قبل أربعة عشر عاماً، كان مخيم اليرموك أحد أكثر الأحياء المرغوبة للسكن في دمشق، صحيح أنه كان مخيماً للاجئين الفلسطينيين، لكنه تحول من جميع مناحي الحياة إلى منطقة تجذب السكان في جنوب العاصمة السورية.
أما اليوم، فقد أصبح من الصعب التعرف على ملامح المخيم، حيث حلت الفجوات الكبيرة محل المباني التي كانت قائمة، ودمرت القنابل البرميلية أحشاء المنازل، وفيه تبحث النساء والأطفال وحتى كلاب الشوارع في أكوام القمامة عما يمكن أكله.
وقبل أن تشن دولة الاحتلال عدوانها على قطاع غزة، لم يكن الدمار قد حلّ بالكامل على هذا المجتمع الفلسطيني النابض بالحياة طوال فترة الصراع الداخلي في سوريا، بل إن جمعة أحمد العينة وصف مخيمه بقوله: “لقد كان جميلاً، كان بمثابة الجنة”.
كان عدد سكان اليرموك قبل الحرب حوالي 150 ألف نسمة، معظمهم من الفلسطينيين، وفي عام 2013، أصبح المخيم مسرحاً لمعارك ضارية بين المعارضين السوريين وجيش الرئيس آنذاك بشار الأسد، وقد قاتلت الجماعات الفلسطينية متحالفة مع هذا الطرف ومع ذاك.
وما أن وقع المخيم في أيدي المعارضة، حتى تم حصاره وأصبح هدفاً مفضلاً للقوات الجوية التابعة للأسد والطائرات الروسية التي تساعده.
وبحلول عام 2015، ازداد الطين بلة عندما اجتاح تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) معظم مناطق مخيم اليرموك، ولم يتبق فيه سوى بضع مئات من السكان وكان العينة واحداً منهم.
وقال العينة وهو يمسك بين يديه بسبحة زرقاء: “كانت الغارات الجوية أسوأ ما مرّ علينا، لكن الجميع غادروا عندما وصلت داعش إلى هنا، كان مقاتلوها يقتلون أي شخص يقف في طريقهم”.
وحمل حصار الأسد لمخيم اليرموك سمعة سيئة، وتحولت صورة سكانه وهم يصطفون في طوابير للحصول على الطعام في الشارع المدمر واحدة من الأيقونات التي تحدد مستوى استعار الحرب.
وقال العينة: “لقد كان وقتًا عصيبًا، كنت أبحث في كل مكان عن الطعام، وأفتش الشوارع عن أي شيء، حتى لو كان فاسدًا”.
كان على الفلسطيني البالغ من العمر 60 عامًا أيضًا أن يتعلم قضاء الكثير من الوقت بمفرده، فقد نزحت عائلته من هذا الجزء من دمشق عندما بدأ القصف، لكنه أصر على البقاء لرعاية ممتلكاته.
ويضيف: “لقد أيقنت أنني إذا غادرت منزلي ولو لثانية واحدة فسوف يأخذه شخص آخر، الحمد لله لم يتعرض للقصف، وبقيت فيه وحدي رغم أن ذلك كان صعب جداً”.
فلسطينيو سوريا
وعلى العكس من الحال المتبع في الدول المجاورة، منحت سوريا في عام 1956 الفلسطينيين نفس الحقوق التي يتمتع بها السوريون تقريباً، مما سمح لهم بالحصول على وظائف في جميع القطاعات، الأمر الذي سمح لمخيم اليرموك بالازدهار.
كما صور الأسد ووالده حافظ، الذي حكم سوريا من عام 1971 حتى وفاته في عام 2000، نفسيهما كحليفين للقضية الفلسطينية، مما سمح لبعض الفصائل الفلسطينية بالعمل من دمشق.
وفي نوفمبر/تشرين الثاني، أدت غارة للاحتلال على مكتب في المزة بدمشق تابع لحركة الجهاد الإسلامي إلى استشهاد العديد من مقاتلي الحركة الفلسطينية، الذين تزين ملصقات صورهم جدرانًا خرسانية متداعية على طول الشارع الرئيسي في اليرموك.
وحتى خالد مشعل، رئيس المكتب السياسي السابق لحركة حماس، كان يتخذ من المخيم مركزاً له وللحركة حتى فارق الأسد بعد رفضه إدانة الثورة السورية.
وبينما قاتل بعض الفلسطينيين من أجل النظام المخلوع، وقع العديد منهم ضحايا له، فبحسب مجموعة العمل من أجل فلسطينيي سوريا ومقرها المملكة المتحدة، فإن أكثر من 4300 لاجئ فلسطيني استشهدوا خلال الحرب واعتقل أكثر من 3000 آخرين.
وقال أيمن سخنين، وهو أحد سكان اليرموك ويبلغ من العمر 52 عامًا، إن الأسد كان يعامل الفلسطينيين بشكل لائق قبل الصراع، “لكن هذه الحرب كانت على الجميع، فلسطينيين وسوريين، وبالعموم فإن الثورة جيدة لتحصيل حقوق الناس وهي شيء جميل”.
“كل شيء فظيع”
ومنذ أن استعاد الأسد اليرموك في عام 2018، بدأ السكان مثل سخنين في العودة، وفتحت بعض المحلات التجارية على الطرق الرئيسية أبوابها مرة أخرى، ولكن لم يكن لها كلها أربعة جدران.
فوفقًا لمجموعة العمل من أجل فلسطينيي سوريا، تضرر نحو 60% من مباني المخيم أو دمرت بالكامل.
وتقدم وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، بعض الخدمات، مثل الرعاية الصحية والتعليم لـ 8000 شخص يعيشون بين الأنقاض، لكن السكان يقولون إنهم يفتقرون إلى أساسيات الحياة ومن بينها الماء والكهرباء والطعام الكافي للعيش.
وحتى الآن، عاد عدد قليل من أبناء المخيم الذين قاتلوا في صفوف المعارضة إلى مخيمهم، لكن السكان يقولون إن ممثلي الحكومة المؤقتة الجديدة لم يزوروهم بعد.
وأوضح محمد محمود، البالغ من العمر 25 عامًا، والذي لجأت عائلته إلى المخيم من صفد في شمال فلسطين بعد نكبة العام 1948 أن “كل شيء فظيع، المفارقة أني عامل بناء لكن منزلي أصبح خراباً ليس فيه نوافذ ولا أبواب، الحياة فيه مثل العيش في الشارع”.
ويعجز سكان المخيم اليوم عن الهروب من المقارنات مع غزة، حيث يقول محمود أن صور المذابح والدمار من القطاع الفلسطيني تدمرهم، وهو ذات الشعور الذي شرحه العينة بقوله: “نحن نعيش نفس النوع من الشر، الذي يفعل بغزة هو ما فعلوه باليرموك، بشار هو تلميذ إسرائيل”.
للإطلاع على النص الأصلي من (هنا)