بقلم جورجيو كافيرو
في الوقت الذي بدأ يتراجع فيه الحديث بكثافة عن الصراع السوري في وسائل الإعلام الدولية، نرى تصاعداً مستمراً في عودة نظام الأسد إلى الاندماج شيئاً فشيئاً في الحظيرة الدبلوماسية العربية إن صح التعبير، فمنذ أواخر عام 2018، قامت مجموعة من الدول الإقليمية بتطبيع العلاقات مع دمشق، وتعد زيارة الرئيس السوري للإمارات في مارس 2022، مثالاً على الكيفية التي يريد بها قادة عرب إخراج دمشق من عزلتها إلى حضنها الدافئ.
ترى دول مثل الإمارات والبحرين والأردن في إعادة القبول بشرعية النظام السوري وترك ما مضى حلاً براغماتياً مناسباً
رغم ذلك، لا يزال من السابق لأوانه التنبؤ بكيفية تأثير الزلزال الأخير الذي ضرب سوريا وتركيا على مسار إعادة اندماج سوريا في المنطقة، لكن يبقى ما حصل من تنسيق المساعدات لضحايا الزلزال عبر الحكومة السورية مؤشراً على الاستعداد لخطوات لاحقة، تحت ذريعة أن تطبيع العلاقات مع الأسد والعمل مع حكومته عن قرب مهم لدواعي إنسانية، بل ومن المرجح أن يضموا أصواتهم إلى دعوات الغرب لتخفيف العقوبات لمساعدة متضرري الزلزال من السوريين، والذين كان يعيش 90% منهم تحت خط الفقر أصلاً قبل الزلزال، واليوم بات 5.3 مليون سوري تقريباً بحاجة إلى مأوى.
في 12 فبراير الماضي، التقى وزير الخارجية الإماراتي، عبد الله بن زايد، ببشار الأسد في دمشق، في أول زيارة لمسؤول أجنبي رفيع المستوى يلتقي الأسد بعد الزلزال، فيما سارع ملك البحرين، الذي أعاد العلاقات الدبلوماسية مع دمشق مع الإمارات في 2018، بالإعراب عن تضامنه مع الشعب السوري في ظل محنة الزلزال، وذلك بتقديم التعازي لبشار الأسد!
خيار براغماتي
ترى دول مثل الإمارات والبحرين والأردن في إعادة القبول بشرعية النظام السوري وترك ما مضى حلاً براغماتياً مناسباً، بحجة إبعاد سوريا عن التبعية لإيران مقابل قرب أكبر من الحضن العربي، وهو توجه إقليمي لا توافق عليه واشنطن وإدارة بايدن على وجه الخصوص حتى الآن، حيث ندد مشرعون أمريكيون بذلك معتبرين العلاقة مع الأسد أمراً “مخزياً”، وهو موقف ما انفكت واشنطن تؤكد عليه مراراً وتكراراً.
في يناير 2023، أكد المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية، نيد برايس، أن فريق بايدن لا يتفق مع دول المنطقة فيما يتعلق “بتحسين علاقاتها أو التعبير عن دعمها لإعادة تأهيل الديكتاتور الوحشي بشار الأسد”، وفي أعقاب الزلزال، أكد برايس مرة أخرى أن الكارثة لن تغير موقف الولايات المتحدة باعتبار حكم الأسد غير شرعي، قائلاً “سيكون من المفارقات، إن لم يتسبب بنتائج عكسية، أن نتواصل مع حكومة عاملت شعبها بوحشية، بدلاً من ذلك، فإن لدينا شركاء إنسانيون على الأرض يمكننا تقديم الدعم من خلالهم”.
في الوقت نفسه، من غير المحتمل أن تترجم تصريحات واشنطن إلى إجراءات ملموسة لإعاقة دول عربية أو تركيا عن التصالح مع دمشق، ولا يوجد سبب لتوقع أن تستخدم واشنطن بطاقات ضغط أخرى مثل تقييد مبيعات الأسلحة أو فرض عقوبات لثني هذه الدول عن التطبيع مع نظام الأسد.
عقوبات قيصر
يعد قانون قيصر أقوى أشكال الضغط الأمريكية للتأثير على علاقات سوريا مع الدول العربية، لأن القانون، الذي طبقته إدارة ترامب عام 2020، لا يفرض عقوبات شديدة على سوريا فحسب، وإنما يعاقب أيضاً أطرافاً ثالثة على التجارة أو التعامل مع دمشق، وفي ظل إدارة بايدن، ظل القانون ساري المفعول، الأمر الذي أعاق تطوير العلاقات الاقتصادية مع سوريا والحد من مشاريع التنمية، في الواقع، منع إعادة إعمار سوريا في ظل الأسد هو الهدف الأمريكي الأساسي من وراء القانون.
ويرى أستاذ التاريخ في جامعة ميتشيغان الأمريكية، خوان كول، أن “موقف الولايات المتحدة يعني أنه لا يجب إعادة بناء سوريا بعد الحرب، فالعقوبات تلحق الضرر بالمدنيين السوريين بالدرجة الأولى، هذا موقف مفسد، ليس من مصلحة أحد أن يعيش السوريون في هذا البؤس”.
القانون أدى إلى تفاقم المعاناة الإنسانية في سوريا بلا شك، لكن اللافت في كلام منتقدي إدارة بايدن هو أنها لم تكن تطبقه بصرامة أصلاً كعقوبة شاملة، ففي مطلع 2023، نقلت مجلة “المونيتر” تعليقاً لأحد أعضاء الكونغرس من الجمهوريين أشار فيه إلى أن “مجلس النواب سيمارس مزيداً من الضغط على بايدن لتطبيق قيصر بصرامة أكبر”.
سوريا تحتل مرتبة متدنية للغاية في سلم أولويات سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط في الوقت الحالي
عقب كارثة الزلزال، وبعد يوم واحد من إصدار بايدن إعفاء من العقوبات لتسهيل إيصال المساعدات الإنسانية المتوجهة إلى سوريا لست شهور، أعرب بعض الجمهوريين عن غضبهم من الإعفاء، وأصدر رئيس لجنة الشؤون الخارجية بمجلس النواب، مايكل ماكول، بياناً زعم فيه أن “الإعفاء يسمح بالمعاملات المباشرة مع نظام الأسد ويفتح الباب أمام النظام لسرقة المساعدات ولتبرير مسار التطبيع مع دمشق لاحقاً”.
ومع ذلك يظل التساؤل مطروحاً حول ما إذا كانت واشنطن ستعاقب دول الخليج أو غيرها لخرقهم العقوبات بشكل منفرد قبل الزلزال، هل ستطبق عقوبات قيصر على حليف مثل تركيا أو الإمارات إذا اكتشفت أن هناك تبادلاً تجارياً لها مع دمشق؟ لا يبدو أن واشنطن على استعداد لتنفيذ تهديداتها، وبذلك لا يقف القانون عملياً في طريق إعادة منح الشرعية لنظام الأسد سواء بتحركات دبلوماسية أو تجارية واقتصادية.
أولويات الولايات المتحدة
لن تغير واشنطن علاقاتها الثنائية مع دول أو حلفاء بسبب تقاربها مع الأسد، لأن الأمر يتعلق ابتداء بأولويات واشنطن، حيث ينصب تركيز السياسة الخارجية لإدارة بايدن على تعزيز وحدة الناتو ضد روسيا بسبب حربها مع أوكرانيا، ومواجهة الصين، ومعالجة الملف النووي الإيراني.
يرى مدير مركز دراسات الشرق الأوسط في جامعة دنفر، نادر الهاشمي، أن “سوريا تحتل مرتبة متدنية للغاية في سلم أولويات سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط في الوقت الحالي، بعد هزيمة داعش، لم تعد سوريا ذات أهمية لدى إدارة بايدن، فهو مشغول بأزمات أخرى”، ويضيف “من وجهة نظر نظر البيت الأبيض، فإن استمرار رئاسة الأسد لن تؤثر على المصالح الأمريكية، الأمريكيون يدركون ضعف حكومة دمشق ومقدار فسادها، ولذلك تبدو راضية من بعيد عن التطبيع مع سوريا بشكل أو بآخر”.
لا يوجد عواقب سلبية
بصورة أوضح، يمكن القول أن إدارة بايدن تفتقر إلى سياسة خارجية متماسكة تجاه سوريا، فهي بالنسبة لها “مشكلة شريرة”، عبرت الولايات المتحدة عن مخاوفها وآمالها تجاهها مع إبقائها بعيدة عن أجندة الأولويات الاستراتيجية، خاصة وأن واشنطن لا تريد أن يؤثر ذلك على مصالحها في الشرق الأوسط.
الخيار الأكثر الواقعية بالنسبة لواشنطن هو الحوار والمناقشات مع شركائها الأمنيين في الشرق الأوسط حول إيجابيات وسلبيات إعادة العلاقة مع نظام الأسد، ومن جهة أخرى، فإن الولايات المتحدة هي الضامن للأمان والتجارة والحرة والمرور في الشرق الأوسط، وليست من مصلحتها بمكان أن تستخدم وسيلة ضغط قد تقوض وضعها الاستراتيجي العام في المنطقة.
ستظل سوريا ذات أولوية منخفضة لدى الولايات المتحدة في عام 2023، إلا أن مكانة الأسد هي نقطة الخلاف بين واشنطن وحلفائها العرب بالإضافة إلى تركيا، ومن منطلق سيادتها كدول لأنها تتجاهل دعوة الولايات المتحدة لعدم التطبيع مع نظام الأسد، بسبب خوفها من تأثيرات وطنية سلبية مع استمرار بقاء الأسد معزولاً.
يؤكد مسار دول عربية وإقليمية نحو التطبيع مع نظام الأسد، على إدراك تلك الدول، يوماً بعد يوم، أنها يجب أن تسعى وراء مصالحها الخاصة وإن لم يوافق ذلك توجه الولايات المتحدة، وبالمقابل، فإن تخلي واشنطن عن استخدام نفوذها لثنيهم عن التطبيع مع الأسد، يشجعهم على مزيد من التقارب دون القلق بشأن عواقب سلبية قد تطالهم بسبب ذلك.
للإطلاع على المادة الأصلية من (هنا)