بقلم هانا ديفيس
ترجمة وتحرير نجاح خاطر
من منزلها في وسط مدينة النبطية التاريخي، كانت أمينة بيطار تنظر مع أفراد عائلتها إلى المنازل والمحلات التجارية المحيطة بهم وهي تنهار وتتحول إلى أكوام من الأنقاض المتفحمة، لقد بقيت هذه العائلة مع نحو سبع عائلات أخرى عالقة في المدينة الجنوب لبنانية دون أن تجد مكاناً تذهب إليه مع تواصل قصف الاحتلال العنيف.
أخذت أمينة، 31 عامًا، تشير إلى الشقوق الكبيرة في الجدران الحجرية التي يبلغ عمرها 100 عام في منزلها وإلى ألواح النوافذ التي حطمتها الانفجارات الناجمة عن غارات الاحتلال وأفرغت أطرها المزخرفة على الطراز العثماني.
صعدت أمينة إلى الشرفة، حيث كان حجم الضرر الذي لحق بحيها واضحاً، فعبر الشارع مباشرة، يمكن رؤية حفرة عملاقة حيث كان منزل جارتها ذات يوم، وإلى اليسار، علقت سيارتان في كومة من الحطام المتفحم، كان زجاج نوافذ السيارتين قد تحطم وأبوابهما مفتوحة جزئياً.
وعلى الرغم من قوة الانفجارات القريبة، كانت الأعشاب المزروعة في أواني على الشرفة لا تزال على قيد الحياة، نفضت أمينة الغبار عن نبتة ريحان وقطفت إحدى أوراقها لتستنشق رائحتها، وبينما كانت تفعل ذلك، حلقت طائرة حربية إسرائيلية فوقها.
صرخت أمينة: “طائرة حربية”، وهرعت إلى الطابق السفلي، وبعد دقائق، هز انفجار مدوٍ الجدران الحجرية بسبب غارة قريبة من المكان بينما كانت أمينة مع والدها وخالتها وشقيقها مجتمعين في الردهة.
ومنذ تصعيد الاحتلال لعدوانه على لبنان في 23 سبتمبر/أيلول، تعرضت النبطية لقصف بغارات جوية شبه يومية.
وتسببت الغارات التي شنها الاحتلال ليلة 12 أكتوبر/تشرين الأول في اندلاع حريق هائل، مما أدى إلى حرق العديد من المتاجر والمنازل في السوق العثماني بالكامل، وفي 16 من ذات الشهر، قصفت مقاتلات الاحتلال مبنى بلدية النبطية، مما أسفر عن استشهاد 16 شخصاً، بينهم رئيس بلدية المدينة، والعديد من أعضاء المجلس البلدي وعناصر الدفاع المدني اللبناني.
وقالت أمينة لموقع ميدل إيست آي: “أصلي من أجل انتهاء الحرب، لقد سئمت من كل شيء، كل يوم أشعر بالتوتر، صحتي العقلية ليست جيدة، لا أحد يشعر بالاسترخاء في منزله”.
“الشخصية المميزة للنبطية”
خارج منزل عائلة أمينة، بدت شوارع وسط مدينة النبطية المعروفة بازدحامها فارغة تماما، وظهرت من تحت أكوام الأنقاض الكبيرة الأعلام اللبنانية وملابس الأطفال والأزياء الرياضية التي كانت معلقة في عروض للبيع منذ فترة ليست بالبعيدة.
ويُعتقد أن سوق النبطية التاريخي يعود إلى العصر المملوكي، الذي انتهى في أوائل القرن السادس عشر، وعند عام 1910، تم تجديد المباني على الطراز العثماني الحديث.
ومنذ أكثر من مائة عام، اعتاد الباعة التجمع في سوق المدينة الأسبوعي، الذي يقام كل يوم اثنين والواقع في وسط المدينة على مفترق طرق يربط بين الطرق المختلفة داخل وخارج النبطية، والذي كان يجذب السكان المحليين والوافدين من المدن والقرى المجاورة على حد سواء.
وقال مهند الحاج علي، المحلل السياسي اللبناني في مركز كارنيغي للشرق الأوسط، لميدل إيست آي: “كان السوق في النبطية هو الشخصية المميزة للمدينة، فعبر التاريخ، كان سوقاً يأتي إليه الناس من جميع أنحاء المنطقة”.
وأردف الحاج علي وهو من مدينة النبطية: “كان السوق قلب النشاط الاقتصادي، وتدميره هو جزء من حملة إسرائيلية أوسع نطاقاً لتدمير قدرة هذه المدن والبلدات على العودة إلى الحياة، وبالنسبة لي، فإن تدمير سوق النبطية يشبه قيام شخص ما بإزالة جزء من ذكرياتي جراحياً ومحوها في جزء من الثانية”.
” كل شيء كان لذيذاً”
قبل تدمير الاحتلال للسوق، كانت البهارات والمكسرات واللحوم والفواكه والخضروات الطازجة والعطور والملابس وغيرها من السلع تعرض كل يوم إثنين، وكان المتسوقون يتجولون في الممرات الخارجية المزدحمة، وكان بعضهم يشرب السحلب أو يأكل مشاوي الكباب.
وبالعودة إلى أمينة، فقد قالت مبتسمة: “كان كل شيء لذيذًا في السوق، الدجاج واللحم والفلافل، أي شيء تريده، لقد أحببت كل الحلويات”.
كانت أمينة تعمل في صالون لتصفيف الشعر في مكان قريب، وقالت إنه كان مفتوحًا للزبونات منذ ما يقرب من 31 عاماً، وكان والدها عفيف جزارًا، وكان يقضي أيامه في السوق يبيع اللحوم.
واشتهرت النبطية بلحومها، وخاصة اللحم بعجين أو الصفيحة حيث يصف السكان المحليون صفيحة النبطية بأنها أصغر حجماً وأكثر عصارة من الصفيحة أي مكان آخر في لبنان.
وقال عفيف: “قبل الحرب، كان كل ما يمكن أن تحلم به موجودًا هناك، لكن الآن لم يعد هناك شيء، لا يمكنك العثور على أي شيء”.
“إلى أين نذهب؟”
وفي سيارة مرسيدس بنز مغبرة من التسعينيات، كان حسن علي صفوي، 57 عامًا، يقود سيارته حول الطرق المغطاة بالأنقاض وسط المدينة القديمة، لقد عمل صفوي سائق سيارة أجرة في النبطية لمدة 40 عاماً تقريباً، حيث اعتاد أن يلتقط الركاب وينزلهم حتى الساعات الأولى من الصباح.
أما الآن، فيتجول صفوي حول المدينة المدمرة، ويسلم الخبز والدواء لمن بقي خلفه، بمن فيهم عائلة بيطار.
دمرت غارات الاحتلال مسلخ عفيف، ولم يعد يستطيع تحمل تكلفة شراء البنزين لسيارته، فأصبح يعتمد الآن على صفوي لإحضار الخبز والجبن المطبوخ والأطعمة المعلبة، التي تقتات عليها الأسرة.
وفي 25 أكتوبر/تشرين الأول، أعلنت المفوضية العليا للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين أن حوالي خمس سكان لبنان نزحوا وأن جميع الملاجئ التي أنشأتها الحكومة والتي يبلغ عددها 1059 ملجأ قد امتلأت بكامل طاقتها.
وقال عفيف إنه متردد في الذهاب إلى ملجأ للنازحين لأنه يخشى ألا يكون هناك مكان له ولابنيه وشقيقته، وتساءل: “إلى أين نذهب؟”.
كما أصبح صفوي هو الوصي بحكم الأمر الواقع على جاره أسعد بيطار البالغ من العمر 90 عامًا، والذي جلس صامتًا في مقعد الركاب، كانوا يحتفظون بموقد كاز وبطانيات في المقعد الخلفي لاستخدامها إذا أحسوا بخطورة العودة إلى المنزل واضطروا للتخييم في الخارج.
وقال صفوي لميدل إيست آي أنه حاول أيضًا دخول ملاجئ النازحين عدة مرات، ولكن في كل مرة لم تكن الظروف مناسبة له أو لأسعد، الذي يحتاج إلى حمام قريب ولا يستطيع صعود الدرج.
وأضاف: “ذهبت إلى الكثير من الملاجئ، لكن لم يكن هناك ماء، تحتاج إلى شراء الماء وتضطر إلى النوم في مساحة صغيرة جداً، على الأقل في منزله في النبطية كان لا يزال لديه مياه جارية وكهرباء، هنا حرب وهناك حرب، ولكن على الأقل هناك ماء”.
“قديم جدًا وجميل للغاية”
وبينما كان صفوي يقود سيارته حول الطرق التاريخية في النبطية، السوق القديمة قائلاً: “لقد كانت قديمة جدًا وجميلة للغاية، كانت جزءًا من تراثنا”.
“أخشى العودة إلى مكان لم أعد أعرفه، مجرد قطعة أرض مسطحة يجب أن أتذكر كيف كانت في السابق، حيث تم محو الأماكن التي قضيت فيها وقتًا مع الأشخاص الذين أعرفهم تماماً أو الذين كانوا جزءاً من حياتي، والدي وجدي، إنه لأمر مؤلم أن نرى ذلك” – مهند الحاج علي، محلل
مر صفوي بسيارته عبر ساحة مفتوحة وقال أن الاحتفالات بعاشوراء كانت تُقام فيها حيث يحتفل المسلمون الشيعة عادة بهذه المناسبة، وإلى يساره، أشار إلى متجر يستورد الملابس من سوريا، ثم استدار حول الزاوية، حيث كانت لافتة “حلويات السلطان” لا تزال مرئية فوق الأنقاض.
وقال الحاج علي، في إشارة إلى الدمار الهائل الذي لحق بالمواقع التراثية والمرافق الصحية ومراكز الإنقاذ والبنية التحتية الأخرى في النبطية وحول لبنان: “على مستوى أوسع، هذا هو نهج غزة، إنه تدمير منهجي يستهدف الشيعة اللبنانيين الذين لم يتم تهجيرهم قسراً داخل البلاد”.
وأضاف: “اتجاه الأمور غير واضح، ولا يوجد رد فعل من المجتمع الدولي، وخاصة الولايات المتحدة، فلدى إسرائيل حرية كاملة في تصميم الحقائق في المنطقة بالعنف، بطرق عنيفة وغير مقيدة حقاً”.
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)