بقلم جوزيف مسعد
بكثير من الحماس والإثارة أحاط بالتصويت الأخير لمجلس الأمن الدولي على مشروع قرار قدمته دولة الإمارات العربية المتحدة، بالتعاون مع السلطة الفلسطينية، ضد خطط إسرائيل الاستيطانية الاستعمارية المستمرة في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
لكن يوم الاثنين، سحبت الإمارات، الدولة الممثلة لجامعة الدول العربية في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، والسلطة الفلسطينية القرار بموجب أوامر أمريكية أصدرتها إدارة بايدن.
ناشدت السلطة الفلسطينية نتنياهو قبل أن يتولى منصبه لفتح قناة خلفية للمحادثات وعرض المزيد من الخدمات على الإسرائيليين
وكانت الولايات المتحدة قد حثت أعضاء مجلس الأمن على عدم طرح القرار للتصويت، واقترحت بدلاً من ذلك تبنيهم لبيان رمزي مشترك “يمكن لواشنطن أن تدعمه”.
وكان من المفترض أن يدين التصويت قرار الحكومة الإسرائيلية الأسبوع الماضي بإضفاء الشرعية على تسع مستوطنات يهودية في الضفة الغربية وببناء 10 آلاف منزل في المستوطنات اليهودية في القدس الشرقية.
وقبل يومين من التصويت المنتظر، اتصل وزير الخارجية الأمريكية أنتوني بلينكن شخصيًا بالرئيس الفلسطيني محمود عباس وأمره بسحب القرار.
وامتثلت السلطة الفلسطينية للأوامر على النحو الواجب، واستبدلت الإمارات، بدعم من السلطة الفلسطينية، القرار ببيان رئاسي غير ملزم، بناء على الأوامر الأمريكية.
محاولة يائسة
تعد هذه الخطوة هي أحدث مناورة للسلطة الفلسطينية لتجنب زوالها الذي توقعه الكثير من المراقبين الإسرائيليين والعرب.
في الواقع، وعلى الرغم من جميع الاحتجاجات التي أطلقتها السلطة الفلسطينية ضد حكومة نتنياهو في حملة علاقات عامة، فقد ناشد مسؤولو السلطة الفلسطينية، بناءً على أوامر من مسؤوليهم في البيت الأبيض نتنياهو قبل أن يتولى منصبه، لفتح قناة خلفية سرية للمحادثات وعرض المزيد من خدماتهم على الإسرائيليين، على أمل ضمان بقاء السلطة الفلسطينية قائمة.
إلا ان نتنياهو الذي أزدرى السلطة الفلسطينية لعقد من الزمان وعلق ما يسمى بـ “عملية السلام”، قبل العرض بسهولة تحت ضغط الولايات المتحدة.
وكان وزير الشؤون المدنية الفلسطيني حسين الشيخ هو من نقل الرسالة إلى مكتب نتنياهو من خلال إدارة بايدن، وهي الرسالة التي تم إرسالها للمرة الثانية بعد أن أدت حكومة نتنياهو اليمين.
ويُعتبر الشيخ، الذي يشغل أيضًا منصب الأمين العام للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، “الرجل المهم في العلاقات الفلسطينية مع الولايات المتحدة وإسرائيل”.
وبناء على ذلك، عين نتنياهو مستشار الأمن القومي تساحي هنغبي لإجراء محادثات سرية، أجريت شخصيًا وعبر الهاتف، توصل خلالها كل من هنغبي والشيخ إلى اتفاق أدى إلى سحب السلطة الفلسطينية والإمارات لقرار مجلس الأمن.
وطالب الإسرائيليون السلطة الفلسطينية بوقف الإجراءات القانونية في المحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية.
وقال هنغبى أمام مؤتمر رؤساء المنظمات اليهودية في أمريكا الشمالية، إن ” الفلسطينيين طالبوا إسرائيل بوقف الخطوات أحادية الجانب مثل التوغل في المدن الفلسطينية”.
وأضاف أنه أبلغ الفلسطينيين أن إسرائيل “لا تريد إرسال الجيش الإسرائيلي إلى مدينتي جنين ونابلس بالضفة الغربية، ولكنها تقوم بذلك لأن قوات الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية لا تقوم بواجبها “.
و عرضت إسرائيل تقديم “المساعدة” بسخاء لقوات السلطة الفلسطينية من أجل سحق المقاومة في مدن الضفة الغربية.
وتشير المذبحة الإسرائيلية الأخيرة التي راح ضحيتها 11 فلسطينيًا في نابلس، والتي أسفرت أيضًا عن إصابة 102 شخصًا على الأقل، إلى أن قوات السلطة الفلسطينية أثبتت أنها غير قادرة على قمع المد المتصاعد للمقاومة الفلسطينية على الرغم من المساعدة الإسرائيلية.
كما أمر الوزير بلينكن عباس خلال زيارته لرام الله قبل أسابيع قليلة، بتنفيذ “خطة أمنية أمريكية تهدف إلى إعادة سيطرة السلطة الفلسطينية على مدينتي جنين ونابلس، اللتين أصبحتا بؤرة للاضطراب”.
وتمت صياغة الخطة الأمنية من قبل منسق الأمن الأمريكي الجنرال مايكل فنزل، وتتضمن الخطة “تدريب قوة فلسطينية خاصة سيتم نشرها في هذه المناطق للقضاء على “المقاومة الفلسطينية”.
ويشغل فنزل منصب المنسق الأمني الأمريكي للسلطات الإسرائيلية و الفلسطينية منذ تشرين الثاني/ نوفمبر 2021. ويعتبر فنزل ذو خبرة كبيرة في استراتيجيات قمع مقاومة العرب والمسلمين للاحتلال العسكري الأمريكي، وسبق له أن خدم في حرب الخليج 1990-1991، وفي الغزو الأمريكي لأفغانستان عام 2001، وكذلك في الغزو الأمريكي للعراق عام 2003.
كما كان فنزل عميدًا في الجيش الأمريكي وعمل كزميل عسكري كبير في مجلس العلاقات الخارجية ومؤسس مجلس شؤون الأمن القومي الطارئة. ويتمتع بصفته عضو مدى الحياة في مجلس العلاقات الخارجية ومدير سابق لموظفي مجلس الأمن القومي في البيت الأبيض، وقد شغل منصب كبير المستشارين العسكريين للممثل الخاص للمصالحة الأفغانية في وزارة الخارجية الأمريكية، وهو مؤلف كتاب عن الاستراتيجية العسكرية السوفيتية في أفغانستان.
قبل زيارة بلينكن، وبناءً على أوامر أمريكية، قام رئيسا المخابرات المصرية والأردنية بزيارة عباس للضغط على السلطة الفلسطينية لمضاعفة قمعها للمقاومة الفلسطينية.
ووفقًا للتسريبات التي تم الكشف عنها مؤخرًا، تعمل الولايات المتحدة بالتعاون مع السلطة الفلسطينية على تدريب 12 ألف عنصر من قوات الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية على كيفية قمع المقاومة الفلسطينية بشكل أفضل.
ولم تكن هذه المرة الأولى التي يتم فيها هذا النوع من التدريبات الخاصة، فقد أشرفت الولايات المتحدة على تدريب ضباط أمن السلطة الفلسطينية على مدى العقدين الماضيين، وخاصة أثناء التحضير لانقلاب السلطة الفلسطينية ضد حكومة حماس المنتخبة في 2006-2007.
انعدام الخيارات
وقد أمر بلينكن عباس خلال زيارته باستئناف التنسيق الأمني مع الإسرائيليين، لكن عباس، الذي ادعى أنه كان قد أوقف “التنسيق” الأمني للسلطة الفلسطينية مع إسرائيل الشهر الماضي بعد المذبحة الإسرائيلية للفلسطينيين في جنين، أكد لمدير وكالة المخابرات المركزية الزائر ويليام بيرنز أن “أجزاء” من التنسيق، بما في ذلك “تبادل المعلومات الاستخبارية”، مستمرة دون عوائق، رغم المجازر الإسرائيلية المستمرة.
وفي الواقع، أكد عباس لبيرنز أن “قوات الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية ستستمر في اعتقال المشتبه بهم بالإرهاب وأن التنسيق الأمني سيعود بالكامل بمجرد عودة الهدوء”.
و تتواصل مخاوف السلطة الفلسطينية من إمكانية تقويضها مدفوعة بوجهة نظر الولايات المتحدة وإسرائيل التي تعتبر أنها أصبحت بلا جدوى، لا سيما بسبب عدم قدرتها على القضاء على المقاومة الفلسطينية للاحتلال العسكري الإسرائيلي – وهو السبب الأصلي لوجودها – وبسبب أنها لم تكن فعالة كما كانت تأمل أي من الدولتين.
لا شك أن المد المتصاعد للمقاومة الفلسطينية عبر الضفة الغربية يحبط توقعات الولايات المتحدة و حلفائها العرب
وقد حذر جنرال إسرائيلي سابق في المخابرات العسكرية مؤخرًا من الانهيار الوشيك للسلطة الفلسطينية، كما أن دعوة معظم أعضاء اليمين في حكومة نتنياهو الائتلافية مرارًا وتكرارًا إلى حل السلطة الفلسطينية لم تكن أخبارًا مبشرة بالنسبة لمسؤولي السلطة الفلسطينية. ومن المثير للاهتمام، أن نتنياهو، على ما يبدو، لم يخبر شركائه في الائتلاف بالمحادثات السرية الأخيرة خشية معارضتها.
و لا تستند هذه الثقة المتجددة للولايات المتحدة، وثقة حلفاء إسرائيل العرب، في دور السلطة الفلسطينية باعتبارها القوة الرئيسية المكلَّفة بقمع الفلسطينيين تحت الاحتلال الإسرائيلي، إلى الأداء المتدني للسلطة الفلسطينية، بل إلى الافتقار إلى الخيارات المتاحة أمامها من قبل الولايات المتحدة للحفاظ على الوضع الراهن.
ولقد استثمرت الولايات المتحدة، كما فعلت إسرائيل وحلفائها العرب، في الحفاظ على الوضع الراهن على مدى العقد الماضي على الأقل، إلا أنها تشعر بالقلق من أن الحكومة الإسرائيلية الجديدة قد تُحدث تغييرًا، مما قد يشكل خطرًا غير محسوب على بقاء إسرائيل في المستقبل والحفاظ على احتلال العسكري للأراضي الفلسطينية.
أصبحت الولايات المتحدة وحلفاؤها في حيرة من أمرهم، في ظل انعدام الخيارات، حيث تم إنشاء السلطة الفلسطينية في العام 1993 لضمان استمرار بقاء إسرائيل كمستعمرة استيطانية يهودية وللإبقاء على الاحتلال الدائم لأراضي الفلسطينيين في صيغ مختلفة.
ويعد هذا النقص في الخيارات هو ما أحيا الاهتمام بدور السلطة الفلسطينية الفاشلة، إلا انه يمكن القول إن تجدد ثقة الولايات المتحدة في قدرة السلطة الفلسطينية على إخضاع الفلسطينيين المقاومين، هو تقدير في غير محله.
فالمد المتصاعد للمقاومة الفلسطينية عبر الضفة الغربية، والاستعداد الثابت للمقاومة في غزة، ناهيك عن المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل، كل ذلك يَعد بإحباط توقعات الولايات المتحدة وحلفائها العرب.
وعلى الرغم من استعداد الإسرائيليين لاستخدام السلطة والتفاوض معها، إلا أنهم، على ما يبدو، هم الوحيدون الذين يحسنون تقدير قوة المقاومة الفلسطينية والخطر الذي تشكله، حيث يستمرون في العمل والتخطيط لاستراتيجياتهم العسكرية وفقًا لذلك.
للإطلاع على المادة الأصلية من (هنا)