بقلم رزان شوامرة
ترجمة وتحرير نجاح خاطر
“هل ترغبين بالذهاب إلى الصين يا رزان؟ تعالي إلى حوارة، فالصين هنا”، على الرغم من أن صديقي أحمد قال هذه الكلمات على صعيد المزاح فقط، إلا أنها حملت في طياتها حقيقةً قاسية، فحوارة قرية فلسطينية صغيرة قرب نابلس، محاطة ببعض أكثر المستوطنات الصهيونية عنفًا وتطرفًا أيديولوجيًا في البلاد، ومن بينها مستوطنة يتسهار.
وعندما سألت صديقي الذي استعرت له اسم أحمد لاعتبارات أمنية تتعلق بسلامته عما يعنيه، قال لي: “يعيش عمال صينيون ويعملون في المستوطنات المجاورة، أنا أراهم باستمرار في شوارع القرية يتسوقون من المتاجر الفلسطينية المحلية”.
دفعتني هذه الملاحظة العفوية قبل شهرين إلى مزيد من البحث، فقد تحدثتُ مع فلسطينيين في جميع أنحاء الضفة الغربية المحتلة وجمعتُ شهاداتهم، فقال لي علي، الذي يسكن في رام الله بالقرب من مستوطنة بيت إيل: “رأيتُ عشرات العمال الصينيين يبنون منازل وبنى تحتية في بيت إيل”.
أما سعيد، وهو من الخليل، فيتذكر أنه “خلال جائحة كوفيد-19، قام المستوطنون بعزل العمال الصينيين بشكل منفصل عن الآخرين”.
تكشف هذه الشهادات عن حقيقة مزعجة، فالعمالة الصينية تساهم بنشاط ووضوح في بناء مستوطنات الاحتلال على الأراضي الفلسطينية المحتلة، ومن المفارقات أن هذا الواقع يتناقض بشكل مباشر مع سياسة الصين المعلنة، فقبل عقد من الزمن، منعت طواقم البناء الصينية من العمل في مستوطنات الاحتلال.
وفي عام 2015، وقّعت الصين اتفاقية عمل ثنائية مع تل أبيب تضمنت شرطًا يمنع توظيف العمال الصينيين في الضفة الغربية المحتلة، والجدير بالذكر أن هذا الشرط كان مدفوعًا بمخاوف تتعلق بالسلامة، وليس بموقف مبدئي ضد عدم قانونية أو عدم أخلاقية بناء المستوطنات.
لكن بدا أن هذه المخاوف المتعلقة بالسلامة قد تضاءلت عندما استحوذت الصين في عام 2016 على شركة أهافا، وهي شركة استيطانية تقع في متسبيه شاليم، وبعد عام واحد، وقّع البلدان اتفاقية عمل أخرى لجلب 6000 عامل بناء صيني إلى دولة الاحتلال بنفس الشروط.
في ذلك الوقت، أكد المتحدث باسم وزارة خارجية الاحتلال، إيمانويل نحشون، أن الصفقة “تستند إلى الحرص على سلامة وأمن العمال”، لكن المسؤولين الصينيين ردوا على ذلك قائلين إن “المشكلة الحقيقية لم تكن السلامة، بل اعتراض الصين على البناء في المستوطنات”.
وعلى الرغم من ذلك، أوضحت مقابلاتي مع السكان من نابلس إلى الخليل مروراً برام الله- أن العمال الصينيين لا يزالون حاضرين ويشاركون في توسيع المستوطنات، وهذا يثير تساؤلات جدية حول صدق معارضة الصين المزعومة لنشاط الاحتلال الاستيطاني.
“رواد عصرنا”
وفي خضمّ الإبادة الجماعية المستمرة في غزة، أعرب المسؤولون الصينيون علنًا عن قلقهم إزاء تزايد عنف المستوطنين في الضفة الغربية المحتلة، وصرح المتحدث باسم وزارة الخارجية، لين جيان، في سبتمبر/أيلول من العام الماضي بأن على دولة الاحتلال “وقف أنشطة الاستيطان غير القانونية في الضفة الغربية”.
لكن وبينما تتحدث بكين عن ضبط النفس، تعمل الشركات الصينية دعمًا للاحتلال والمشروع الاستعماري الاستيطاني في فلسطين.
ومن أبرز الأمثلة على ذلك شركة “أداما للحلول الزراعية”، وهي شركة كانت مملوكة للاحتلال سابقاً لكنها أصبحت الآن مملوكة بالكامل لشركة الصين الوطنية للكيماويات (ChemChina) المملوكة للدولة الصينية.
وفي خضم حرب غزة، حشدت شركة أداما عمالها “لدعم المزارعين الذين يعانون من نقص في العمال بما في ذلك مزارعو الجنوب، وسكان غلاف غزة، والمستوطنات الشمالية”، وفقًا لتقرير نشرته صحيفة جيروزالم بوست.
وفي حين تُعرب بكين عن معارضتها للنشاط الاستيطاني، فإن علاقاتها الاقتصادية مع دولة الاحتلال تُعزز أسس الاستعمار الصهيوني.
فقد نُقل عن ممثل شركة أداما في التقرير نفسه قوله: “مزارعو البلاد، ومزارعو المستوطنات المحيطة بغزة على وجه الخصوص، هم رواد عصرنا، واستمرار عملهم ضروري للحفاظ على أمن البلاد، وها هم يعودون في هذه الأيام لزراعة أراضيهم في ظل معاناة شديدة ونقص في الأيدي العاملة، في أداما، يحق لنا مساعدتهم في أوقات الشدة، والوقوف إلى جانبهم في أوقات الأزمات أيضًا”.
وقد ذهبت أداما في يناير/كانون الثاني 2024 إلى أبعد من ذلك، حيث أطلقت صندوقًا للمنح الدراسية بقيمة مليون شيكل تقريبًا (275,000 دولار أمريكي) لدعم الدرجات الأكاديمية في الزراعة لسكان غلاف غزة والمستوطنات الشمالية.
وتملك أداما تاريخ طويل في التعاون مع مؤسسات المستوطنين، فقد استُخدمت منتجاتها في تجارب زراعية أُجريت في مستوطنات الاحتلال في وادي الأردن، والأمر الأكثر إثارة للقلق هو أن أحد مبيدات الأعشاب التي تنتجها قد استُخدم من قِبل متعاقد مع جيش الاحتلال في رش جوي أدى إلى تدمير الغطاء النباتي على طول حدود غزة.
وفي حين تُقدم الصين نفسها كطرف محايد أو متعاطف في الصراع، فإن ملكيتها لأداما تربطها مباشرةً بالتدمير العسكري لسبل عيش الفلسطينيين.
دعم الترسيخ الاستعماري
هذه ليست حالة معزولة عن السياق، فخلال السنوات الأخيرة، استثمرت العديد من الشركات الصينية المملوكة للدولة، إلى جانب شركات صينية خاصة أخرى، بشكل مباشر أو غير مباشر في مستوطنات الاحتلال أو الشركات العاملة فيها.
فعلى سبيل المثال، في عام 2014 استحوذ تكتل “برايت فود” الصيني الحكومي على حصة 56% من شركة تنوفا وهي شركة كبرى لإنتاج الأغذية تعمل في مستوطنات غير شرعية على الرغم من الدعوات الدولية لمقاطعة الشركة.
وفي عام 2021، فازت تنوفا بمناقصة لتشغيل 22 خطًا للنقل العام تخدم 16 مستوطنة في تجمع ماتيه يهودا الاستيطاني وجميعها مبنية على أراضٍ محتلة في القدس الشرقية والضفة الغربية.
هذه ليست مجرد حافلات، إنها بنية تحتية تدعم الترسيخ الاستعماري، مما يجعل حياة المستوطنين أسهل وأكثر ديمومة.
ومن الأمثلة الأخرى استحواذ مجموعة فوسون الصينية عام 2016 على شركة أهافا، وهي علامة تجارية لمستحضرات التجميل تُصنّع في مستوطنة متسبيه شاليم، وقد سبق للجمعية العامة للأمم المتحدة أن صنفت أهافا، المستهدفة بحملة مقاطعة عالمية، كجزء من مشروع الاستيطان غير القانوني.
وفي الوقت نفسه، يواصل الدبلوماسيون الصينيون دعواتهم للاحتلال لوقف توسعه الاستيطاني، ففي أواخر عام 2023، صرّح السفير السابق تشانغ جون لمجلس الأمن الدولي قائلاً أن بلاده تحث دولة الاحتلال “على كبح جماح عنف المستوطنين المتزايد في الضفة الغربية، لتجنب بؤرة التوتر المصاحبة له وانتشار الصراع”.
وكرّر خليفته، فو كونغ، هذه الرسالة، داعياً الاحتلال إلى “وقف أنشطته الاستيطانية غير القانونية في الضفة الغربية”.
ولكن ماذا عن تورط الصين في هذه الأنشطة بالذات؟ تُصدر وكالة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان تقارير منتظمة عن الشركات المتورطة في أنشطة متعلقة بالمستوطنات، ومع ذلك تواصل الشركات الصينية هذا التعاون.
ووفقاً للعديد من قرارات الأمم المتحدة، تُشكّل مستوطنات الاحتلال انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي، وتتعارض تصرفات الصين بشكل مباشر مع المبادئ القانونية التي تدّعي دعمها.
وفي حين تُعرب بكين عن معارضتها للنشاط الاستيطاني، تُعزز علاقاتها الاقتصادية مع دولة الاحتلال التي أسست الاستعمار الصهيوني، على حساب الحقوق الفلسطينية.
والأمر الأكثر إثارة للقلق هو مدى فعالية هذه الاستثمارات في البقاء خفيةً عن الأنظار، مُعززةً بذلك نظام الفصل العنصري بهدوء، بينما تتحدث بكين عن دولة فلسطينية مستقلة.