بقلم ندى عثمان
ترجمة وتحرير نجاح خاطر
ينتاب المسيحيون الفلسطينيون قلق من تعرض مجتمعهم لخطر الإبادة في غزة، حيث تقصف إسرائيل القطاع بشكل متواصل منذ بداية الحرب في السابع من أكتوبر، مزهقةً أرواح أكثر من 20 ألف فلسطيني، معظمهم من الأطفال والنساء، خلال الأشهر الثلاثة الماضية عبر الغارات الجوية الشرسة والعمليات البرية.
وفي عدوانها المتواصل، دمرت الغارات الإسرائيلية الجوية الأبراج السكنية ودور العبادة والمدارس، وقطعت إسرائيل أيضًا جميع إمدادات الوقود والمياه والغذاء والكهرباء عن القطاع المحاصر منذ 9 تشرين الأول / أكتوبر.
وفي ظل تكثيف الهجمات على الكنائس التي يلجأ العديد من المسيحيين إليها فإن المخاوف باتت تساورهم حيال مستقبلهم في غزة.
وعبر همام فرح، وهو مسيحي فلسطيني يعيش في كندا فقد العديد من أقاربه في العدوان الحالي عن هذه المخاوف بقوله: ” نحن من أقدم المجتمعات المسيحية في العالم لكننا نواجه خطر الانقراض”.
وبحسب فرح، فقد كان نحو 3000 مسيحي يقيمون في غزة قبل فرض الحصار الإسرائيلي على القطاع في العام 2007، لكن العدد انخفض إلى حوالي 1000 بسبب مغادرة الكثيرين نظراً للظروف اللاإنسانية الناجمة عن الحصار.
وفوق ذلك كله، فقد انخفض عدد المسيحيين في غزة إلى 800 منذ السابع من أكتوبر وسط مخاوف من مقتل المزيد منهم مع ارتفاع عدد القتلى كل يوم.
وطوال فترة العدوان، لجأ المسيحيون إلى الكنائس بما فيها كنيسة القديس بورفيريوس التاريخية التي تعرضت للقصف في 19 تشرين الأول / أكتوبر.
ويقول فرح أنه فقد العديد من أفراد عائلته في “حملة الإبادة الجماعية” الحالية التي تشنها إسرائيل والتي أجبرت المسيحيين على إخلاء منازلهم والتوجه إلى الكنائس.
ويفصل قائلاً: ” انهار السقف في كنيسة القديس برفيريوس، مما أسفر عن مقتل 18 شخصًا، من بينهم ابن عمي سليمان وعمره 35 سنة، وأصيبت زوجته بجروح خطيرة وكسور في الظهر والورك والفك، وكان لديهما ولدان صغيران شهدا مقتل والدهما تحت الأنقاض”.
أما عمة همام البالغة من العمر84 عاماً، وهي معلمة الموسيقى الشهيرة إلهام فرح، فقد قتلت أيضاً في 12 تشرين الثاني / نوفمبر بعد أن أطلق جندي إسرائيلي النار عليها أثناء محاولتها مغادرة الكنيسة لتفقد منزلها.
ويضيف فرح: ” منذ أيام قليلة فقط، غادرت صديقتان للعائلة، ناهدة أنطون وسمر أنطون وهما أم وابنتها، قاعة كنيسة العائلة المقدسة إلى دير الراهبات الأم تريزا لاستخدام الحمام الوحيد في المجمع، لكن القناصة الإسرائيليين أطلقوا عليهما النار وقتلوهما”.
وحاصرت الدبابات الإسرائيلية كنيسة العائلة المقدسة يومي 16 و17 كانون الأول / ديسمبر، واتخذ القناصة مواقعهم حولها، كما تعرضت جمعية الشبان المسيحية (YMCA) للقصف في 16 كانون الأول / ديسمبر، ما أدى إلى إصابة العشرات، بحسب المرصد الأورومتوسطي.
ويؤكد فرح أن الهجمات المستمرة على الكنائس جعلته “يشعر بالقلق الشديد”، خاصة وأن الدبابات أطلقت النار على الدير الذي كان يُؤوي 54 شخصًا من ذوي الإعاقة.
وتابع: “سمعت أن الدير قد دمر وأن من فيه باتوا بلا أجهزة التنفس التي يحتاجونها للبقاء على قيد الحياة”، مشيراً إلى أن الجيش دمر أيضًا خزانات المياه والمولد الكهربائي وأن عائلته اضطرت إلى تقنين استخدامها للطعام والماء.
“القضاء علينا واحداً تلو الآخر”
وقال ريان الناطور، وهو فلسطيني مسيحي من أستراليا، إن الهجمات الحالية “تهدف إلى محو جميع الفلسطينيين من قطاع غزة”، وسيكون لذلك “تأثير وخيم” على المجتمع المسيحي هناك.
وأضاف ” المسيحيون في جميع أنحاء غزة يدركون كذب الرواية التي ترويها إسرائيل للعالم بينما يتضورون جوعاً ويقصفون من قبل جيش الإبادة الجماعية”.
وفي وقت سابق من هذا الشهر، تم الإعلان عن عدم إضاءة أنوار عيد الميلاد في بيت لحم، وإلغاء المسيرات الاحتفالية في القدس، ووقف الاحتفالات في الأردن بسبب القصف الإسرائيلي على غزة، كما اتخذ العديد من فلسطينيي الشتات قرارًا بالامتناع عن الاحتفال هذا العام.
“تدّعي دولة الفصل العنصري أمام العالم أن لديها جيشا أخلاقيا ومن المفترض أنه يساعد المسيحيين في غزة لكنها تقوم بالقضاء علينا واحداً تلو الآخر” – ريان الناطور، مسيحي فلسطيني
كما عبر الفلسطينيون المسيحيون عن قلقهم وغضبهم من تصريحات المسؤولين والسياسيين الإسرائيليين بشأن الوجود المسيحي في غزة، حيث قال سياسي إسرائيلي أنه ” لا يوجد مسيحيون في غزة”.
ويصف الناطور هذه التصريحات بأنها “عنصرية ومثيرة للشفقة”، إلا أنه وفي ذات الوقت لا يراها مفاجئة، قائلاً: ” تحاول إسرائيل منذ عام 1948 تقسيم الفلسطينيين على أساس تنوعنا الديني، كأسلوب نموذجي في المشاريع الاستعمارية الاستيطانية التي تهدف إلى تقسيم السكان الأصليين وقهرهم”.
وأضاف: ” لطالما أخبرنا الصهاينة أننا إما غير موجودين أو أن إخوتنا المسلمين يشكلون تهديدًا لنا بينما كانوا هم، الصهاينة، من يقيدون حركتنا ويسرقون أراضينا ويسجنوننا ويعذبوننا”.
ومضى يقول: ” لا أحد من الذين أعرفهم في الشتات الفلسطيني يعيش حياة طبيعية هذه الأيام، لقد تم إلغاء عيد الميلاد، ونحن بالكاد ننام، ونشعر بالذنب بسبب تناولنا الطعام أو شرب الماء، فكيف نتوقع أن نتعافى من هذا؟”
“الكنائس سوف تختفي من الوجود”
بدورها تقول سالي ضبيط عصفور، وهي مسيحية فلسطينية مقيمة في الشتات ولها عائلة في غزة أن جميع المسيحيين هناك يتوزعون الآن في كنيستين محاولين البقاء بعيدًا عن النيران الإسرائيلية.
وأضافت: ” بالتأكيد نحن قلقون بشأن التطهير العرقي للمسيحيين في غزة، فهم حراس الكنيسة وبدونهم ستختفي كنائسنا من الوجود”.
وبحسب عصفور فإن الوجود التاريخي للمسيحيين في غزة مهم، وتقول أن التهديد بالقضاء عليهم وعلى أماكن عبادتهم أصبح الآن حقيقيًا للغاية.
وأشارت إلى أن ” تاريخ المسيحيين في فلسطين يرجع إلى زمن المسيح وتلاميذه، إنهم الأشخاص الذين رأوا المسيح وآمنوا به وكانوا السبب في انتشار المسيحية في العالم، لكنهم اليوم باتوا أقليات داخل فلسطين، وبدون وجودنا لن تكون كنائسنا موجودة”.
مسقط رأس المسيحية
وللمسيحيين الفلسطينيين ارتباط خاص بأرضهم، باعتبار المنطقة مهد عقيدتهم وموقع العديد من أحداث العهدين القديم والجديد من الكتاب المقدس.
وتعد غزة على وجه الخصوص موطنًا للعديد من المواقع المهمة في المسيحية، حيث يُشار إلى المنطقة بالاسم في العهد الجديد في أعمال الرسل 8، والتي تشير إلى فيلبس الإنجيلي الذي يعمد رجلاً من الحبشة على الطريق بين القدس وغزة.
وتعد كنيسة القديس برفيريوس من أهم المواقع الدينية في فلسطين، وسميت على اسم أحد أساقفة القرن الخامس، ويعتبر الموقع أحد أقدم أماكن العبادة الباقية في المنطقة وواحدة من أقدم الكنائس في العالم.
أما دير تل أم عامر القريب منها فهو الموقع المسيحي الرئيسي الأقدم في غزة ويعود تاريخه إلى القرن الرابع وكان يضم كنائس وقاعة معمودية ومقبرة وسردابًا، أصبحت جميعها الآن في حالة خراب.
بدأ التحول الجماعي إلى المسيحية في غزة في القرن الخامس تحت رعاية الإمبراطورية البيزنطية التي ورثت الإمبراطورية الرومانية الشرقية، ولم يمض وقت طويل قبل أن يهيمن الإسلام كدين جديد في المنطقة بحلول نهاية القرن السادس.
ولم يواجه المسيحيون في غزة عزل إسرائيل لهم عن المجتمعات المسيحية الأكبر في الضفة الغربية المحتلة وفي القدس فحسب، بل تعرضوا أيضًا لتدمير أراضيهم ومواردهم.
وقال الناطور: “مثل إخوتنا المسلمين، يستحق المسيحيون الفلسطينيون أن يكونوا في كل أنحاء فلسطين، لأننا جئنا من الأرض الواقعة بين نهر الأردن والبحر الأبيض المتوسط”.
وأضاف: ” كنا المسيحيين الأوائل، والآن هناك مجموعة من الناس جاءوا من كل أنحاء العالم ليدعوا أنهم السكان الأصليين وليدنسوا الأرض المقدسة، أنا أدرك أن السكان الأصليين الحقيقيين يعتنون بالأراضي التي جاءوا منها، ولا يلقون أسلحة الدمار الشامل عليها”.
التاريخ المشترك في ظل الاحتلال
وعلى الرغم من الادعاءات الإسرائيلية بأن المسلمين يضطهدون المسيحيين في غزة منذ عقود، إلا أن الكثيرين يصفون التعايش بينهم بالسلمي، قائلين أن أي ادعاءات من هذا القبيل هي محاولة لإثارة الانقسامات.
وتقول عصفور: ” عندما قُتل زوج قريبتها على يد مجموعة من الأفراد لأنه كان مسيحياً، كان المسلمون أول من وقف إلى جانب قريبتها، إن فكرة إخراجنا من أرضنا حقيقية، لكن ليس نحن فقط، بل نحن والمسلمون”.
” لا تختلف الطريقة التي تعاملنا بها إسرائيل في غزة عن تلك المتبعة في الضفة الغربية، فالمستوطنون غير الشرعيين هناك يبصقون على راهباتنا والجنود يعتقلون كهنتنا” – همام فرح، مسيحي فلسطيني
ووفقا لعصفور، فإن الكثيرين يضطرون إلى مغادرة غزة بسبب الاحتلال، ولكن يمكن رصد الأمر بشكل أوضح في صفوف المسيحيين لأنهم أقلية.
وأضافت: “القول بعدم وجود كنائس في غزة هو ببساطة محاولة إسرائيلية لبث دعايتها للتغطية على مقتلها لسيدتين داخل الكنيسة”، في إشارة إلى الجيش الإسرائيلي الذي قتل امرأتين بالرصاص في 17 كانون الأول/ ديسمبر.
ويوافق الناطور على ذلك، قائلاً إنه قبل نكبة عام 1948، عندما تم طرد أكثر من 700 ألف فلسطيني قسراً من منازلهم على يد الميليشيات الصهيونية، كان المسيحيون على علاقة جيدة مع المسلمين واليهود.
وختم: “دمرت الصهيونية قدرتنا على العيش في الأرض المقدسة، لقد غادرت غالبيتنا بعد عام 1948، وهو الوقت الذي قام فيه المشروع الصهيوني بتطهيرنا عرقيًا”.
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)