بقلم ماركو كارنيلوس
ترجمة وتحرير مريم الحمد
يعود تاريخ قرية بوتيمكين إلى عهد روسيا القيصرية، فقد كانت تلك القرية بمثابة صورة تعبيرية لتمثيل كيف يكون الواقع مختلفاً تماماً عن الحقيقة، فخلال الأربعينيات من القرن الماضي، فقد طبق النازيون والفاشيون هذا المفهوم لإخفاء جرائمهم وسوء إدارتهم.
لقد قامت الديمقراطيات الغربية على مدى سنوات ببناء ما يشبه نموذج قرية بوتيمكين خاصة بها تعزيزاً لسردية تريدها منفصلة عن الواقع، ليصوروه اليوم بأنه كان حقبة مثلت صراعاً ملحمياً بين الديمقراطية والاستبداد!
عندما يتعلق الأمر بالخداع والتضليل، فأوضح الأمثلة تتجلى في منطقة الشرق الأوسط، فمنذ 7 أكتوبر، لم يكن هناك سوى رواية واحدة، أن لإسرائيل الحق في الدفاع عن نفسها، مع تجاهل عقود من الاحتلال الإسرائيلي الوحشي للأراضي الفلسطينية
على أية حال، فإن نموذج قرية بوتيمكين بدأ بالانهيار ببطء، حتى بدت بعض علاماته ظاهرة اليوم، وكان آخرها إدراك الحزب الديمقراطي الأمريكي المفاجئ، بعد المناظرة الرئاسية الكارثية بين جو بايدن ودونالد ترامب، أنه من الواضح أن الأول غير مؤهل لخوض انتخابات نوفمبر.
لقد كانت الزلات المعرفية الواضحة لدى بايدن نتيجة مشكلته العقلية موضوعاً للنقاش العام لسنوات رغم الحرص على إخفاء ذلك داخل إدارته، لكن تم اكتشاف خدعتهم الآن وهم مذعورون، فقد استخدمت مجلة الإيكونوميست في مقالها الأخير وبشكل صريح مصطلح “التستر” في فضح الأمر، كما تم تلخيص هذا التحريف للواقع في صحيفة وول ستريت جورنال فكتبت الصحيفة: “لقد خدعونا وأحرقونا 4 سنوات، كل ذلك باسم الديمقراطية، ومن الواضح أن الديمقراطيين اعتقدوا أن بإمكانهم الإفلات من التضليل في الترويج لكفاءة بايدن”.
مهزلة الديمقراطية
كيف سيكون من الممكن الآن انتقاد من يسمون بالشعبويين؟ لن يتمكن من يعتقدون أنهم يجب أن ينقذوا الديمقراطية الأمريكية من ترامب من فعل ذلك من الآن فصاعداً، فقد تبين أن ما يمارسونه هم محاكاة ساخرة للديمقراطية.
السؤال هنا، من المسؤول عن الوضع الراهن؟ ويبدو أن الجواب الذي لا مفر منه هو أنهم مجموعة من كبار المانحين والبيروقراطيين في واشنطن، فهذه ليست ديمقراطية ليبرالية، ولكنها ديمقراطية أقلية منافقة.
ومن المؤسف أن الخداع لا يقتصر على النظام السياسي الأمريكي، فحتى في انتخابات البرلمان الأوروبي التي جرت الشهر الماضي، كانت رسالة الناخبين واضحة في السخط على قادتهم.
على الجانب الآخر، تجاهل زعماء الاتحاد الأوروبي تلك الرسالة، وذلك بموافقتهم على عجل على إعادة تعيين أورسولا فون دير لاين رئيسة للمفوضية الأوروبية، كما اختاروا رئيس وزراء إستونيا، كاجا كالاس، الذي يدعو علناً إلى تقسيم الاتحاد الروسي إلى دويلات على أسس عرقية، ليكون الممثل الأعلى للشؤون الخارجية، وبذلك أصبح الصراع بين الاتحاد الأوروبي وروسيا أمراً لا مفر منه!
في بريطانيا، فاز حزب العمال البريطاني بنحو 33% من الأصوات في الانتخابات البرلمانية الأخيرة ضمن نسبة مشاركة لم تتجاوز 60%، حصل من خلالها الحزب على أكثر من 60% من مقاعد البرلمان، وهذه النسبة التي حصل عليها الحزب في عهد كير ستارمر أقل بملايين مما حصل عليه الحزب بزعامة جيريمي كوربين، الذي تم فصله من الحزب، عام 2017، ومع ذلك، تم تصوير النتيجة على أنها فوز ساحق لحزب العمال.
أما في فرنسا، فقد نجح ائتلاف يسار الوسط، الذي يعتبر يميناً فعلياً، في منع حزب التجمع الوطني بزعامة مارين لوبان من قيادة الحكومة المقبلة، فأصبح البرلمان بذلك معطلاً، فكيف يمكن لحزب الرئيس إيمانويل ماكرون النيوليبرالي أن يحكم إلى جانب زعيم حزب فرنسا إنسوميز جان لوك ميلينشون، الذي يطالب بالاعتراف بفلسطين؟!
خداع وتضليل
في ألمانيا، بلغت نسبة تأييد ائتلاف “إشارة المرور” نحو 30%، رغم أنه يواصل تنفيذ سياسات إعادة عسكرة البلاد وتقليص صناعتها، وفي إيطاليا، لم ينجح حزب إخوان إيطاليا اليمينيون المتطرفون في الحكم إلا من خلال نموذج قرية بوتيمكين.
من ناحية أخرى، وبعد أكثر من عامين من الروايات الكاذبة حول فعالية العقوبات ضد روسيا، شهدت أوروبا قيام البنك الدولي بترقية روسيا من دولة ذات دخل متوسط إلى دولة مرتفعة الدخل.
إن العقلية المسمومة، التي أصبحت بموجبها النخب المالية والإدارات التنفيذية في مجال التكنولوجيا هي وحدها من تحتكر المهارات والأصول اللازمة لإدارة هذا العالم المعقد، تواجه تحدياً متصاعداً من قِبَل الرأي العام في الولايات المتحدة وأوروبا، وهذا هو السبب الحقيقي الذي يجعل مديري قرية بوتيمكين في الغرب يكرهون الصين وروسيا وأمثالهما، لأنهم رفضوا النظام الدولي القائم على الحمقى
وبعد عامين من التنبؤات بشأن التهديد الوجودي الذي تشكله روسيا على أوروبا، فجأة، ، نجد تقييماً استخباراتياً أمريكياً في مقال نشرته صحيفة نيويورك تايمز مفاده أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لم يكن ينوي قط توسيع الصراع الحالي إلى ما هو أبعد من أوكرانيا.
عندما يتعلق الأمر بالخداع والتضليل، فأوضح الأمثلة تتجلى في منطقة الشرق الأوسط، فمنذ 7 أكتوبر، لم يكن هناك سوى رواية واحدة، أن لإسرائيل الحق في الدفاع عن نفسها، مع تجاهل عقود من الاحتلال الإسرائيلي الوحشي للأراضي الفلسطينية.
منذ إنشائها، لم تتردد إسرائيل قط في الدفاع عن نفسها بأكثر الطرق قسوة، ومع ذلك لم تعترض الديمقراطيات الغربية يوماً، لكن قرية بوتيمكين الإسرائيلية بدأت بالانهيار أيضاً، فحتى الجماهير الغربية أصبحت تدرك أن “حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها” ليس سوى رخصة لتنفيذ أعمال وحشية!
إن التمثيل المهووس لـ “الجيش الأكثر أخلاقية” في العالم و”الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط” التي تناضل نيابة عن الغرب ضد الإرهاب والتطرف الإسلامي، إنما يفسح المجال أمام جرائم الحرب والإبادة الجماعية.
تحديات متصاعدة
باعتباره الذراع العسكري لفكرة “قرية بوتيمكين” إن صح التعبير، فإن حلف شمال الأطلسي لا يتردد في المواجهة المباشرة مع منافسيه، حتى في ظل خطر اندلاع حرب عالمية ثالثة.
مؤخراً، اتهم الأمين العام لحلف شمال الأطلسي ينس ستولتنبرغ، الصين بالتحريض على أكبر صراع في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية، كما نشرت صحيفة فايننشال تايمز مؤخراً قصة درامية حول قمة الناتو المتوترة لعام 2018، والتي هدد حينها ترامب بسحب الولايات المتحدة من التحالف إذا لم يرفع أعضاؤه الآخرون نسبة الناتج المحلي الإجمالي المخصصة للإنفاق العسكري، ولم تتجرأ على تحديه وقتها سوى لوكسمبورج الصغيرة.
منذ ثمانينيات القرن 20، أفسحت الليبرالية التقليدية المجال أمام الليبرالية الجديدة، حيث ساهمت الأوليغارشية غير الليبرالية في تشكيل ما يسمى اقتصاد التمويل المفرط، الذي أدى بدوره إلى ديون عالمية مذهلة وهي الآن في مرحلتها النهائية.
بعد أكثر من 4 عقود، بات هناك أمل بأن تفسح النزعة الفردية والأنانية المجال أمام بنية أكثر دعماً في مجتمعاتنا، حيث تسود احتياجات المجتمع على احتياجات الأفراد بغض النظر عن مدى قوتهم، وبذلك يمكن أن يعود التمويل أخيراً إلى خدمة الاقتصاد الحقيقي وليس العكس.
إن العقلية المسمومة، التي أصبحت بموجبها النخب المالية والإدارات التنفيذية في مجال التكنولوجيا هي وحدها من تحتكر المهارات والأصول اللازمة لإدارة هذا العالم المعقد، تواجه تحدياً متصاعداً من قِبَل الرأي العام في الولايات المتحدة وأوروبا، وهذا هو السبب الحقيقي الذي يجعل مديري قرية بوتيمكين في الغرب يكرهون الصين وروسيا وأمثالهما، لأنهم رفضوا النظام الدولي القائم على الحمقى.
لقد كان هذا الجدال الفكري قائماً حتى قبل المنافسة بين القوى العظمى، فقد علق الرئيس التنفيذي لشركة بلانتير، أليكس كارب، مؤخراً على احتجاجات الحرم الجامعي ضد الإبادة الجماعية في غزة بقوله: “إذا خسرنا المناقشة الفكرية، فلن نتمكن من نشر أي جيش في الغرب على الإطلاق”، فلماذا يدعو ملياردير ناجح في مجال التكنولوجيا إلى امتلاك قدرة لا يمكن منافستها في نشر الجيوش؟!
ربما فاز هؤلاء الأشخاص بالنقاش الفكري في السبعينيات والثمانينيات، وقد رأينا عواقب ذلك الوخيمة، لذلك دعونا نأمل ألا يفوزوا بها مرة أخرى!
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)