريكيين يعملون لصالح المؤسسة، تنفيذًا لأوامر مباشرة من رؤسائهم.

ورغم نفي المؤسسة سقوط شهداء في مواقعها، واعتبارها أرقام الأمم المتحدة “كاذبة ومضللة”، فإن الشهادات الميدانية وصور الأقمار الصناعية تروي قصة أخرى، قصة جوع وقتل متعمد.

حرب التجويع والإبادة

وتُظهر الأرقام الرسمية أن حرب الاحتلال على غزة أسفرت حتى الآن عن أكثر من 245 ألف شهيد وجريح، معظمهم من المدنيين.
وقد بدأت الحرب في 7 أكتوبر 2023 حين شنّت حركة حماس هجومها على المستوطنات الجنوبية، مبرّرة ذلك بعقود من الاحتلال، وتزايد الانتهاكات ضد المسجد الأقصى، واستمرار الحصار، وسوء معاملة الأسرى الفلسطينيين.

وتشير تقارير استخباراتية للاحتلال إلى أن أكثر من 80٪ من ضحايا الحرب حتى مايو/أيار الماضي كانوا من المدنيين.

وخلال إنتاج هذا التحقيق، استشهد مدير التصوير في غزة، محمد سلامة، في غارة نفذها جيش الاحتلال على مجمع ناصر الطبي، في مشهد يعكس الثمن الفادح الذي يدفعه الصحفيون لتوثيق الحقيقة.

وتقول ميدل إيست آي إنها تواصلت مع جيش الاحتلال ومؤسسة GHF للحصول على تعليق، لكنها لم تتلقَّ أي رد حتى لحظة نشر التقرير.

للاطلاع على المقال الأصلي من (هنا)

مقالات ذات صلة