في ملجأ للمهاجرين في ميلانو، كان اللاجئ المصري محمد الأنور يحمل ملفه الورقي الذي يبلغ وزنه 4.5 كيلوغراماً هي حصيلة ما جمعه من وثائق “في ثلاث سنواتٍ فقط من الحياة بإيطاليا”.
يحتوي الملف على سجلات مفصلة تشمل الأوراق والصور الفوتوغرافية المؤرخة بدقة للتعامل مع متاهة نظام الهجرة الإيطالي الذي تعقدت إجراءاته منذ تولي جيورجيا ميلوني رئاسة الوزراء وتعهدها العام الماضي بقمع المهاجرين.
قبل وصول الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى السلطة في مصر عبر انقلاب عسكري عام 2013، عمل الأنور صحفيًا ومنتجاً إعلامياً وشارك في تأسيس إحدى الحركات الشبابية التي ساعدت في دفع ثورة 2011.
لكن بعد الانقلاب، “امتد الخوف إلى كل مناحي الحياة”، كما يقول، حيث جعلت حملات القمع بحق الإعلاميين مواصلة عمل الأنور الصحفي أمراً مستحيلاً بعدما أصبح هدفًا للنظام.
وما بين عامي 2013 و2014، هيمنت عمليات القمع على الشارع المصري فأصيب الأنور، وهو اسمٌ مستعارٌ للصحفي، بكسر في العمود الفقري وفقد السمع في أذن واحدة وبات يعاني من اضطراب ما بعد الصدمة.
مخاطرة الموت
جازف الأنور وصديقه حسن، الذي يحمل كذلك اسماً مستعاراً لأسباب تتعلق بالسلامة مع الكثيرين بالموت للوصول إلى أوروبا هرباً من حالة القمع التي طالت جيلاً بأكمله في مصر.
غادر حسن إلى تركيا عام 2018 بتأشيرة سياحية ومكث هناك قرابة عامين، ثم قفل عائداً إلى بلاده على متن رحلةٍ جويةٍ يتخللها التوقف في روما، حيث طلب اللجوء في المطار.
ويؤكد حسن أن الشرطة الإيطالية احتجزته 24 ساعةً واستجوبته وعاملته “بشكل مروّع”، حيث وضع في زنزانة “في ظروف غير إنسانية” قبل أن يطلق سراحه في اليوم التالي ويرسل إلى مركز استقبال محلي للمهاجرين.
إلى إيطاليا، وصل أكثر من 100000 “مهاجر غير نظامي” عام 2022، بزيادة 67000 عن عام 2021 و 34000 عن العام الذي سبقه.
تشمل هذه الزيادة عددًا كبيرًا من الفارين من الفقر والحكم الاستبدادي في مصر تحت حكم السيسي، حيث استأثر المصريون العام الماضي بخُمس عمليات إنزال المهاجرين في إيطاليا.
ووفقًا لبيانات من وكالة الحدود الأوروبية فرونتكس، فإن المصريين هم أكثر الجنسيات التي تم اكتشاف هجرتها على طول طريق وسط البحر الأبيض المتوسط إلى الاتحاد الأوروبي في الأشهر الخمسة الأولى من عام 2022.
وكان الدافع وراء هذا الارتفاع هو انهيار الاقتصاد الذي أغرق ثلث سكان مصر في الفقر، إضافةً إلى القمع الذي ملأ السجون بآلاف المعتقلين السياسيين، حيث يسلك الكثيرون طرقًا خطرة إلى خارج البلاد، ويخاطرون بالتعرض للخطف والابتزاز أو يعبرون البحر الأبيض المتوسط في قوارب غير صالحة للإبحار.
تم رفض الطلب في عام 2015 ، هرب الأنور من مصر إلى ماليزيا حيث مكث عامين، متوارياً عن الأنظار وكان يدير شركة صغيرة ويستخدم اللهجة القطرية لإخفاء جنسيته.
وبعد رحلة مريرة غادر الأنور ك ماليزيا في آب / أغسطس 2019، في رحلة عودة إلى القاهرة باستخدام وثيقة سفر مؤقتة لكنه، مثلما فعل حسن توقف في روما وطلب اللجوء.
وقال:” لقد فقدت كل شيء في ماليزيا … ثم اضطررت للتعامل مع البيروقراطية الإيطالية”.
يشمل نظام استقبال المهاجرين الإيطالي شبكة من المنظمات غير الحكومية والبلديات التي غالبًا ما تكون مراكز استقبال طالبي اللجوء في مناطق معزولة ولا تقدم سوى الخدمات الأساسية.
كافح كل من حسن والأنور، رغم امتلاكهما الوثائق الشاملة، للتعامل مع هذا النظام الذي ازداد تعقيدًا بسبب جائحة Covid-19.
وصل حسن إلى روما في أواخر عام 2019، قبيل الإغلاق الأول لفيروس كورونا، والذي أخر معالجة طلب اللجوء الخاص به، وتم احتجازه في مركز استقبال مزدحم على مشارف المدينة لمدة ستة أشهر ، حيث كان يتقاسم غرفةً وحمامًا مجاورًا مع ستة أشخاص.
وكان مشرفٌ واحدٌ فقط يسهر على إدارة طوابير طويلة من اللاجئين الذين يتم تسخين الوجبات المجمدة لهم في عبواتها البلاستيكية، دون تلقي أي مبالغ مالية لشراء طعامهم أو طهيه بأنفسهم.
وقال حسن:” لمدة ستة أشهر، كنت منعزلاً تمامًا … وركزت على فكرة الهروب”.
رحلة مؤلمة
أما الأنور، فأوضح أن انتظاره لمدة عام للحصول على وضع اللاجئ في روما، ثم انتظار تسعة أشهر للحصول على تصريح إقامة مؤقتة، تسبب في خسائر جسدية ونفسية كبيرة.
وعندما حصل في النهاية على تصريح في حزيران / يونيو 2021، واجه تحدي قلة فرص العمل، فعمل لبضعة أشهر على غسل السيارات لكسب المال، ثم سافر إلى ألمانيا لمزاولة أعمال بناء قصيرة المدى.
وعندما انتهت صلاحية تأشيرته الألمانية، عاد الأنور إلى إيطاليا في أيلول / سبتمبر 2022 وأقام في خيمة في ضواحي فلورنسا لأكثر من شهر.
وقال “الشيء الوحيد الذي كنت امتلكته في ذلك الوقت هو خيمتي و 100 يورو”.