بقلم إلياس بن عمّار وصابر عمّار
ترجمة وتحرير نجاح خاطر
يجري الترويج في الآونة الأخيرة لخطٍ كهربائي جديد يربط بين تونس وإيطاليا باعتباره خطوة نحو طاقة نظيفة ونظام كهربائي متين عبر المتوسط، لكن قراءة دقيقة تكشف أن هذا المشروع، الذي يُقدَّم كإنجاز بيئي، يحمل في طياته أعباء مالية إضافية على تونس، ويُضعف الرقابة العامة، ويرسّخ تبعية متزايدة للطاقة الأجنبية.
بمعنى آخر، نحن أمام نموذج صارخ لـ”الغسيل الأخضر” الذي يجمّل سياساتٍ تعمق الخلل بدل إصلاحه.
أزمة متفاقمة.. واستيراد يتوسع
تعيش تونس أزمة طاقة خانقة، فبعد أن كانت شبه مكتفية ذاتيًا، باتت اليوم تنتج أقل من نصف احتياجاتها، حيث إن أكثر من 95% من الكهرباء في البلاد يُولّد من الغاز الطبيعي، بينما يتم استيراد ثلثيه من الجزائر، والأسوأ أن تونس باتت تستورد جزءًا متزايدًا من الكهرباء نفسه.
ففي عام 2023، جرى تلبية 11% من الطلب المحلي على الكهرباء عبر الاستيراد، في مؤشر واضح على تفاقم التبعية البنيوية واستنزاف المالية العمومية.
وبدلاً من مراجعة هذا النموذج المختل، اختارت الحكومة التونسية تعميقه، عبر الاقتراض من المؤسسات المالية الدولية، وفتح قطاع الطاقة أمام الخصخصة، والانخراط في أجندة الاتحاد الأوروبي الخاصة بإزالة الكربون.
في قلب هذه المقاربة يقع مشروع “إلمِد” (Elmed) للربط الكهربائي بين تونس وإيطاليا، وهو كابل بحري بطول 200 كيلومتر يُسوَّق بوصفه علامة فارقة في التعاون المتوسطي.
استعمارٌ أخضر بواجهة جديدة
يُقدَّم مشروع إلمِد رسميًا كصفقة “رابحة للجميع”، وخطوة نحو منظومة طاقة أنظف وأكثر ترابطًا، لكن الواقع، كما تكشف دراسة حديثة، مختلف تمامًا.
فالمشروع صُمّم في جوهره لخدمة الأولويات الأوروبية على حساب المصلحة التونسية، وبالنسبة لتونس، يعني ذلك مديونية جديدة وأعباءً مالية إضافية على الشركة التونسية للكهرباء والغاز (ستاغ)، التي سيتعين عليها الاقتراض بالعملة الصعبة لتمويل حصتها في المشروع.
أما الخطاب المزين بالحديث عن “الشراكة”، فيخفي نمطًا مألوفًا من “الاستعمار الأخضر” المتمثل في تحقيق أوروبا لأهدافها المناخية على حساب سيادة الجنوب، فالمشروع مُموَّل أساسًا بقروض أوروبية ومن البنك الدولي، ويُنفَّذ بالشراكة بين “ستاغ” والجهة الإيطالية “تيرنا”.
وفي سبتمبر/ أيلول 2025، منحت الشركتان عقدًا بقيمة 460 مليون يورو لشركة “برايسميان” الإيطالية لإنشاء الكابل البحري، ضمن مشروع تبلغ كلفته الإجمالية 1.16 مليار يورو.
بالنسبة لتونس، هذا يعني ديونًا إضافية بالعملة الصعبة وضغوطًا مالية متزايدة، وبالنسبة لرأس المال الإيطالي والأوروبي، فهذا يعني عقودًا مضمونة وأرباحًا طويلة الأمد وسيطرة على ممر طاقي استراتيجي، وهو ما يشير مرة أخرى، إلى استخدام ديون الجنوب لتمويل أرباح الشمال.
تعميق التبعية بدل تفكيكها
من غير المتوقع أن يخفف مشروع إلمِد أزمة الطاقة في تونس، بل قد يفاقمها، إذ سيزيد من مديونية “ستاغ” بنسبة لا تقل عن 15%، ويُلزم تونس بشراء كهرباء مسعّرة باليورو، ما يجعلها رهينة تقلبات السوق الأوروبية.
وتقدّر الدراسة أن المشروع قد يكلّف تونس 220 مليون يورو من العملة الصعبة خلال العقد الأول من تشغيله.
في المقابل، تتعرض “ستاغ” – التي كانت يومًا عمود الطاقة الوطني – لعملية تهميش متسارعة، فمن المتوقع أن تنخفض حصتها من الإنتاج الكهربائي من 88% عام 2023 إلى 36% فقط بحلول 2030، لتتحول من منتج إلى وسيط بين الشركات الخاصة والمستهلكين.
وهكذا، تُستبدل “الانتقال الطاقي” الموعود بانتقال من ملكية عامة إلى هيمنة شركات خاصة، ومن السيادة الطاقية إلى الخضوع الطاقي.
المشروع صُمّم أساسًا لتصدير الكهرباء من تونس نحو إيطاليا، لكنه بات الآن يسمح بتدفق الكهرباء في الاتجاهين، ما يمكّن إيطاليا من التخلص من فائض إنتاجها من الطاقة المتجددة بإرساله إلى تونس.
ورغم أن المدافعين عن المشروع يعدون التونسيين بطاقة أنظف واستقرار أكبر وأسعار أقل، إلا أن الواقع يشير إلى احتمال استبدال التبعية للغاز الجزائري بتبعية للكهرباء الأوروبية، مما يجعل أوروبا تضمن الوصول إلى طاقة نظيفة، بينما تُترك تونس مع المديونية المتصاعدة وتراجع القدرة الإنتاجية.
كما أن أغلب امتيازات الطاقة المتجددة في تونس ذهبت لشركات أوروبية، بينما ظلت المشاريع المحلية متعثرة، وهكذا يعيد “الانتقال الأخضر” إنتاج المنطق الاستخراجي نفسه الذي حكم الاقتصاد الأحفوري، لكن بلونٍ أخضر.
وبحسب “الائتلاف من أجل ديمقراطية الطاقة”، فإن مشروع إلمِد يجسد “فصلًا جديدًا من قصة تبادل غير متكافئ”: أوروبا تُصدّر كلفة إزالة الكربون، وتستورد الفوائد، بينما يُلقى على الجنوب مخاطر الديون وعدم الاستقرار.
بديلٌ سيادي.. لا عزلة ولا خضوع
رفض إلمِد لا يعني رفض الربط الكهربائي الدولي بالمطلق، فالربط السابق بين تونس والجزائر مثلًا قام على مبدأ الدعم المتبادل واستقرار الشبكات، وليس على الربح أو التصدير، لكنه اليوم بات بدوره غير متوازن، بعدما أصبحت تونس تعتمد بشكل كبير على الواردات الجزائرية، وهو مثال حي على مآلات الشراكات حين تفقد توازنها.
إن انتقالًا طاقيًا عادلًا وديمقراطيًا في تونس يجب أن ينطلق من الملكية العامة، والتضامن الإقليمي، وربط السياسات بالاحتياجات الوطنية.
ويقترح “الائتلاف من أجل ديمقراطية الطاقة” خطوات عملية، منها: تعديل قانون الطاقة المتجددة لسنة 2015 لضمان عدم تصدير الكهرباء إلا عند وجود فائض حقيقي تديره حصريًا “ستاغ”، ووضع خطة وطنية لإنتاج الكهرباء قائمة على الطلب المحلي والموارد المستدامة، لا على التزامات التصدير، بالإضافة إلى تعزيز الدور العام لـ”ستاغ” وتمكينها ماليًا لتقود مشاريع الطاقة المتجددة بدل تهميشها لصالح الشركات الخاصة.
ويمكن أيضًا إعادة توجيه القروض المخصصة لإلمِد نحو استثمارات عامة في الطاقة الشمسية والمائية، فالمبلغ المقترض للمشروع – 390 مليون يورو – كان بإمكانه تمويل مشروع شمسي بقدرة 600 ميغاواط يلبي الاحتياجات المحلية ويوفر وظائف ويقلص الاعتماد على الوقود الأحفوري.
كما تستطيع تونس الاستفادة من تجارب دول شمالية دافعت بقوة عن سيادتها الطاقية، فقد ألغت النرويج مشروع ربط كهربائي مع اسكتلندا سنة 2023 لحماية أمنها الطاقي واستقرار الأسعار، وفعلت السويد الشيء نفسه سنة 2024 حين رفضت ربطًا مع ألمانيا من أجل حماية مصالحها الوطنية وسيادتها على شبكتها.
إذا كانت هذه الدول الغنية ترفض مشاريع تهدد استقلالها الطاقي، فلماذا يُطلب من تونس قبول مشروع يقوض استقلالها؟
الأمر يتجاوز كابلًا بحريًا
إلمِد ليس مجرد مشروع بنية تحتية، بل خيار سياسي يعيد إنتاج نموذج يُبقي تونس على هامش النظام الاقتصادي، مدينةً تابعة، تخدم “النمو الأخضر” الأوروبي.
لكن هناك طريق آخر، إذ يمكن لتونس أن تبني مستقبلًا طاقيًا يقوم على العدالة والديمقراطية والسيادة، حيث تكون الأولوية لحاجات الناس لا لأرباح الشركات، وللملكية العامة لا للخصخصة، وللتعاون المتوازن لا الخضوع.
فالجوهر الحقيقي للسؤال ليس: هل يجب على تونس أن ترتبط كهربائيًا بأوروبا؟
بل: على أي أسس؟ ولصالح من؟
للاطلاع على المقال الأصلي من (هنا)







