بقلم عوني المشني
في البداية مهم أن نوضح المصطلحات، الدور الوطني للسلطة الفلسطينية كما يتوقع ويأمل شعبنا هو حماية هذا الشعب وتوفير متطلبات صموده الوطني والارتقاء بالوضع السياسي الى مستوى دولة فلسطينية كاملة الاستقلال والسيادة في الاراضي التي احتلت عام 1967 وبعاصمتها القدس.
وهذا هو الخطاب العلامي الذي جاء في سياق تسويق اتفاقية اوسلو للجماهير الفلسطينية ، وهذا لا يختلف عليه احد حتى القائمين على السلطة انفسهم . بينما الدور الوظيفي للسلطة هو تحقيق الامن في مناطق السلطة ومنع ” العنف الفلسطيني ” ضد الاسرائيليين وادارة شئون المجتمع الفلسطيني المدنية. وهذا ايضا واضح في اتفاقيات اوسلو وفي الممارسة الميدانية.
وهنا يبرز التناقض الفاضح بين دورين متناقضين تماما للسلطة ، حاول الشهيد ياسر عرفات بكل امكانياته ايجاد صيغة توازن دقيق بين الامرين ولكن بطريقة اخضع المتطلب الثاني وهو تحقيق الامن لصالح الهدف الاول وهو الاستقلال والسيادة ، وكان ذلك في سياسة معقدة افضت الى الانتفاضة الثانية والتي مثلت ذروة الحسم لصالح مفهوم الاستقلال والسيادة الوطنية وكان من نتيجتها المباشرة التفاف شعبي منقطع النظير حول ياسر عرفات ممثلا اصيلا لهذا النهج ، وكان اغتيال ياسر عرفات على خلفية هذا الحسم وهذه الرؤيا.
مرحلة ما بعد ياسر عرفات اتسمت حتى هذه اللحظة بنفس السياسة التي اتبعها ياسر عرفات مع فارق جوهري وهو انه تم اخضاع الهدف من قيام السلطة كما يراه شعبنا والمتمثل في الاستقلال والسيادة لصالح الهدف كما رسم في اتفاقيات اوسلو وهو تحقيق الامن ، هذا الامر شكل انقلاب كامل مع الفكر السياسي لمفهوم التحرر الوطني مما دفع السلطة مسافة كبيرة بعيدا عن مشاعر وقناعات شعبها ،؟ كما ان هذه السياسة لم تفضي لاي انجاز يذكر على مختلف الصعد بل وهذا الاهم ادى الى تراجع دور السلطة السياسي والوطني وحتى الوظيفي.
قد يفهم ان سلطة قد جاءت على خلفية اتفاقات مجحفة بحق شعبنا لن تكون سلطة ثورية ولكن سياسة برغماتية تحافظ على الحبل السري مع مفهوم التحرر الوطني كانت هي الاجدى والاكثر فعالية ، وهذا لم يتحقق ، وحتى رفع منسوب الخطاب الوطني اللفظي كان يقابله روفه منسوب التنسيق الوظيفي بما يبعد السلطة عن حاضنتها الجماهيرية.
ما اوصل الاوضاع لانهيار هذه المعادلة هو وصول المشروع الصهيوني لمرحلة حسم الصراع هذا استدعى تعزيز الاستيطان والتهويد وما يرافقه من قمع للشعب الفلسطيني ، وهذا ادى بحكم الضرورة الى تعزيز النضال الوطني كردة فعل تلقائية ، وهنا اصبحت السلطة بين فكي كماشة وضاقت الخيارات امامها وانهارت امكانيات التوازن.
الاسرائليون يضغطون بقوة لدفع السلطة للقيام بدور وظيفي في مطاردة واجتثاث الفعل النضالي الفلسطيني بالمقابل القطاعات الشعبية الفلسطينية تضغط باتجاه معاكس تماما وذلك بدفع السلطة لموقف منحاز للنضال الوطني ، ولم يعد مقبولا لا لاسرائيل ولا للشعب الفلسطيني الموقف الوسطي والذي حافظ على وجود السلطة كل هذه المدة.
ليس هذا فحسب بل ان مغادرة السلطة للموقف الوسطي هذا وباي اتجاه سيؤدي لانهيارها ، اذا انحازت لشعبها وللمشروع التحرري لن تبقيها اسرائيل فهذه السلطة جاءت لمشروع امني وظيفي فقط ولن يكون مقبولا وجود سلطة فلسطينية لا تؤدي هذا الدور ، بالمقابل فانها اذا قامت بدورها الوظيفي كما يريده الاسرائيليون فانها ستصدم بشعبها وبطريقة ستسقطها تماما.
هذه هي الازمة الحقيقية ، وهذه هي المرحلة التي وصلت الامور اليها . سلطة غير قادرة على الانحياز في وقت اصبح الانحياز هو الممر الاجباري نحو النهاية المحتومة ، لا طريق اخر وليس هناك مساحة للمناورة . عندما وصل ياسر عرفات لمثل تلك المرحلة وفقد القدرة على المناورة فقد انحاز بلا تردد لشعبه مع انه كان يعلم انها طريق النهاية ولكن النهاية المنطقية لقائد جعل الحرية والاستقلال منارة يهتدي بها ” شهيدا … شهيدا … شهيدا “.
الان نخب السلطة امام مشهد مشابه تماما ، الصمت المريب لهذه النخب ليس تعبيرا عن حكمة بقدر ما هو تعبير عن ازمة ، حتى في ظل ارهاب اسرائيل الرسمي وارهاب المستوطنين الممنهج رسميا فان الصمت يستمر وهذا يفاقم الازمة ولا يخففها ، فالجمهور الفلسطيني وصل الى حد عدم القدرة على احتمال موقف السلطة هذا بل واكثر بان يوجه الاتهامات علنيا وبصوت عال ، ويسهلوا هذا الصوت اكثر فاكثر الى حد الانفجار ، بينما اسرائيل وصلت الى حد قريب من فقدان الثقة بقدرة السلطة على القيام بدورها الامني وهذا سيدفع الى ارهاب اسرائيل مباشر اكثر فاكثر مما يفاقم ازمة السلطة .