اللبنانيون في صور يتشبثون بمدينتهم وتراثها في وجه العدوان الإسرائيلي  

لوران بيربينيا ايبان

بقلم نجاح خاطر 

تفوح رائحة الخراب على طول الطريق الساحلي الذي يربط بيروت بصور الواقعة على بعد 80 كيلومتراً جنوب العاصمة اللبنانية.

وعلى امتداد كيلومترات من الطريق السريع الذي كان معروفاً بالازدحام ذات يوم، لم يعد هناك سوى بقايا لهياكل السيارات التي دمرتها غارات الاحتلال.

تعرف صور بلقب لؤلؤة جنوب لبنان وتشتهر بتراثها وتاريخها وجمالها المعماري وشواطئها، لكن المدينة القديمة تبدو اليوم معزولة عن العالم تماماً.

وبالقرب من مينائها، كان أبو إلياس البالغ من العمر 75 عاماً يجلس على كرسي أمام منزله الذي رفض مغادرته رغم مطالبات أقاربه له بذلك، وقال “هكذا هي الحال، لا يمكننا فعل أي شيء حيال ذلك”.

وتابع المسن اللبناني بابتسامة بقيت ثابتةً رغم أصوات القصف القريب: “أخشى على الجيل الجديد أكثر من خوفي على نفسي، أنا حياتي انتهت”.

وأردف وهو يتحدث لميدل إيست آي: “من هنا، يمكننا سماع أصوات جميع غارات الاحتلال على القرى القريبة، وفي بعض الأحيان، تكون مدينتنا هي المستهدفة بالقصف”.

ومنذ 8 أكتوبر 2023 وانخراط حزب الله اللبناني في جبهة دعم لغزة، ظلت المنطقة في حالة توتر دائم. 

وتشير المعطيات الرسمية الصادرة عن وزارة الصحة اللبنانية أن أكثر من 3580 شخصًا استشهدوا في البلاد وجُرح أكثر من 15200، معظمهم منذ نهاية سبتمبر/أيلول.

ومنذ نهاية أكتوبر/تشرين الأول أصبحت مدينة صور هدفاً لغارات عنيفة بعدما كانت قد نجت نسبياً من ذلك منذ بدء التصعيد.

“محو الذاكرة”

ولا يشك أبو إلياس في أن هذا الهجوم هو الأكثر عنفاً من بين الحروب التي شهدها في حياته، موضحاً أن هذه هي المرة الأولى التي يغادر فيها هذا العدد الكبير من السكان المدينة.

وأضاف: “أنا لست بصحة جيدة، ولكني من القلائل الذين يمتلكون منزلاً تاريخياً في وسط المدينة لا يقل عمره عن 200 عام، ومن غير الوارد أن أتركه، هنا ولدت وربما هنا سأموت”.

“مثلي كمثل الكثيرين هنا، حياتي ليست مهمة للغاية، ولكن إذا دمر الاحتلال صور، فإنه سيمحو ذاكرة وتاريخ مدينتنا العريق” – أبو إلياس، مقيم في صور، 75 عاماً

عرفت صور كمدينة مأهولة بالسكان في حوض البحر الأبيض المتوسط بشكل مستمر لمدة 4000 عام حيث ساهم بحارتها، الفينيقيون في بناء مدن كبيرة عبر البحر، مثل قرطاج في تونس وقادش في إسبانيا.

وتضم صور العديد من المواقع الأثرية، ومعظمها يقع في منطقة تعرف باسم الميناء، وأضيفت المدينة ككل إلى قائمة مواقع التراث العالمي لليونسكو في عام 1984.

وقالت علياء فارس، عالمة الآثار ومستشارة التراث في الجمعية الأمريكية للأبحاث في الخارج (ASOR)، لميدل إيست آي: “المواقع الأثرية عادة ما تكون بعيدة عن المدن ولا يمكن الوصول إليها بسهولة من قبل السكان، أما في صور، فهي جزء من المناظر الطبيعية، والهوية الجماعية، ولهذا السبب يشعر السكان بالقلق الشديد”.

ويقع الميناء، الذي يضم آثاراً تعود إلى العصور اليونانية والرومانية والبيزنطية، داخل أسوار المدينة، وهو معرض مع المناطق القريبة منه بشكل خاص لقصف الاحتلال.

ويتهم أبو إلياس وهو مسيحي معروف في المدينة الاحتلال بمحاولة زرع الفتنة بين الطوائف الدينية اللبنانية المختلفة التي يشكل تعايشها إرثاً أساسياً لتاريخ المدينة.

ويقول: “لقد عاشت كل الطوائف الدينية هنا معاً لفترة طويلة”.

“رغبة الاحتلال في زرع الفتنة بين المسلمين الشيعة وأتباع الديانات الأخرى بغية جر البلاد إلى حرب أهلية جديدة هي رغبة سخيفة” – علي، صياد من صور

وعلى بعد أمتار قليلة، بجوار الميناء، ينتصب تمثال للسيدة العذراء مريم وكأنه يراقب حركة القوارب، حيث يشير أبو إلياس إلى أن السياح يسألون سكان المدينة أحياناً عما إذا كان هذا هو الحي المسيحي لكن الأهالي يجيبونهم: “لا يوجد حي مسيحي هنا. أحياؤنا مختلطة”.

وبالنسبة لعلي، وهو صياد في الخمسينيات من عمره، فإن الاحتلال لن ينجح في جر البلاد إلى حرب طائفية، مضيفاً “صور هي أفضل مثال على التماسك الذي يمكن أن يكون، ونحن لا نعرف حتى ديانة جيراننا”.

وقال حسين قعوار، وهو مقيم يبلغ من العمر 46 عامًا قابلته ميدل إيست آي في الميناء، إنه يخشى أن يتم هدم المدينة، لكنه أكد أن “حجارتها مبنية أيضاً في قلوبنا”.

وتابع: “عائلتي بأكملها من صور، لقد عايشت حقبة الاحتلال عندما كنت صغيراً، وقتها اعتقلوا جميع الرجال في حيي وتم استجوابنا لساعات في استراحة المدينة”.

وكانت إسرائيل قد احتلت جنوب لبنان من أوائل الثمانينيات حتى عام 2000.

بكيت كثيراً

وكمثل حال أبو إلياس، لا يخطط قعوار لمغادرة صور أيضاً، وقال “هذا أمر غير وارد، لا أريد أن أرى ما حدث للفلسطينيين يحدث لي، لقد اضطروا إلى النزوح وخسروا مدنهم ومنازلهم إلى الأبد”.

كان قعوار يشير إلى تهجير الفلسطينيين عنوةً خلال النكبة التي صاحبت قيام إسرائيل في عام 1948، والتي طُرد خلالها 750 ألف فلسطيني من وطنهم أصبحوا من وقتها يحملون صفة لاجئين.

وأضاف: “على الرغم من كل شيء، أعتقد أن المقاومة اللبنانية قوية جدًا وأن الإسرائيليين لن يصلوا إلى هنا”.

ومضى يقول: “قوة المحتلين الوحيدة هي القوة الجوية، لكنهم غير قادرين على التقدم على الأرض، ولجعلنا ندفع ثمن هذا فإنهم يدمرون البلد بأكمله من الجو”.

ومنذ نهاية سبتمبر/أيلول، يواجه الهجوم البري الإسرائيلي مقاومة شرسة من مقاتلي حزب الله، لكن جيش الاحتلال أعلن في وقت سابق من الأسبوع الجاري، وللمرة الأولى، أنه نصب بطارية مدفعية على الأراضي اللبنانية، في قرية شمعة، على بعد نحو 15 كيلومتراً من صور.

وفي الميناء، أعاد عادل العبيدي، وهو صياد من أصل فلسطيني، ترتيب قاربه حتى يتمكن من العيش داخله أثناء الحرب، على أمل أن يحميه من الغارات.

وقال لـ “ميدل إيست آي”: “نعيش ليلًا ونهارًا في خوف من أوامر الإخلاء التي يصدرها جيش الاحتلال ومن الغارات التي تنفذ دون سابق إنذار”.

وأضاف: “من الواضح أن الحلقة الحالية أكثر عنفًا ودموية من الحلقات السابقة في تاريخنا، لكنها جزء من صراع لن ينتهي ما لم ينته الاحتلال، نحن مجبرون على المقاومة، ليس لدينا خيار”.

وبالنسبة لعبيدي، فإن الخوف من رؤية أحفاد الجنود الإسرائيليين الذين طردوا والده من حيفا عام 1948 يصلون إلى مدينته “قوي للغاية”.

وتابع: “بالنسبة لي، فإن صور ترمز إلى أشياء كثيرة لأن هذا هو المكان الذي ولدت فيه، وهذا ما يجعل هذه المدينة مختلفة عن غيرها، فعلى الرغم من هويتي الفلسطينية، يعاملني الجميع كابن للعائلة، لقد بكيت كثيرًا عندما ضربت الغارة الأولى المدينة”.

صنع في الولايات المتحدة

تنتشر آثار غارات الاحتلال في كافة أرجاء الواجهة البحرية للمدينة، وأمام مبنيين مدمرين، رفع أنصار حزب الله لافتة كتب عليها “صنع في الولايات المتحدة”، وقد حضر عدد قليل من الشبان لالتقاط صور سيلفي أمامها، قبل أن يختفوا بسرعة.

وفسر السكان المحليون أزيز الطائرات بدون طيار التي كانت تحلق على ارتفاع منخفض للغاية واختراق الطائرات الحربية لحاجز الصوت على أنه تحذير، فأفرغوا الشوارع بسرعة.

وفي حي فقير من المدينة، أخذت رنا، 52 عامًا، ميدل إيست آي إلى قلب متاهة من الأزقة حيث شوهت غارة المكان قبل بضعة أيام، وانهارت المنازل أمامها مثل بيوت من ورق.

وقالت رنا: “لقد استشهدت امرأة تبلغ من العمر 80 عامًا كانت تعيش على بعد أمتار قليلة، ولم يبق سوى العائلات التي لا تستطيع تحمل تكاليف مغادرة المدينة”.

وتابعت: “نحن مطاردون، لم نكن نعتقد أبدًا أننا سنتعرض للهجوم هنا، لا توجد أهداف عسكرية والإسرائيليون يعرفون ذلك جيدًا”.

ومضت تقول: “نحن في حالة الطواريء نعيش خارج منازلنا قدر الإمكان، لكن الكثير منا يفضلون الموت في المنزل بدلاً من أن يموتوا مثل الحيوانات في الشارع”.

الدماء في كل مكان

وتحمل رقية حلاوي، البالغة من العمر 13 عامًا، على وجهها ندوب الغارة التي شوهت حيها، لقد رفعت شعرها الطويل بخجل لتظهر عشرات الغرز في فروة رأسها.

كانت رقية تقف بالقرب من والديها حين أصيبت ودُفنت تحت الأنقاض لدقائق طويلة قبل أن يسحبها شقيقها بيديه العاريتين ويأخذها إلى المستشفى.

“كنت على درج منزلي عندما سمعت صوت الصاروخ المرعب، لم أتذكر بعد ذلك سوى صوت صراخ أمي التي كانت تتألم لأنها اعتقدت أنني قد استشهدت، لم يكن لدي القوة للتحدث أو طلب المساعدة” – رقية حلاوي

وتقول العائلة أن جيش الاحتلال لم يصدر أمراً بالمغادرة قبل القصف، وأضاف والد رقية بغضب: “إنهم لا يرحمون”.

ووصفت والدة رقية الفوضى التي اكتنفت المكان بعد القصف قائلةً: “كان كل شيء أحمر، والدم في كل مكان، لكننا نقبل كل الصعوبات التي يكتبها الله علينا، كل شيء يصبح سهلاً في وجود المقاومة”، في إشارة إلى حزب الله.

ومع استمرار المعارك العنيفة بين مقاتلي الحزب وجيش الاحتلال على طول الحدود الجنوبية للبنان، يخشى كثيرون أن تكون صور مسرحاً لإنزال بحري إسرائيلي، وخاصة منذ العملية البرمائية التي نفذت في الأول من نوفمبر/تشرين الثاني في البترون، وهي بلدة ساحلية مسيحية تقع على بعد حوالي 60 كيلومتراً شمال بيروت، والتي شهدت إنزال القوات الإسرائيلية من البحر.

وفي صور، يُراقب نفس البحر الذي أعطى كل شيء لسكان المدينة لقرون من الزمان الآن بقلق.

وقال علي الصياد: “يمكن للاحتلال تحويل مدينتنا إلى مقبرة ضخمة بين عشية وضحاها، وتدمير تراثنا التاريخي، في نهاية المطاف، لا شيء من هذا يهمهم”.

* تم تغيير الأسماء بناءً على طلب الأشخاص الذين تمت مقابلتهم.

للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)

مقالات ذات صلة