المال والمرتزقة والفوضى.. شراكة دولة الاحتلال والإمارات في إشعال المنطقة

بقلم سمية الغنوشي

ترجمة وتحرير موقع بالعربية

تتشارك أبوظبي وتل أبيب في مشروع تفكيك شامل للمنطقة، إنهما تشعلان الصراعات الداخلية، وتسلّحان الفصائل، وتحوّلان الأوطان إلى إقطاعيات متناحرة تهيمن عليها دولة الاحتلال من علٍ.

فعلى وميض الغروب المتقلب في مدينة الفاشر، كانت طفلة تحتضن دميتها الملطخة بالسواد إلى جوار كومة رماد كانت يومًا منزلها، فيما راحت أمهات يلذن بأروقة آخر مستشفى مازال يقدم الخدمة خائفات من أن يخطف القصف القادم من بقي من الجرحى، أما الآباء فأخذوا يحفرون بأيديهم قبورًا لأطفالهم في أفنية المدارس المدمَّرة.

لقد صمدت المدينة على مدى 18 شهرًا تحت حصار جائر جردها من الغذاء والماء والحياة، وحينما سقطت بواباتها، لم تدخلها الحرية، بل الإبادة، حيث تحدث شهود عيان عن رجال سُحبوا من بيوتهم، ونساء وأطفال أُعدموا في الشوارع، ومستشفيات قُصفت بينما كان المدنيون المذعورون يحتمون داخلها. ووثّقت هيومن رايتس ووتش مشاهد القتل الجماعي والحرق والنهب، ووصفته الأمم المتحدة بأنه “حملة إبادة”، وخلف القوة المنفذة لهذه المذبحة، يقف راعٍ له بصماته في كل جبهة من جبهات الحرب السودانية، إنها دولة الإمارات العربية المتحدة.

من هم المنفذون ومن يحركهم؟

وإذا كانت قوات الدعم السريع هي الجهة المنفذة للجرائم، فإن من يحركها هي يد أبوظبي حيث أغرقت الإمارات هذه الميليشيا بالأموال والسلاح والغطاء السياسي، لتشعل صراعًا مزّق السودان وأحال دولته إلى رماد. تصل شحنات الأسلحة إلى قائد الدعم السريع محمد حمدان دقلو، المعروف بـ “حميدتي”، عبر حدود تشاد وليبيا، بل ومن خلال رحلات جوية تمرّ عبر قواعد إماراتية في أرض الصومال، ما أبقى آلة الحرب مشتعلة ودمّر مؤسسات الدولة.

وحتى العتاد العسكري البريطاني وجد طريقه إلى أيدي هذه الميليشيا، كاشفًا عن تواطؤٍ غربي صامت في الجرائم التي يُدينها الغرب ذاته علنًا.

لقد وُلدت قوات الدعم السريع من أحلك زوايا التاريخ السوداني الحديث حيث نشأت كذراع شبه عسكري لجهاز الأمن والمخابرات في عهد الرئيس المخلوع عمر البشير، ثم أُدمجت لاحقًا في الجيش دون أن تفقد استقلاليتها.
أما حميدتي، فقد صعد من تاجر إبل متواضع إلى زعيم ميليشيا، ومن جلاد دارفور إلى نائب رئيس مجلس السيادة الانتقالي.

ففي عام 2019، ساهمت قواته في الإطاحة بالبشير، ودخلت الحكومة الانتقالية محتفظة بولائها الخاص ورعاتها الأجانب. لكن هذا التعايش الهش بينها وبين الجيش السوداني انهار في أبريل/نيسان 2023 عندما فشلت مفاوضات إصلاح القطاع الأمني، ليتحوّل الخلاف إلى حرب وجود بين الدولة وأداتها المسلّحة.

ومنذ انتفاضة ديسمبر/كانون الأول 2018، تدخلت أبوظبي لإجهاض الثورة السودانية وتغيير مسارها، حيث سلّحت حميدتي، الجنجويدي الذي استخدمه البشير لقمع دارفور، ومولته واستثمرت وحشيته ذاتها لتدمير السودان وتفتيته، مستخدمة البترو-دولار كسلاحٍ للتفكيك.

وكان تحقيق لموقع ميدل إيست آي قد كشف تفاصيل شبكة سرية من الرحلات الجوية، والأسلحة، والمرتزقة تديرها الإمارات، ففي ميناء بوصاصو بالصومال، تهبط طائرات إماراتية تحمل شحنة “مواد خطرة”، وتغادر ليلًا ضمن عملية تهريب سريّة تنقل السلاح والمقاتلين إلى السودان.

ويعمل اليوم مرتزقة كولومبيون جندتهم شركات خاصة مقرها الإمارات تحت قيادة الدعم السريع في ميادين دارفور، وهذا ليس حربًا بالوكالة عن طريق الخطأ، بل مخطط مدروس، لكن السودان ليس سوى أحدث ساحات الحملة الإماراتية المضادة للثورات.

بدأ تصدير فظائع قوات الدعم السريع من السودان إلى اليمن، حيث قاتل عشرات الآلاف من الجنود السودانيين تحت إمرة الإمارات في حربها على اليمن. ومنذ انطلاق الربيع العربي، شنت الإمارات بقيادة محمد بن زايد حملة مضادة للثورات في العالم العربي حيث موّلت الانقلابات، وسلّحت الميليشيات، وأشعلت الحروب بالوكالة لإجهاض التغيير الديمقراطي.

ففي مصر، موّلت أبو ظبي الانقلاب الذي أوصل عبد الفتاح السيسي إلى الحكم وأعاد قبضة العسكر، وفي تونس، دعمت انقلاب قيس سعيّد عام 2021 وأجهزت على آخر ديمقراطية عربية.

وفي ليبيا، تجاوزت الإمارات الخطوط الحمراء، فقد انتهكت قرارات الأمم المتحدة، وأمدّت خليفة حفتر بالمروحيات والطائرات المسيّرة والصواريخ، لتشعل حربًا جديدة وتُمكّنه من السيطرة على أراضٍ استراتيجية.

وها هو ذات النمط يتكرر الآن في السودان، كما أوضحت تقارير وول ستريت جورنال: شرايين تسليح إماراتية تمد ميليشيا متهمة بالإبادة الجماعية، في نسخة طبق الأصل من “اللعبة الليبية”.

تبيع الإمارات للعرب وهم “الازدهار بلا حرية”، لكن ما تنتجه هذه المعادلة هو التفكك والفوضى وسفك الدماء.

من غزة إلى السودان

أما في غزة، فقد امتزجت الصورة “الإنسانية” بالتخطيط العقابي، حيث تشير الأدلة إلى أن الإمارات متورطة في مشروع الاحتلال لبناء ما يسمى “المدينة الإنسانية” في رفح الشرقية لإيواء نحو 600 ألف فلسطيني، أي معسكر اعتقال مقنّع.

يربط موقع موندووايس هذا المشروع بعملية “الفارس الجَلِيل 3” التي أطلقتها دولة الاحتلال، وبظهور ميليشيا محلية تُدعى “القوات الشعبية” تعمل كذراع شرطية داخل المخيم.

ولخدمة هذا المعتقل المفتوح، بنت الإمارات ست محطات تحلية في مدينة العريش المصرية بطاقة كافية لنحو 600 ألف شخص وهو نفس الرقم الذي تتداوله سلطات الاحتلال ووسائل الإعلام الموالية لها. تُقدَّم هذه المشاريع في الإعلام الإماراتي كـ”مساعدات إنسانية”، لكنها في الحقيقة بنية تحتية لاحتجاز جماعي.

ولم تكتفِ أبوظبي بالسكوت عن الإبادة في غزة بل ساهمت في إبقاء شرايين دولة الاحتلال مفتوحة، فمع تعطّل الملاحة في البحر الأحمر، وفّرت الإمارات طريقًا بريًا بديلاً من الهند إلى ميناء حيفا لتجاوز هجمات الحوثيين.
كما استمرت شركات الطيران الإماراتية في تسيير الرحلات إلى مطار بن غوريون حين أوقفت معظم الشركات العالمية خدماتها، لتصبح شريان الحياة الجوي لدولة الاحتلال.

تحالف أيديولوجي وتجاري

لم تعد العلاقة بين أبوظبي وتل أبيب تقتصر على مجرد التعاون الأمني، بل أصبحت تحالفاً أيديولوجياً واقتصادياً.
تعمل شبكات إعلامية إسرائيلية وإماراتية معًا لتوجيه الرأي العام حول السودان وغزة، فتصوّر جيش السودان كـ”العدو”، وتتجاهل مذابح الدعم السريع. وعلى الصعيد الصناعي، تتوسع شركات الاحتلال داخل الإمارات، فشركة “كونتروب” الإسرائيلية افتتحت فرعًا جديدًا هناك، في مثال جديد على هذا التلاحم الأمني المتزايد. يتغنى حكام الإمارات بـ”نموذجهم التنموي” كقدوة للمنطقة، إنهم يصورونه كنظام سلطوي، معادٍ للسياسة، غارق في الاستهلاك والمظاهر، لكنها حداثة زائفة تخفي آلة قمع، وازدهار مزيّف يقوم على السيطرة والتخويف.

الهيمنة عبر الانقسام

لا تعمل الإمارات بمفردها، فقد غدت الشريك الإقليمي الأهم لدولة الاحتلال في مشروع مشترك لتفتيت المنطقة، وهما معًا، تستثمران في الفوضى: تشعلان الحروب الأهلية، وتسلّحان الميليشيات، وتحوّلان الخراب إلى فرصة.
وبالمال والمرتزقة والدعاية، تُزرع الكراهية بين الطوائف والقبائل، لتتحوّل الأوطان إلى إقطاعيات تتناحر فيما بينها، بينما تظل دولة الاحتلال سيدة المشهد.

والغنائم هنا ليست معنوية فقط، بل مادية أيضًا، فهذا ذهب السودان يتدفق عبر قنوات الدعم السريع والإمارات، ونفط ليبيا وموانئ اليمن تُبتلع باسم “الاستثمار”، بينما تحصد شركات الاحتلال والإمارات الأرباح من موارد منهوبة وشبكات تهريب ازدهرت في ظل الفوضى التي خلقوها.

في النهاية، تبقى الإمارات دولة صغيرة تلعب لعبة الإمبراطوريات، تخوض حروبًا تتجاوز قدراتها وتستجلب عواقب لا تستطيع السيطرة عليها، وبالنسبة لدولة الاحتلال، فإن الهدف هو الهيمنة عبر التقسيم، أما الإمارات، فغايتها قوة مستعارة، ووهم الإمبراطورية عبر التبعية، حيث يرى الطرفان المنطقة كفسيفساء من الكيانات الضعيفة القابلة للتطويع.

ومدفوعة بوهم القوة والثروة، تحولت أبو ظبي من إمارة صغيرة على ضفاف الخليج إلى لاعب متورط في كل حرب من اليمن مروراً بليبيا إلى السودان، لكن الجغرافيا والتاريخ لا يمنحان حصانة لأحد، فالنيران التي أشعلتها الإمارات في السودان وليبيا واليمن ستعود لتحرق أصابعها، فكل من يبني سلطته على اللهب يحترق بها في النهاية.

للاطلاع على المقال الأصلي من (هنا)

مقالات ذات صلة