المقلوبة والفتة “المزيفة” في غزة الجائعة… من طبق وليمة إلى وسيلة للبقاء!

بقلم مها الحسيني

ترجمة وتحرير مريم الحمد

بجانب موقد الحطب الذي صنعته في الفصل الدراسي الذي أصبح بمثابة منزل لها، تقوم أم كمال عبيد بإطعام حفيدها كريم البالغ من العمر سنة واحدة بطبق بسيط مكون من خبز منقوع في الشاي!

بالنسبة للفلسطينيين في غزة، فقد أصبح هذا الطعام البسيط من الخبز والشاي بمثابة شريان حياة، فهذه الوجبة المتواضعة، المعروفة محلياً باسم فتة الشاي، ترتبط منذ فترة طويلة بأحلك الأوقات في غزة مثل الهجمات الإسرائيلية والحصار الطويل الأمد.

اليوم ومع استنفاد الأرز والحبوب والأغذية المعلبة في ظل الحصار الإسرائيلي الشامل المستمر، فإن هذا هو كل ما تبقى لعائلة عبيد لتعيش عليه.

في حديثه لميدل إيست آي، يقول والد كريم، كمال عبيد البالغ من العمر 32 عاماً:  “لا أتذكر بالضبط متى كانت المرة الأولى التي تناولت فيها فتة شاي، لكنني كنت في 14 من عمري في ذلك الوقت خلال السنوات الأولى للحصار وحرب 2008-2009”.

من المتوقع أن يواجه حوالي 2.1 مليون شخص في جميع أنحاء قطاع غزة مستويات عالية من انعدام الأمن الغذائي الحاد بين شهري مايو وسبتمبر التصنيف المتكامل لمراحل الأمن الغذائي

وأضاف: “في ذلك الوقت، لم يكن لدينا ما نأكله، لذلك كنا نعيش على الشاي وقطع الخبز الجافة التي وجدناها، وحتى اليوم، لا تزال تصنعها أمي لنا ولأطفالي، ففي هذه الأيام، بتنا نعتمد عليها أكثر من أي وقت مضى بعد نفاد الأطعمة المعلبة لدينا، فلدينا إما فتة شاي أو مناقيش”.

منذ بداية حربها على غزة، أغلقت إسرائيل حدود القطاع وفرضت قيوداً مشددة على دخول البضائع والغذاء والدواء والوقود، وفي 2 مارس الماضي، فرضت إسرائيل حصاراً كاملاً ومنعت دخول جميع الإمدادات المنقذة للحياة بشكل كامل.

في الوقت نفسه، أطلقت القوات الإسرائيلية النار على الصيادين والمزارعين الفلسطينيين الذين كانوا يحاولون الوصول إلى ما تبقى من مصادر الغذاء المدمرة في القطاع، مما أدى إلى استشهاد وجرح العشرات.

لقد وصل سكان غزة البالغ عددهم حوالي 2.3 مليون نسمة إلى ما وصفته الأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية بأنه مجاعة “من صنع الإنسان”، فقد أودت المجاعة بحياة العشرات من المدنيين وخاصة الأطفال والمسنين.

وجبات الحرب

كلما أعلنت إسرائيل عن حصار، سارعت أم كمال إلى تخزين الضروريات الأساسية من المعلبات والحبوب ودقيق القمح وكميات كبيرة من الشاي.

تقول أم كمال عبيد لموقع ميدل إيست آي: “في الأوقات العادية، نحب الشاي كثيراً لدرجة أننا نشربه ليلاً ونهاراً، ولكن في أوقات الندرة، يصبح الشاي مصدراً للتغذية عندما نشعر بالجوع ومصدراً للراحة عندما نشعر بالقلق وبديلاً للقهوة عندما نعاني من الخمول”.

تتذكر أم كمال وتقول: “خلال الحصار المفروض على شمال غزة في السنة الأولى من هذه الحرب، كنا نحضر الشاي 7-8 مرات في اليوم، ولم يكن لدينا أي شيء آخر نأكله أو نشربه، فعندما يحل الظلام وتبدأ المدينة بالاهتزاز جراء القنابل، كنا نتجمع حول الحطب ونشرب الشاي ونعد فتة الشاي لأطفالنا لإلهاء أنفسنا”.

مع تضاؤل ​​الإمدادات مرة أخرى، فقد أصبح الحليب وحليب الأطفال من بين أهم الأساسيات التي اختفت، خاصة بعد أن أعلنت الأمم المتحدة ووكالات الإغاثة الأخرى أنها سوف تعلق عمليات التوزيع بسبب استنفاد المستودعات، وبدون تغذية الرضع،اضطرت الأسر لإطعام أطفالها الصغار فتة الشاي.

“قبل الحرب، كنا نعد الفتة كل يوم جمعة، وكان العنصر الرئيسي دائماً هو اللحوم، لكننا لم نرَ اللحوم منذ أشهر، لذلك كان علينا الارتجال وإعادة إعداد أطباقنا الغزية المألوفة بكل ما يمكننا العثور عليه” أم محمد نشوان من غزة 

تقول أم كمال: “يبلغ عمر هذا الطفل سنة واحدة فقط، وهي مرحلة حاسمة من النمو، فهو يحتاج إلى الحليب الغني بالفيتامينات لينمو بشكل سليم خاصة عندما لا تتوفر اللحوم أو الخضار أو الفاكهة، ومع ذلك، فنحن مضطرون لإطعامه الشاي مع الخبز، نعلم أنه من المضر للطفل في هذا العمر تناول الشاي أو أي مادة تحتوي على الكافيين، ولكن عندما يصرخ من الجوع، تختفي الخيارات، فإما نتركه يتضور جوعاً أو نحاول إبقاءه على قيد الحياة حتى لو كان ذلك يؤثر على صحته”.

وفقاً للتصنيف المتكامل لمراحل الأمن الغذائي، فمن المتوقع أن يواجه حوالي 2.1 مليون شخص في جميع أنحاء قطاع غزة مستويات عالية من انعدام الأمن الغذائي الحاد بين شهري مايو وسبتمبر، ويشمل ذلك ما يقرب من 469.500 شخص من المتوقع أن يواجهوا انعدام الأمن الغذائي الكارثي.

وتمثل التوقعات الحالية تدهوراً كبيراً مقارنة بتحليل التصنيف المتكامل للبراءات في أكتوبر عام 2024، مما يشير إلى تصاعد كبير في ما يعد واحدة من أشد أزمات الغذاء والتغذية في العالم!

وفقاً للمكتب الإعلامي الحكومي في غزة، فحتى شهر إبريل الماضي، تم إدخال أكثر من 65.000 طفل في غزة إلى المستشفيات بسبب سوء التغذية الحاد، من بين ما يقدر بنحو 1.1 مليون طفل يواجهون الجوع يومياً.

أطباق “مزيفة”

ترى أم محمد نشوان، أن فتة الشاي ليست مجرد وسيلة لإطعام أطفالها، فهي تحل محل الفتة الغزية الأصلية، وهو طبق تقليدي مصنوع من الخبز المنقوع في مرق اللحم أو الدجاج ويقدم مع كميات كبيرة من اللحم والأرز الأبيض.

تقول أم محمد لموقع ميدل إيست آي: “رغم وجود فرق كبير بين الاثنين، إلا أنني غالباً ما أقوم بإعداد فتة الشاي لأطفالي عندما يطلبون الفتة التقليدية، فليس لدي سوى الماء والخبز لأعمل بهما”.

في أحيان أخرى، تقوم ببساطة بغلي الماء وإضافة قليل من الملح والفلفل ونقع الخبز فيه وتقديمه لأطفالها، حيث تقول: “قبل الحرب، كنا نعد الفتة كل يوم جمعة، وكان العنصر الرئيسي دائماً هو اللحوم، لكننا لم نرَ اللحوم منذ أشهر، لذلك كان علينا الارتجال وإعادة إعداد أطباقنا الغزية المألوفة بكل ما يمكننا العثور عليه”.

أضافت وهي تضحك: “هذا الطبق يسمى الفتة المزيفة، فنحن نسمي أي طبق نعده دون مكوناته الأساسية مزيفاً”، حيث ينطبق هذا على المقلوبة أيضاً، التي عادةً ما تحتوي على طبقات من الأرز واللحوم والخضروات مثل الباذنجان والقرنبيط والبطاطس.

وفي ظل الحصار والقصف، واصلت بعض العائلات طبخ المقلوبة لكن معتمدة على ما يوجد من المكونات هذه المرة، فتقول أم محمد: “خلال الحرب، لم يكن لدينا أي من مكونات المقلوبة الرئيسية باستثناء الأرز والفلفل، لذلك قمنا بإعداد ما نسميه المقلوبة المزيفة وهي المصنوعة بدون اللحوم والخضروات الأساسية”.

عندما رفعت إسرائيل الحصار لفترة وجيزة وجزئية خلال وقف إطلاق النار في يناير الماضي، تم السماح بدخول كميات محدودة من اللحوم والخضروات من بين سلع أخرى.

عندها، قررت أم محمد إعداد مقلوبة، وقد كانت الأولى منذ عام لعائلتها، فتقول: “سألني ابني البالغ من العمر 7 سنوات عما أطبخه، وعندما أخبرته أنها مقلوبة، قال (آمل ألا تكون مزيفة هذه المرة)، قد يبدو الأمر مضحكاً لكنه مؤلم، فأطفالنا يتوقون إلى وجبة واحدة ذات رائحة وطعم طيبين”.

مقالات ذات صلة