بقلم إميل بادارين
ترجمة وتحرير مريم الحمد
لا تتوقف الدهشة عند كيفية استنفاذ إسرائيل وحلفائها لكل أنواع الدعاية والأكاذيب تقريباً، في محاولة تصوير الإبادة الجماعية في غزة باعتبارها حرباً “عادلة” تهدف إلى الدفاع عن النفس، والأعجب من لك ثقتهم بأنهم سوف يتمكنون من خداع الرأي العام العالمي مراراً وتكراراً!
يبدو أن الهدف الرئيسي وراء كل تلك البروباغندا الكاذبة هو “شراء الوقت” لتدمير غزة، كما صرح رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو في أكتوبر 2023، فالهسبارا الإسرائيلية فعلياً تقتبس من الخطاب الاستعماري الأوروبي الأمريكي الذي تم اختباره وتطبيقه لتجريد الفلسطينيين من إنسانيتهم.
لطالما قدمت شخصيات سياسية وعسكرية وفكرية وإعلامية إسرائيلية رفيعة المستوى الفلسطينيين على أنهم “حيوانات بشرية” و”أبناء ظلام” ومتوحشون وغير متحضرين وإرهابيون وقاطعو رؤوس ومفترسون جنسيين بل ونازيون جدد! وكل ذلك لتصوير الإبادة الجماعية باعتبارها مشروعة ومبررة بحجة “الدفاع عن النفس”.
لقد ذهبت المؤسسة الليبرالية الغربية ووسائل الإعلام الغربية لأبعد من ذلك في تبني هذا الخطاب من خلال سياقات محو فلسطين وطرد الفلسطينيين، ومثال ذلك ما كتبته صحيفة نيويورك تايمز.
تتشابك فلسطين مع النضال الأوسع ضد الهياكل الاستعمارية التي رخصت وحرضت الاستغلال والعنف القضائي ضد الدول المستعمرة
خلال الأسابيع الأولى من الهجوم على غزة، عمل القادة السياسيون الغربيون كمشجعين، مما أتاح لإسرائيل المزيد من الوقت لتتمكن بالفعل من إخضاع 2.3 مليون فلسطيني لحصار وقتل ومجاعة غير مسبوقة!
قمع المعارضة
لقد أدى تكشف بشاعة الإبادة الجماعية في غزة مع مرور الوقت إلى فقدان الحملة الدعائية الكاذبة تأثيرها، وعند ذلك لجأت إسرائيل ومؤيدوها إلى قمع أي أصوات معارضة.
بداية، لجأت إسرائيل إلى الأساليب المادية، حيث قتلت أكثر من 100 صحفي وأفراد عائلاتهم منذ 7 أكتوبر، كما أوقفت قناة الجزيرة عن العمل، في محاولة لإعاقة نقل الحقيقة.
أما الحكومات والمؤسسات الغربية الليبرالية، فقد استخدمت في البداية تكتيكات ناعمة لقمع المعارضة، بما في ذلك الرقابة والاستبعاد من وسائل الإعلام الرئيسية وتشويه السمعة واغتيال الشخصيات، ثم ما لبثت أن تحولت أساليب القمع إلى الجسدي بعد الاحتجاجات الطلابية التي نجحت في اختراق القاعدة الفكرية للمجتمع.
تم القبض على الآلاف من طلاب الجامعات والكليات وأعضاء هيئة التدريس والاعتداء عليهم من قبل الشرطة وعناصر الأمن الأخرى، حتى ذهبت بعض دول الاتحاد الأوروبي إلى حد منع الأكاديميين من التعبير عن معارضتهم.
لقد تم الاستشهاد بمعاداة السامية لتبرير حملة القمع الجسدي على المعارضة في الغرب، حيث كثفت إسرائيل والحكومات الغربية المتحالفة معها ووسائل الإعلام الكبرى جهودها لتسليط الضوء على التشابه المزيف بين معاداة الصهيونية ومعاداة السامية.
لقد وصل الأمر إلى حد استخدام الولايات المتحدة والعديد من الدول الأوروبية، بما في ذلك المملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا، كلاً من الأدوات القضائية وغير القضائية التي تم تطويرها منذ إصدار ما يعرف بتعريف التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست عام 2016، والذي تم استخدامه كسلاح مبرر للقمع، خاصة بين طلاب الجامعات وأعضاء هيئة التدريس.
أسس استعمارية
لا شك أن التقارب المزيف بين معاداة السامية ومعاداة الصهيونية يقلب الأمور رأساً على عقب، فهو لا يمنع المعارضة وحرية التعبير والتجمع والحرية الأكاديمية فحسب، بل ويعتبر النضال والاحتجاج ضد القمع الاستعماري الاستيطاني والفصل العنصري والإبادة الجماعية تعبيرات عن العنصرية وخطاب الكراهية ضد جميع اليهود.
ينطوي هذا التكافؤ بين المصطلحين على مفارقة تاريخية غير منطقية، خاصة في ربط جميع اليهود بإسرائيل والصهيونية وهو ما يعد بحد ذاته تعميماً معادٍ للسامية، فهناك يهود مرتبطون بإسرائيل أو الصهيونية أو يريدون الارتباط بها، يقابلهم الكثير من اليهود المناهضين للصهيونية.
تجدر الإشارة إلى أنه في عام 1917، عارض العضو اليهودي الوحيد في الحكومة البريطانية آنذاك، إدوين مونتاجو، بقوة تأصيل الصهيونية على أسس لاهوتية وسياسية، بشكل يجعل منها معرفة أساسية يمكن أن يتم الاسترشاد بها في تطوير ممارسات تساهم في تبرير القمع.
هذا ما يجعل فلسطين أكثر من مجرد نضال إقليمي من أجل العدالة والحرية، حيث تتشابك فلسطين مع النضال الأوسع ضد الهياكل الاستعمارية التي رخصت وحرضت الاستغلال والعنف القضائي ضد الدول المستعمرة، سواء في الجنوب العالمي أو حتى في الشمال العالمي على مدى عقود مضت.
استخدام القوة البدنية لقمع المعارضة من المرجح أن يتصاعد في الديمقراطيات الغربية الليبرالية، فما نشهده من قمع وتقييد ما هو إلا مجرد البداية
من هذا المنظر، يشكل الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي لفلسطين جزءاً لا يتجزأ من هذه الهياكل الاستعمارية، فإسرائيل لا تستخدم التكنولوجيا والأسلحة الغربية للقتل فحسب، بل تستخدم أيضاً نفس المعرفة والعقل والأخلاق لتبرير ذلك القتل.
منعطف عالمي
إن السعي الفلسطيني من أجل الحرية يحيي بقوة الوعي لدى المضطهدين في جميع أنحاء العالم، فالقضية الفلسطينية تساهم في استحضار ذكريات الاستغلال والسلب والإذلال والعبودية والفصل العنصري والتفوق الأبيض والإبادة الجماعية التي ارتكبتها القوى الاستعمارية الأوروبية الأمريكية.
من ناحية أخرى، فقد تم تبرير الجرائم الاستعمارية وتبريرها على أنها ممارسات أخلاقية وحروب عادلة!
بالنسبة لجنوب الكرة الأرضية ومجتمعات السكان الأصليين في الشمال العالمي، ومنها السويد والنرويج، فإن مثل هذا الخطاب والممارسات العنصرية والاستعمارية تعد بمثابة تذكير بتجاربهم الماضية حين عانوا من القمع الليبرالي والاستعمار، كما وصفتها وزيرة العلاقات الدولية والتعاون في جنوب أفريقيا، ناليدي باندور.
في مثال آخر، فقد رأى رئيس ناميبيا، نانجولو مبومبا، الفظائع التي ارتكبتها ألمانيا في إفريقيا، وخاصة الإبادة الجماعية لشعبي الهيريرو والناما بين عامي 1904 و1908، من خلال عدسة غزة.
لم ولن يوقف الدعم الغربي لإكساب إسرائيل المزيد من الوقت لتنفيذ المزيد من الإبادة والدمار في غزة، النضال من أجل تحويل فلسطين من إلى مكان للإنسانية، حيث تسود الحرية والعدالة للجميع من النهر إلى البحر
لقد أعاد النضال الفلسطيني تنشيط ذاكرتنا وحماسنا نحو الميتافيزيقا والثقافات والتقاليد والتاريخ والمعرفة واللغات والروحانيات، وهي عناصر إما قمعتها أوروبا الاستعمارية أو أغلقتها أو دمرتها، الأمر الذي يخلق مسارات جديدة للتفكير في إنهاء الاستعمار والتحرر من أغلال النماذج الاستعمارية.
الحقيقة أن صحوة الوعي هذه تتكشف في الوقت الذي يتشكل فيه منعطف عالمي مع انحسار الهيمنة الغربية في مجالات القوة والاقتصاد والمعرفة.
يذكر أن الهيمنة الغربية لطالما اعتمدت على القوة الغاشمة، فقد اعتمدت الهيمنة الأوروبية الأمريكية على القوة الناعمة، وآخر أشكال ذلك ما يسمى النظام الدولي القائم على القواعد، ولكن صعود دول البريكس، مثل البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا، كان بمثابة نهاية للهيمنة العالمية الغربية.
من ناحية أخرى، فقد كان التواطؤ الأوروبي الأمريكي في الإبادة الجماعية في غزة سبباً في تحطيم قوتها، حيث أن هذا التواطؤ تأصل في سلطة الدولة الرسمية والمؤسسات المرتبطة بالهيئات التي تدعم هذه السلطة، مثل وسائل الإعلام للشركات، وإدارات الجامعات، ونخبة المجتمع.
مجرد البداية
على مدى قرون، كدست القوى الأوروبية الأمريكية امتيازات هائلة على حساب الشعوب المستعمرة والمضطهدة والعنصرية في مختلف أنحاء العالم، ولذلك فإن فقدان تلك الامتيازات سوف يؤدي إلى الارتباك والانهيار العقلي لدى القوى الغربية!
من هنا، نستنتج أن استخدام القوة البدنية لقمع المعارضة من المرجح أن يتصاعد في الديمقراطيات الغربية الليبرالية، فما نشهده من قمع وتقييد ما هو إلا مجرد البداية.
إن الصمود الفلسطيني في مواجهة حرب الإبادة الجماعية خلال الأشهر الثمانية الماضية قد أعاد وضع القضية الأخلاقية والعادلة الفلسطينية في قلب النضال الأخلاقي، مبتعداً عن الأيديولوجيات الثابتة وذلك ما أظهرته الأجيال الشابة في الجامعات.
لم ولن يوقف الدعم الغربي لإكساب إسرائيل المزيد من الوقت لتنفيذ المزيد من الإبادة والدمار في غزة، النضال من أجل تحويل فلسطين من إلى مكان للإنسانية، حيث تسود الحرية والعدالة للجميع من النهر إلى البحر.
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)