بقلم ديفيد هيرست
ترجمة وتحرير مريم الحمد
قبل أسبوع، غرق قرابة 500 رجل وامرأة وطفل قبالة سواحل بيلوس في اليونان، رغم أن الحادث قد يبدو بشعاً إلا أن المفارقة أنه كان مجرد حدث جديد يضاف لما سبقه في أعماق البحر الأبيض المتوسط!
على متن هذا القارب المتهالك، كانت اللحظات الأخيرة، 750 شخصًا، فجأة، فقدوا حياتهم وأحلامهم إلى الأبد، عدا الناجين، الذين لم ينجوا بأي حال من الأحوال، لم يستغرق المركب إلا 15 دقيقةً ليختفي بالكامل تحت المياه، في واحدة من أعمق نقاط البحر المتوسط، كما تفيد التقارير. pic.twitter.com/NmYgmXN6x9
— يوسف الدموكي (@yousefaldomouky) June 16, 2023
نتحدث هنا عن الغرق الجماعي للاجئين الذين استقلوا قوارب موت مكتظة من سواحل ليبيا وتونس ومصر باتجاه أوروبا، الأمر الذي أصبح شائعاً لدرجة أن البحر الأبيض المتوسط لم يعد يستحق لقب “مهد الحضارة” حين تحول إلى مقبرة كبيرة، بعد أن غرق فيه أكثر من 1200 شخص خلال عام 2022، وما يقرب من 25 ألف شخص منذ عام 2014!
أصبح يمكن وصفه بالبحر القاسي، ولكن الحقيقة أن تلك القسوة منبعها الإنسان وليس البحر، ففي سواحل البحر الجنوبية هناك ديكتاتوريون ينفقون مبالغ ضخمة من أجل التسلح أو إرضاء الذات فقط، لا يهتمون بعوز بلدانهم الذي يجر المزيد كل عام من فقرائهم إلى تلك القوارب، والأمر أنهم ينشغلون بدلاً عن ذلك بمغامرات عسكرية في الخارج ويزرعون الحرب والفوضى أينما وضعت قواتهم أوزارها.
وإذا ما ذهبنا إلى سواحل البحر الشمالية، فسنجد أوروبا التي تخلت عن عمليات البحث والإنقاذ، بل ومستعدة لفعل أي شيء بما في ذلك الدفع للديكتاتوريين في الجنوب من أجل وقف تدفق المهاجرين لديها، يحاول الجانبان تجاهل الضحايا وتحذو وسائل الإعلام حذوهم في ذلك، وما عليك سوى مقارنة التغطية بين رجال الغواصة المفقودة هذه الأيام والجهود المبذولة للبحث عن المفقودين الخمسة، وبين ما حدث قبالة سواحل بيلوس اليونانية عدة مرات وسيبقى مستمراً على يبدو!
قصة مرعبة لكنها مألوفة
لقد وقعت المأساة ببطء وعلى مرأى سفينة حرس السواحل اليونانية، فقد نقلت صحيفة الصنداي تايمز عن ناجين أن خفر السواحل اليوناني لم يرسل لهم المساعدة لمدة 3 ساعات على الأقل بعد انقلاب القارب، فيما كشف تقرير لبي بي سي أن القارب نفسه لم يتحرك لمدة 7 ساعات على الأقل قبل أن ينقلب، فيما يدل أن السفينة طلبت المساعدة قبل يوم تقريباً من غرقها، أما خفر السواحل اليوناني، فقد زعم أن السفينة رفضت المساعدة.
لقد باتت هذه القصة المروعة مألوفة معتادة، ففي 26 فبراير،كانت قد تعرضت سفينة تقل 200 لاجئ تقريباً معظمهم من الأفغان، قبالة ساحل كروتوني في إيطاليا لنفس الشيء تقريباً، حتى توفي نصف من كان على متنها تقريباً، حيث تطابقت الرواية الرسمية الإيطالية مع اليونانية تقريباً في تفسير ما حدث، فقد ادعت السلطات الإيطالية أن قارب الترفيه التركي غرق بسبب الأمواج الهائجة بعد 6 ساعات من رؤيته من قبل طائرة إيطالية.
إذا كان قادة أوروبا يعتقدون أنهم قادرون على إنقاذ أوروبا من خلال المرتزقة الديكتاتوريين، وترك القوارب تغرق، فهناك مفاجأة بانتظارهم، فما زال هناك ملايين من المصريين والتونسيين والسودانيين والأفغان الذين يخططون ويدخرون من أجل نفس الرحلة!
أفادت طائرة وكالة الحدود الأوروبية “فرونتكس” بأنها عندما رأت القارب لم تكن تظهر عليه علامات تدل على مشكلة ما، ولكن كشفت سجلات رحلة الطائرة، التي حصلت عليها “لايتهاوس ريبورتس”، أن الطائرة واجهت رياحاً قوية قبل ساعتين من رصدها للقارب، وأنها التقطت “استجابة حرارية كبيرة” أسفل سطح السفينة، الأمر الذي يؤكد على وجود حمل كبير من الركاب على متنها، لكن هذه التفاصيل تم تجاهلها في الرواية الرسمية.
اعترفت وزيرة الهجرة المصرية، سهى جندي، بحقيقة واضحة هي أن المصريين الذين نجوا من الكارثة قبالة الساحل اليوناني مستعدون لفعل أي شيء إلا العودة لبلدهم!
ولا تخلو قرارات الموت أو الحياة لدى وكالة “فرونتكس” من أجندة سياسية، فاليونان، التي تنتقدها المفوضية الأوروبية لما تسميه “صدها العنيف” للمهاجرين، تنفق 600 ألف يورو أي 0.07% فقط من إجمالي الميزانية المخصصة لإدارة الحدود في مجال البحث والإنقاذ.
تمويل المهربين
لست سنوات متواصلة بين عامي 2021 حتى 2027، تم تخصيص أكثر من 819 مليون يورو لليونان من ميزانية الاتحاد الأوروبي، تم إنفاق معظمها على إبعاد اللاجئين عن أوروبا.
جارة اليونان، إيطاليا، كانت أكثر وضوحاً في التعبير عن مواقفها، فقد بذلت رئيسة الوزراء الإيطالية اليمينية المتطرفة، جورجيا ميلوني، قصارى جهدها من أجل إعادة ضبط علاقات إيطاليا مع الأنظمة الديكتاتورية جنوب البحر المتوسط، فالتقت بخليفة حفتر الذي تعد منطقة برقة الواقعة شمال ليبيا معقله، وهي النقطة الرئيسية لانطلاق المهاجرين إلى إيطاليا، فبالإضافة إلى دوره في اضطراب بلاده الداخلي، ودعم حميدتي في الاستيلاء على السلطة في السودان، وعلاقاته مع مرتزقة فاغنر الروس، يعرف الاتحاد الأوروبي أنه يمول التجارة بين خفر السواحل الليبي والمهربين، فقد اتهمت لجنة تقصي تابعة للأمم المتحدة مسؤولين في خفر السواحل الليبي بالعمل مع المهربين.
يمكن القول أن حفتر مسؤول عن خلق المشاكل لمزيد من اللاجئين أكثر من أي طرف آخر، باستثناء عبد الفتاح السيسي ربما، فقد مرت 10 سنوات منذ تولي السيسي السلطة بعد انقلابه العسكري، ووفقاً لوزارة الداخلية الإيطالية، فقد وصل حوالي 20 ألف مصري إلى إيطاليا عبر ليبيا عام 2022، أي ثلاثة أرباع من عبروا عام 2021، ففي تصريح لها، اعترفت وزيرة الهجرة المصرية، سهى جندي، بحقيقة واضحة هي أن المصريين الذين نجوا من الكارثة قبالة الساحل اليوناني مستعدون لفعل أي شيء إلا العودة لبلدهم!
يضاف إلى حفتر والسيسي، الديكتاتور التونسي قيس سعيد، الذي استضاف قادة إيطاليا وهولندا والاتحاد الأوروبي من أجل الحصول على مساعدات، وبعد فترة قصيرة، أفلست بلاده لدرجة أصبحت فيها عاجزة عن سداد ديونها الخارجية، عندما صرحت رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، بقولها “منذ عام 2011، كان الاتحاد حريصاً على دعم تونس في طريق الديمقراطية الصعب لكن يمكن تحدي العقبات”، كان سعيد، العقبة الرئيسية، يقف إلى جانبها!
دعم الأنظمة الديكتاتورية
لا يعد نهج الاتحاد الأوروبي تجاه نسيان الديمقراطية مختلفاً عن نهج ميلوني، إن لم يكن أكثر إثارة للسخرية، مؤخراً، صرح الاتحاد الأوروبي بمنح القاهرة 20 مليون يورو للتعامل مع 200 ألف لاجئ من السودان، بالإضافة إلى منح مصر 80 مليون يورو لإدارة حدودها، ولا تعد هذه الأرقام ذات قيمة إذا ما قورنت بالأموال التي جنتها دول الاتحاد من بيع الأسلحة لمصر، فخلال 10 سنوات، صدرت دول الاتحاد ما قيمته 14.2 مليار دولار من الأسلحة إلى مصر، فأدى إنفاق السيسي على السلاح إلى زيادة الفقر بين المصريين.
لماذا تذرف دول الاتحاد الدموع من أجل الديمقراطية إذن، إذا كان الاستبداد مدخلاً للعمل التجاري؟! الحقيقة أن الاتحاد الأوروبي تخلى عن أجندة الديمقراطية في شمال إفريقيا والدول الفقيرة، فعندما قاطع التوانسة خطوة سعيد لتدشين برلمانه، دعا ممثل الاتحاد الأوروبي، جوزيف بوريل، إلى “استعادة الاستقرار المؤسسي”، ولم يزعجه اعتقال الغنوشي، رئيس أكبر أحزاب البرلمان السابق، فسعيد بات يحظى بالضوء الأخضر عند كل خطوة!
لقد تخلت أوروبا عن كل ما تدعي الدفاع عنه، في جنوب البحر المتوسط تحديداً!
سياسة كارثية
إذا ما توقفنا عند بريطانيا وتونس، فإن السياسة البريطانية تجاه تونس كارثية على كل الصعد، فاللورد طارق أحمد مثلاً، الوزير الأطول خدمة في وزارة الخارجية، من أصل باكستاني، خدم تحت حكم كاميرون وتيريزا ماي وليز تروس وبوريس جونسون والآن ريشي سوناك، كان حرياً به أن يعرف ما يحصل في مصر وتونس وليبيا فقد عاش بها، لكنه لم يستخدم معرفته بشيء، وكأنه نام وهو يقود عجلة القيادة!
لطالما رفضت بريطانيا والاتحاد الأوروبي تسمية الانقلابات العسكرية كما يجب تسميتها، بل استمرت في دعم حكامها المستبدين، وبالتالي سوف يزداد تدفق المهاجرين، يوماً ما كانت بريطانيا وفرنسا وإسبانيا والبرتغال قوى استعمارية في المنطقة، واليوم يغذون الأسباب الحقيقية لعدم الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي في ذات المنطقة التي تأتيهم منها أفواج اللاجئين.
الجيش المصري هو السبب الأهم لانهيار الاقتصاد، ومع ذلك تعمل فرنسا وبريطانيا وألمانيا على تعزيز الجيش الفاسد ببيع الأسلحة له، ولكن ذلك ليس مصادفة، بل هي أجندة سياسية عن وعي وقصد!
إذا كان قادة أوروبا يعتقدون أنهم قادرون على إنقاذ أوروبا من خلال المرتزقة الديكتاتوريين، وترك القوارب تغرق، فهناك مفاجأة بانتظارهم، فما زال هناك ملايين من المصريين والتونسيين والسودانيين والأفغان الذين يخططون ويدخرون من أجل نفس الرحلة!
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)