العدوان على النبطية.. عمال الإنقاذ في الصفوف الأمامية لمواجهة اعتداءات الاحتلال على لبنان

على قمة تل في مدينة النبطية جنوب لبنان، وقف عمال الإنقاذ على أهبة الاستعداد للتعامل مع غارات الاحتلال الجوية، وعلى مد بصرهم امتد الدمار وتحولت المنازل وأماكن العمل وسوق المدينة الذي يبلغ عمره ألف عام تقريبًا إلى أكوام من الأنقاض المتفحمة.

قضى عمال الإنقاذ الليلة والنهار السابقين في التدافع لإطفاء الحرائق بعد أكثر من 10 غارات إسرائيلية على المدينة الجنوبية الصغيرة في أقل من 24 ساعة.

كانت سيارات الإسعاف وشاحنات الإطفاء ومركبات الإنقاذ الأخرى متوقفة في مكان قريب، وتضررت بعض المركبات في الغارات وتصدع زجاجها الأمامي، وتضررت أبوابها، واستبدلت النوافذ أحيانًا بألواح من البلاستيك الشفاف.

وذكر رئيس قوة الدفاع المدني في النبطية حسين فقيه أن العديد من مركبات الإنقاذ تضررت في 16 أكتوبر، عندما قصفت إسرائيل وسط النبطية، المدينة الرئيسية في منطقة جبل عامل، بغارات جوية متتالية.

كما استهدفت الغارات مبنى بلدية النبطية مما أسفر عن استشهاد رئيسها وما لا يقل عن 15 آخرين، وإصابة 52 شخصًا.

في ذلك اليوم، سارع فقيه وفريقه لمساعدة الضحايا، وبينما كانوا يقومون بانتشال الجثث من بين الأنقاض، ضربت غارة جوية مبنى مجاورا، مما أدى إلى إصابته هو وستة من زملائه.

قضى فقيه البالغ من العمر 52 عامًا، 18 يومًا في المستشفى بينها سبعة أيام في العناية المركزة بسبب جروح خطيرة في الرأس والرئتين، وبعد أيام قليلة من خروجه من المستشفى، عاد بالفعل إلى العمل.

“يتعين علينا مواصلة عملنا، على الرغم من أن ما يحدث غير مقبول، لا يوجد احترام لحماية عمال الإنقاذ أو الطواقم الطبية، نحن نعاني من خسارة كبيرة لأن هؤلاء الرجال أبطال بكل معنى الكلمة ” – حسين فقيه، رئيس الدفاع المدني في النبطية

وحتى 25 أكتوبر/تشرين الأول، قتلت اعتداءات الاحتلال ما لا يقل عن 163 من العاملين في مجال الصحة والإنقاذ في مختلف أنحاء لبنان، وألحقت أضراراً بـ 158 سيارة إسعاف و55 مستشفى، وفقاً لوزارة الصحة اللبنانية.

وفي 16 أكتوبر/تشرين الأول، نفذ طيران الاحتلال هجوما آخر على بعد 40 متراً فقط من مركز للدفاع المدني في النبطية، مما أدى إلى إصابة ثلاثة من عمال الإنقاذ واستشهاد ناجي فحص البالغ من العمر 30 عاماً.

وقال فقيه وهو يتذكر صديقه وزميله الشهيد بتنهيدة هادئة: “كان لديه طفلان، نحن نعاني من خسارة كبيرة، لأن هؤلاء الرجال أبطال بكل المقاييس”، واستدار فقيه وهو يختنق لالتقاط أنفاسه قبل أن يتمكن من مواصلة المقابلة.

وبعد بضع دقائق، استدار مجددا وقال: “على الرغم من الضربات، والعقبات التي تحدث، وكل المعاناة، لا يزال عمال الدفاع المدني حاضرين، ويعتمد المواطنون علينا لإنقاذهم”.

“كل يوم يصبح عملنا أكثر صعوبة”

يرأس فقيه عمليات الإنقاذ في 21 مركزًا للدفاع المدني تقع في مدن مختلفة في جميع أنحاء محافظة النبطية الجنوبية، تشمل صلاحياتها العديد من البلدات الحدودية التي دمرتها غارات الاحتلال الجوية وغزوه البري.

وأفادت وكالة الأنباء الوطنية اللبنانية في 5 نوفمبر/تشرين الثاني أن جيش الاحتلال دمر 37 قرية في جنوب لبنان ودمر أكثر من 40 ألف وحدة سكنية، في منطقة بعمق ثلاث كيلومترات على طول الحدود.

ووفقًا لوزارة الصحة اللبنانية استشهد ما لا يقل عن 3243 شخصًا في لبنان منذ بدء القتال بين إسرائيل وحزب الله في أكتوبر/تشرين أول من العام الماضي، معظمهم منذ 23 سبتمبر/أيلول، عندما شنت قوات الاحتلال حملة قصف واسعة النطاق في جميع أنحاء لبنان وغزواً برياً لجنوبه.

ومع ارتكاب المزيد من هجمات الاحتلال المباشرة على طلائع المستجيبين، قال فقيه أن عملهم أصبح قاتلاً بشكل متزايد، وأضاف: “كل يوم يصبح عملنا أصعب من اليوم السابق”.

وأشار إلى أن 13 من أفراد الدفاع المدني العاملين في جنوب لبنان قد استشهدوا وأصيب حوالي 46 منذ بدء القتال.

ويقدر فقيه أن استهداف إسرائيل المباشر لعمال الإنقاذ قد زاد منذ 9 سبتمبر/أيلول، عندما قتلت غارة ثلاثة مسعفين تم تشخيصهم بوضوح أنهم كانوا يعملون على إطفاء الحرائق في بلدة فرعون الجنوبية.

وهدد جيش الاحتلال في مناسبات عديدة باستهداف سيارات الإسعاف في جنوب لبنان، متهماً إياها بنقل مقاتلي حزب الله والأسلحة.

ووثق تقرير حديث لمنظمة هيومن رايتس ووتش ثلاث هجمات قامت خلالها قوات الاحتلال بضرب العاملين في المجال الطبي ووسائل النقل والمرافق الطبية “بشكل غير قانوني”، دون أن تجد المنظمة أي دليل يشير إلى استخدام هذه المرافق لأغراض عسكرية وقت الهجوم.

وعلى مدار 24 ساعة، في 9 و10 نوفمبر/تشرين الثاني، أدت غارات الاحتلال على نقاط تجمع المسعفين ومراكز الدفاع المدني إلى استشهاد 10 من عمال الإنقاذ من الكشافة الإسلامية التابعة لحزب الله والجمعية الصحية الإسلامية.

وأكدت هيومن رايتس ووتش في تقريرها أن العضوية أو الانتماء إلى حزب الله، أو أي حركات سياسية أخرى ذات أجنحة مسلحة، لا يشكل أساسًا كافيًا لتحديد فرد ما كهدف عسكري شرعي.

وقالت هيومن رايتس ووتش: “يتعين على الجيش الإسرائيلي أن يوقف على الفور الهجمات غير القانونية على العاملين في المجال الطبي والمرافق الصحية، ويتعين على حلفاء إسرائيل تعليق نقل الأسلحة إلى إسرائيل نظرًا للخطر الحقيقي المتمثل في استخدامها لارتكاب انتهاكات جسيمة”.

وقال فقيه إن فرق الإنقاذ التابعة له “تعيد التمركز والانتشار باستمرار” لتجنب أي هجوم يؤدي إلى سقوط أعداد كبيرة من الضحايا بين عمال الإنقاذ، كما تنتظر فرقه عادة خمس دقائق قبل التحرك إذا لم يكن هناك مدنيون مؤكدون في مكان الضربة.

وأضاف: “يجب علينا حماية هؤلاء الطلائع من المستجيبين حتى يتمكنوا من الاستمرار في إنقاذ الآخرين”.

وحدة الحروق

وغالبًا ما يسارع فقيه وفرقته إلى نقل الأشخاص الذين ينقذونهم في مدينة النبطية والمناطق المحيطة بها بالسيارات إلى مستشفى نبيه بري العام، على بعد بضع دقائق من نقطة المراقبة الخاصة بهم على قمة التل.

وقال مدير المستشفى حسن الوزاني أن المستشفى عالج حوالي 1200 شخص أصيبوا في هجمات الاحتلال منذ أن صعد هجماته في 23 سبتمبر/أيلول في جميع أنحاء لبنان، وقد كان فقيه أحد هؤلاء المرضى.

“يتعين علينا انتشال جثث شهداء لأحبابنا وأصدقائنا ولعائلات نعرفها ولجيران وسكان من منطقتنا” – حسين جابر، الدفاع المدني

وأوضح الوزاني أن المستشفى الذي يضم إحدى وحدتي الحروق الرائدتين في البلاد “يعالج ضحايا غارات الاحتلال الذين غالبًا ما يعانون من حروق شديدة بالإضافة إلى إصابات في الرأس والبطن والساقين والذراعين”.

وداخل وحدة الحروق، كان محمد أحمد نزار البالغ من العمر 29 عامًا يتلقى العلاج من حروق من الدرجة الثانية والثالثة في جميع أنحاء جسده كما مزقت قطعة كبيرة من الشظايا ساقه اليمنى، مما تطلب إخضاعه إلى جراحة من عدة غرز.

بدا صوته خافتًا وكان يعاني من الألم أثناء حديثه لميدل إيست آي التي سبق لها أن القت النظر عليه في ذات المستشفى لأول مرة في 7 نوفمبر/تشرين الثاني، حيث كان يعاني من آلام شديدة لدرجة أنه لم يستطع نطق كلمة واحدة.

وقبل حوالي ثلاثة أسابيع، كان نزار وصديقاه في المنزل يعدون العشاء لجيرانهم في قريتهم عرب سليم، على بعد حوالي 10 كيلومترات من مدينة النبطية.

لقد اعتاد الشبان على تقديم الطعام كل يوم تقريبًا لهؤلاء الأشخاص، الذين قال نزار إنهم “تُرِكوا” ولم يكن لديهم عائلة أو أقارب لرعايتهم، ولكن في ذلك المساء قاطع عملهم الخيري صاروخ إسرائيلي سقط على المنزل المجاور وأشعل النيران في منزلهم.

وأوضح نزار: “في اللحظة التي أُصبنا فيها، شعرت بضغط الهواء، وفجأة فقدت كل حواسي، فقدت الرؤية، فقدت كل شيء”.

استشهد في الغارة أحد أصدقاء نزار ويدعى علي، وكان في سنه تقريبًا، أما نزار إنه سيعود إلى عرب سليم بمجرد شفائه، وأضاف: “إنها قريتي، وما يحدث أمر مخيف، لكن ليس لدينا مكان آخر نذهب إليه”.

“سئمتُ من كوني قويًا”

في الغرفة المجاورة لنزار، كان سعدون بركات، 52 عامًا، يرقد في وحدة الحروق في المستشفى منذ أكثر من شهر، وكانت الحروق من الدرجة الثانية والثالثة تكسو ذراعه اليسرى التي بقيت ملفوفة بضمادات ثقيلة، وكان الدم متقشرًا في نهاية الضمادة، حيث ظهرت بعض أصابعه.

ويوم 24 سبتمبر/أيلول، أصابت غارة جوية إسرائيلية منزل بركات في قرية مرجعيون الجنوبية، حيث قال شقيقه خالد، الذي كان يجلس بجانبه في غرفة المستشفى، إن الحروق في البداية جعلت من غير الممكن التعرف على سعدون.

عرض خالد على فريق ميدل إيست آي صورة لبركات بعد وقت قصير من الغارة وكان وجهه أرجوانيًا داكنًا وعيناه متورمتان مغلقتان.

وقال بركات من سريره في المستشفى: “كان هناك ألم حارق، عندما ضرب الصاروخ لأول مرة كان الأمر أشبه بالجحيم”.

وبالعودة إلى الوزاني، مدير المستشفى، فقد أشار إلى أن تكلفة الإقامة الطويلة في المستشفى، لمن هم في حال مثل بركات، ستكون باهظة إذا لم تغطها وزارة الصحة، فعلى سبيل المثال، قال إن تكلفة يوم واحد في وحدة الحروق تبلغ حوالي 500 دولار.

وأعرب المدير عن قلقه من ألا يتمكن المستشفى من تحمل التكاليف لفترة طويلة قائلاً: “لا أعرف ما إذا كان لدى الحكومة المال في المستقبل، نحن في أزمة اقتصادية”.

وفي الوقت نفسه، تهز الانفجارات الصوتية التي تطلقها الطائرات الإسرائيلية التي تخترق حاجز الصوت نوافذ المستشفى كل يوم تقريبًا.

وذكر علي عميس، مشرف المستشفى أن أصوات الانفجارات في محيط المكان تتسبب في إصابة بركات بنوبات ذعر لأنها تشبه صوت الانفجار الذي أصيب فيه.

فبعد أسبوع واحد فقط من دخول بركات المستشفى، تسببت قوة ضربة على بعد كيلومتر واحد في النبطية في سقوط أجزاء من السقف أمام سريره في المستشفى، مما أصاب الجريح بصدمة حقيقية.

وأوضح عميس أن العقاقير الثقيلة فقط مثل المورفين والألبرازولام (دواء للقلق) يمكن أن تخفف من آلام بركات الشديدة وذعره.

وفي الطريق إلى أسفل وحدة الحروق، علق عميس على الإرهاق الجسدي والنفسي الذي يعاني منه طاقم المستشفى بسبب الحرب والأزمات المتتالية في لبنان قائلاً: “لقد سئمنا من كوننا أقوياء، من كوفيد، والأزمة المالية، والآن هذه الحرب”.

نحن جميعا نعاني

وعند قمة التل، تحدث زملاء فقيه أيضاً عن الضغوط النفسية الهائلة التي كانوا يتعرضون لها، فقال حسين جابر، 30 عاماً، من الدفاع المدني في النبطية، لـ “ميدل إيست آي”: “عقلياً، نحن جميعاً نعاني”.

وأضاف: “نحن نعاني من نقص الاستقرار، نحن دائماً في حالة تنقل، ولا نستطيع النوم جيداً، ونُوضَع في مواقف صعبة”

ومن خلف سيارة الإسعاف، أخرج جابر بدلة إطفاء ممزقة وخوذة مكسورة، وقال إنها كانت معدات ناجي فحص، التي كان يرتديها عندما استشهد في 16 أكتوبر/تشرين الأول.

وتابع جابر: “نحن نقوم بوظائفنا ونشعر بالمسؤولية عن إنقاذ أرواح الناس، ومع ذلك فإننا في خوف كبير لأننا مستهدفون أيضًا”.

وبعد انتهاء المحادثات، ساد الصمت فوق قمة التل، ولم يكسره سوى همهمة طائرة بدون طيار إسرائيلية مميتة، ونظر عمال الإنقاذ في نفس الوقت إلى السماء، محاولين تحديد موقعها. 

للإطلاع على النص الأصلي من (هنا)

مقالات ذات صلة