الفردوس المفقود.. هل أفصح الشعر العربي عن كل أسرار الأندلس؟

بقلم بيانكا كاريرا

ترجمة وتحرير نجاح خاطر

في قصيدته “غرناطة” التي كتبها عام 1961 وحملت اسم المدينة الإسبانية الواقعة في قلب الأندلس، يصف الشاعر السوري الكبير نزار قباني لقاءه بمحبوبته “في مدخل الحمراء كان لقاؤنا”، في إشارة إلى قصر الحمراء ومجمع الحصون في المدينة، في مشهد يذكر بزمن كان يعد عصرًا ذهبيًا بالنسبة للعرب.

تخلد الأندلس في ذكريات العرب كمنارة من نور في قارة مظلمة حيث تنتشر العجائب المعمارية ويسود الازدهار الفكري والتسامح الديني الذي نادراً ما وجد في أي مكان آخر خلال العصور الوسطى.

وينظر إلى تاريخ الأندلس أيضًا كحجة مضادة للفكرة الإمبريالية التي كانت تزعم في القرنين التاسع عشر والعشرين أن العالم العربي يفتقر إلى الحضارة.

وكغيره من الشعراء ذوي الأصول الإسلامية والعربية، وجد نزار قباني ملاذه في هذا التاريخ، وأصبحت ذكرى الأندلس تعكس مكانًا بقي فيه المجد العربي على حاله وسط حقائق الحاضر المظلمة.

ويظهر شعور قباني بالفخر بشكل موجز في القصيدة التي كتب فيها:

قالت: هنا الحمراء زهو جدودنا 

فاقرأ على جدرانها أمجادي

بالنسبة للعديد من الشعراء، من عبد الوهاب البياتي إلى محمد إقبال وأحمد شوقي وأدونيس ومحمود درويش، كانت الأندلس بمثابة صورة لأتلانتس، كواحدة من الجواهر المفقودة، والأهم من ذلك، ظهرت كنجم شمالي يمكنه أن يوجه الحضارة العربية والإسلامية إلى أمجادها السابقة بعد الأضرار التي ألحقها بها الاستعمار والنظام العربي الحديث.

كبرياء قديم

وبالرغم من فقدان المسلمين السيطرة المادية على أراضيهم في إسبانيا عام 1492 وبرغم أن المسيحيين المنتصرين كانوا يعملون بجد لمحو أي ذكرى للمسلمين، أثبت عمق الثقافة الإسلامية في شبه الجزيرة الأيبيرية أنه من الصعب مسحه من الذاكرة الثقافية الأوروبية.

كان هذا جزئيًا بسبب التأثير العميق لإسبانيا المسلمة على الفكر الأوروبي، حيث أثر علماء مثل ابن رشد على المفكرين المسيحيين السابقين لعصر الإصلاح مثل توماس الأكويني.

لقد شكلت الحضارة الإسلامية المتقدمة في إسبانيا، والتي وثقها الأوروبيون أنفسهم حجة راسخة ضد ادعاءات الإمبرياليين من القارة الذين برروا مساعيهم الاستعمارية في العالم الإسلامي في القرنين التاسع عشر والعشرين على أساس جلب الحضارة للسكان الأصليين المتخلفين.

قال الأستاذ بجامعة أريزونا ياسين نوران:” إن بريطانيا وفرنسا بررتا غزواتهما الاستعمارية بالادعاء أنهما في الواقع تحرران الشعوب المستعمَرة … وتمنحها الحضارة والتنمية الاقتصادية والحقوق والتعليم”، مضيفًا أن الأندلس “حققت فعلياً كل الأشياء التي يطالب الأوروبيون مستعمراتهم بها”.

ليس من المستغرب إذن أن الكثير من الشعراء من الهند إلى مصر، وكل البلدان التي تكافح ضد التدخل الأوروبي، قد وجدوا العزاء في نموذج الأندلس واستخدموا ذكراها لتذكير شعوبهم بالماضي الإسلامي والعربي المجيد.

وكتب نوراني في ورقته البحثية، ” الحديقة المفقودة في الأندلس: إسبانيا الإسلامية والانعكاس الشعري للاستعمار”، أن هذه الذكرى تجاوزت إلى ما هو أبعد من حدود العالم العربي.

لقد سافر الشاعر الذي كان يكتب الشعر باللغة الأوردية والفارسية والأب الروحي لدولة باكستان، محمد إقبال، إلى الأندلس خلال فترة الكفاح من أجل الاستقلال الهندي عام 1933 وصلى في مسجد قرطبة الكبير، الذي كان يُستخدم في ذلك الوقت ككاثدرائية.

وكثمرة للزيارة، خرج الشاعر إقبال بقصيدته “مسجد قرطبة”، التي يصف فيها تأثير التنوير النابع من الإسلام الأندلسي على أوروبا.

وخاض المصري المعاصر أحمد شوقي تجربة مماثلة أثناء زيارته للأندلس في وقت سابق من عام 1919.

حلم بحياة أفضل

إن إضفاء الطابع المثالي على الأندلس ليس بالظاهرة الحديثة، بل يعود إلى مئات السنين ويمتد لما قبل سقوط غرناطة في ذروة حروب الاسترداد عام 1492.

وفي القرن الثالث عشر، كتب الشاعر والباحث الأندلسي أبو البقاء الرندي، عن سقوط مدن الأندلس الإسلامية أمام تقدم القوات المسيحية في قصيدته “رثاء الأندلس”.

يتحدث الشاعر في قصيدته عن تحويل المساجد إلى كاتدرائيات وأماكن للصلاة تُركت بلا حياة، ويصف أيضاً جمال المدن التي أصبحت الآن في أيدي المسيحيين:

وطفلة مثل حسن الشمس إذ طلعت          كأنما هي ياقوت ومرجان

يقودها العلج للمكروه مكرهة                    والعين باكية والقلب حيران

لمثل هذا يذوب القلب من كمد                 إن كان في القلب إسلام وإيمان

وكتب ابن خفاجة، وهو شاعر أندلسي آخر من مواليد فالنسيا، اشتهر في القرنين الحادي عشر والثاني عشر، في قصيدته “يا أهل الأندلس”:

يا أهل أندلس لله دركم              ماء وظل وأنهار وأشجار

ما جنة الخلد إلا في دياركم          ولو تخيرت هذا كنت أختار 

كما أن فكرة الأندلس، التي عززها الشعراء الذين عاشوا في ذروة أوجها، تقدم تباينًا مع الظروف التي وجد العديد من الكتاب العرب أنفسهم فيها خلال القرن العشرين.

يقول الباحث في جامعة هارفارد، ويليام جرانارا، إن الأندلس بالنسبة للقوميين العرب تمثل فترة استقرار سياسي وتسامح وازدهار ثقافي وفكري، وتشكل “خطاباً أسطورياً يتضمن الإصرار والكفاح من أجل حياة أفضل”.

فبالنسبة للشاعر العربي في عهد قباني، كانت مصادر الفرح والفخر قليلة ومتباعدة، حيث تخلفت الدول العربية عن أوروبا من حيث التطور المادي والاستقرار السياسي.

وعلى الرغم من عمله دبلوماسياً في سنوات شبابه، أصبح الشاعر السوري منتقداً صريحاً للحكومات العربية بسبب كبتها للحريات، وعدم قدرتها على حل القضية الفلسطينية وتطوير بلدانها اقتصادياً، لتصبح الأندلس في هذا السياق رمزاً يحتذى حذوه.

وجاء في كتابات الأكاديمية والمؤلفة بكلية كونيتيكت، وعد عثامنة، أن “الأندلس كانت وستظل دائمًا تمثل الأطلال التي يبكي عليها بعض الشعراء العرب، كمسكن الحبيب الذي لم يعد هناك … إسبانيا هي الجنة المفقودة”.

ولا يزال هذا التوق إلى حياة أفضل والمتأصل في الحنين إلى الأندلس يلقي بتأثيره على أعمال الشعراء والكتاب العرب.

التحقق من الواقع

برغم ذلك، فإن التصورات المثالية عن الأندلس هي مجرد مثاليات، حيث أن مستوى توافق واقع الأندلس مع الحنين إلى الماضي هو موضع نقاش بين العلماء العرب.

فالباحث والمترجم المغربي، عبد الحق نجمي، والذي يقيم في غرناطة، يرسم أوجه التشابه بين سياسة الأندلس وإخفاقات الدول العربية اليوم.

ويقول:” نعلم أنه كان يوجد في الأندلس أيضًا ملوك الطوائف، وهم حكام مسلمون منقسمون، يقاتلون بعضهم البعض دائمًا، وفي بعض الحالات، يتحالفون مع أعداء قشتالة”.

وأضاف:” إنه ذات الأمر الذي يحدث الآن في ليبيا أو في اليمن على سبيل المثال “.

وتابع:” يقول البعض … إن العالم العربي يعيش كما لو كان تحت حكم الطوائف، فبعض الدول العربية تتحالف مع قوى خارجية لتقسيم واحتلال دول عربية اخرى “.

يضع هذا التحقق من الواقع ذاكرة الأندلس في منظورها الصحيح، ناهيك عن اعتبارها هدفًا تاريخيًا لمحاكاته، توفر الأندلس بدلاً من ذلك الأداة الأدبية المثالية للحديث عن القضايا المعاصرة.

وبصرف النظر عن الواقع، فكثيرًا ما يستدعي الشعراء تلك الأداة الأدبية للحديث عن الاستعمار أو خسارة أوطانهم، كما أوضح محمود درويش في الطريقة التي يربط بها بين خسارة فلسطين وضياع الأندلس.

وخلال مقابلة معه عام 1991 قال درويش في قصيدة له بعنوان ” الكمنجات“: 

الكمنجات تبكي مع الغجر الذاهبين إلى الأندلس

الكمنجات تبكي على العرب الخارجين من الأندلس

الكمنجات تبكي على زمن ضائع لن يعود

الكمنجات تبكي على بلد ضائع قد يعود 

ويستلهم درويش تصوره عن خسارة فلسطين من خسارة العرب لإسبانيا في عام 1492 والحنين الذي ولدته تلك الخسارة، ويقول في شعره: 

ههُنا، كيْ يَمْرَّ الْغَريبُ هناك. سَأخرُجُ بَعْدَ قَليل

مِنْ تَجاعيدِ وَقتي غَريباً عَنِ الشَّامِ وَالأَنْدَلُسْ

هذهِ الأَرضُ لَيْستْ سَمائي، ولَكِنَّ هذا الْمَساءُ مَسائي

والمفاتيحَ لي، والْمآذِنَ لي، والْمصَابيحَ لي، وأَنا

لِيَ أيْضاً. أَنا آدَمُ الْجَنَّتَيْنِ، فَقدتُهُما مَرَّتَينْ

للإطلاع على النص الأصلي من (هنا)

مقالات ذات صلة