في مقهى في ضاحية بيروت الجنوبية، معقل حزب الله، يلتصق الشبان بشاشة تلفزيون تبث جنازات المقاتلين الذين ارتقوا في جنوب لبنان خلال العمليات العسكرية مع الجيش الإسرائيلي.
وتنصبّ جميع الأحاديث على عملية “طوفان الأقصى” وما يعانيه قطاع غزة من العدوان الإسرائيلي المتواصل.
ويقول علي شعيتو، 23 عاماً:” علينا أن ندعم الفلسطينيين بكل الوسائل”، منتقداً “صمت الأنظمة العربية في مواجهة الإبادة الجماعية لسكان غزة”.
ويضيف:” يجب ألا يكون هناك حياد في المعركة المستمرة، وعلينا جميعًا أن نساهم في تحرير فلسطين”.
أما حسين فقيه، 18 عاماً فيقول:” إذا أمرنا السيد حسن نصر الله، الأمين العام لحزب الله، فنحن مستعدون للتضحية بأرواحنا في سبيل هذا النضال، فهو واجب على كل عربي ومسلم”.
كانت الأجواء شديدة الشبه كذلك في مقهى في أنطلياس، وهي مدينة ذات أغلبية مسيحية تقع على بعد 12 كيلومتراً شمال بيروت.
وقالت كلوي قصيفي، وهي مدرسة تاريخ وجغرافيا في الثلاثينيات من عمرها:” ما يحدث في غزة لا يطاق، أعني قتل كل هؤلاء الأطفال والنساء الذين سحقتهم القنابل الإسرائيلية، لكن على لبنان أن يبقى خارج هذه الحرب التي تحمل المخاطر بتدمير كل شيء في طريقها”.
بدوره ذكر زياد خليل، مهندس الديكور الداخلي، أن” لبنان دفع ثمنا باهظا من أجل القضية الفلسطينية”، وبالتالي فإن “الدور الآن على الدول العربية الأخرى لحمل الشعلة”.
ويعكس هذان المشهدان الأجواء السائدة في لبنان في مواجهة الأحداث المأساوية التي تشهدها منطقة المشرق العربي، فاللبنانيون منقسمون بين الرغبة في دعم الفلسطينيين والخوف من جر بلادهم إلى حرب مدمرة.
بل إن مخاوف السكان تتجاوز ذلك لأن ذكريات الحرب التي اندلعت بين تموز / يوليو وآب / أغسطس 2006 بين حزب الله والجيش الإسرائيلي، والتي أسفرت عن مقتل 1200 شخص وإصابة أكثر من 4000 جريح، معظمهم من المدنيين، لا تزال محفورة في الذاكرة الجماعية.
وتتذكر قصيفي، التي كانت تبلغ من العمر 12 عاماً الحرب الكبرى الأخيرة بين لبنان وإسرائيل، وتقول:” بعد عام 2006، ساعدتنا الدول العربية في إعادة بناء البنية التحتية والمدارس والجسور التي دمرتها الغارات الجوية الإسرائيلية”.
لكنها تستدرك بالقول:” اليوم، تخلت عنا المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والكويت وقطر، وفي ظل الأزمة الاقتصادية والسياسية التي جعلتنا نجثو دون أدوات لإعادة البناء”.
وتتباين الآراء تجاه الموقف الذي يجب أن يتخذه لبنان إزاء ما يجري في قطاع غزة في ظل حملات الشيطنة التي يتعرض لها حزب الله منذ سنوات من قبل جزء من الطبقة السياسية ووسائل الإعلام المحلية.
ولم تحقق المحاولات التي بذلتها بعض الشخصيات السياسية والإعلامية لكسر موجة التضامن مع الفلسطينيين، بالاعتماد على خطاب الحرب الأهلية (1975-1990)، سوى نجاح محدود.
ونشرت صحيفة الأخبار، الاثنين، استطلاعاً للرأي أجراه المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق وشمل 400 مشارك أظهر التأييد الشعبي الساحق لعملية 7 تشرين الأول/ أكتوبر حيث أيد ما يقرب من 80% من المستطلعين عملية طوفان الأقصى لكن معظمهم لم يؤيد التدخل العسكري اللبناني في الصراع.
وساعدت إدارة حزب الله للأزمة الحالية، بحسب العديد من المراقبين، في تحييد الضغوط القوية التي تمارسها الدول الغربية على السلطات اللبنانية وحلفائها المحليين.
“لقد أظهرت قيادة حزب الله إحساساً كبيراً بالمسؤولية في تعاملها مع الأحداث في غزة” – جنرال لبناني متقاعد
وأوضح جنرال لبناني متقاعد أنه فيما خشي البعض من اتخاذ الحزب قراراً متهوراً بفتح الجبهة اللبنانية – الإسرائيلية فقد اختار الحزب الرد التدريجي على العدوان الإسرائيلي من خلال فرض قواعد جديدة للحرب.
وتابع:” الحزب جعل جزءًا كبيرًا من البنية التحتية للمراقبة الإلكترونية التي استغرق الإسرائيليون سنوات لبنائها على طول الحدود غير صالحة للعمل، ودمر العديد من التحصينات والمركبات المدرعة وألحق خسائر بالجيش الإسرائيلي”.
أبقى هذا الرد التدريجي الحرب دائرة على طول الحدود في شريط يبلغ طوله خمس كيلومترات، في حين تستمر الحياة بشكل طبيعي تقريباً في بقية أرجاء لبنان الذي نجح حتى هذه المرحلة في تجنب الهجمات الإسرائيلية.
وقد أرغم هذا التكتيك إسرائيل على حشد ثلث قواتها على الجبهة اللبنانية بدلاً من نشرها حول غزة.
ويضيف الخبير العسكري أن “حزب الله يتعمد إخفاء نواياه وطبيعة الخط الأحمر الذي سيؤدي تجاوزه من قبل إسرائيل إلى فتح الجبهة اللبنانية بالكامل”.
وتابع:” إلى جانب صمت حسن نصر الله، الذي لم يتكلم بعد منذ بداية الحرب، فإن هذا التكتيك يزرع حالة من عدم اليقين داخل القيادة العسكرية العليا الإسرائيلية والقيادة السياسية ويؤثر على قراراتها”.
وقد لعبت شخصيتان سياسيتان بارزتان دوراً في منع ظهور مناخ معادٍ بشكل علني تجاه حزب الله داخل لبنان.
الأول هو الوزير السابق والنائب البرلماني وليد جنبلاط، الذي وعلى الرغم من انتقاده الشديد لسياسات الحزب الداخلية في السنوات الأخيرة، أعرب عن دعمه الثابت للنضال الفلسطيني منذ بداية “طوفان الأقصى”.
وتطور موقف جنبلاط تدريجياً، حيث قال إنه سيبذل كل ما في وسعه لتجنيب لبنان حرباً جديدة، لكنه سيقف بحزم إلى جانب حزب الله في حالة نشوب صراع مع إسرائيل.
وذهب الزعيم الدرزي إلى أبعد من ذلك، مؤكداً أنه إذا تم تهجير السكان الشيعة في جنوب لبنان بسبب حرب محتملة، كما حدث في عام 2006 عندما أجبر أكثر من مليون شخص على مغادرة منازلهم، فسيتم الترحيب بهم في معاقله.
كما ساهم جبران باسيل، زعيم التيار الوطني الحر (الذي أسسه ميشال عون)، في تحييد ظهور مشاعر معادية للفلسطينيين وحزب الله في الأوساط المسيحية اللبنانية.
وعلى الرغم من أن تحالفه مع حزب الله أظهر شهد توتراً خلال العام الماضي، إلا أن الزعيم المسيحي أدلى بالعديد من التصريحات التصالحية تجاهه.
ومثل جنبلاط، يدور خطابه حول أولويتين: أولاً، عدم جواز جر لبنان إلى صراع جديد، ثانياً، من حق البلد وواجبه مواجهة العدوان الإسرائيلي، ويجب على جميع اللبنانيين أن يظلوا موحدين في حالة الحرب.
ولتعزيز هذا الخطاب وتمتين الحوار الداخلي، التقى باسيل بشخصيات سياسية بارزة في البلاد بينهم رئيس الوزراء نجيب ميقاتي ورئيس مجلس النواب نبيه بري والمرشح الرئاسي المدعوم من حزب الله سليمان فرنجية الذي كان على خلاف معهم منذ أشهر.
وإلى جانب كل هذه الجهود التصالحية، اتخذت يمنى الجميل، ابنة الرئيس السابق المغتال بشير الجميل، والذي يعتبره قسم كبير من المسيحيين بطلاً للنضال ضد الفلسطينيين، ويعتبره قسم آخر حليفًا لإسرائيل، موقفاً لافتاً حين نشرت في منصة x أنه ” إذا فُرضت علينا الحرب، فإننا سنقف مع أي لبناني، مهما كانت عقيدته أو رأيه أو انتمائه”.
وبسبب خطورة الوضع والغموض الذي قد ينجم عنه، يحاول اللبنانيون إصلاح الجبهة الداخلية التي شابتها انقسامات لا حصر لها منذ سنوات ومن الصعب تحديد المدة التي ستصمد فيها هذه الجبهة أمام الضغوط التي تمارسها القوى الغربية وحلفاؤها المحليون.